وبعد أن هدأت اليمن قام (سنان باشا) بالإحسان لأهل اليمن واستألف قلوبهم بالعطايا وتعمير ما خرب في الثورة ونشر العدل بينهم وبالغ في إكرامهم.
عندما ينتصر الصالحون:
نحن نرى كثيرًا من المنتصرين الذين إذا ما حققوا انتصارًا مثل الذي حققه (سنان باشا) في اليمن أو حتى نصفه، فإن العجب يداخلهم والكبر والفخر يركبهم ولربما البطر والأشر وهذا يفسر كثيرًا من الانتهاكات والمذابح التي تقع بالشعوب المغلوبة على يد غالبيها وكم من الجرائم التي ارتكبها الفاتحون، لذلك قالوا قديمًا "ويل للمغلوب من الغالب" ولعل الفتوحات الإسلامية هي الاستثناء الوحيد من هذه القاعدة، لما يملكه المسلمون من عقيدة وشريعة وديانة تحرم عليهم مثل هذه الجرائم.
وسنان باشا القائد المسلم المنتصر في معركة استمرت 6 سنوات باليمن يعتبر تجسيدًا حقيقيًا لمبادئ الإسلام وتعاليمه وشريعته، وترجمة ناصعة ونيرة للفاتحين الأوائل فبعد انتصاره الباهر باليمن توجه إلى مكة كي يحتفل بانتصاره على طريقة الصالحين، حيث قام بحج بيت الله عز وجل وقام بتوزيع صدقات كثيرة على أهل الحرمين وأنشأ مرافق كثيرة لتسهيل طريق الحجاج والمعتمين، وحفر الآبار، وبنى الخانات، وأصلح سبيل الطواف والسعي وبلطه بالحجارة الناعمة حتى يسهل الطواف والسعي وكان من قبل حصى وحجارة يتأذى منها الحجاج والمعتمرون، وهكذا يحتفل الصالحون إذا ما انتصروا.
إسبانيا تحتل تونس:
كانت بلاد تونس قبل الدولة العثمانية تحت حكم الأسرة الحفصية وهي في الأصل قد خرجت من عباءة دولة الموحدين التي حكمت المغرب والأندلس قرابة القرن من الزمان، وكان سلاطين الحفصيين مثالًا للعمالة والخيانة والضعف والخور والجبن والحرص على المناصب والدنيا إلا قليلًا منهم، فلما قرر السلطان سليمان القانوني ضم الشمال الإفريقي للدولة العثمانية، وذلك لتوحيد القوى الإسلامية ضد العدوان الصليبي المتنامي من ناحية البرتغال وإسبانيا، ولكن سلاطين السوء آثروا التحالف مع الصليبيين على الاتحاد مع المسلمين، فتحالف السلطان الحفص الحسن بن محمد مع (شارلكان) ملك إسبانيا سنة 942هـ في الوقت الذي كان فيه سليمان القانوني منشغلًا بحرب الدولة الصفوية واستولى شارلكان على تونس وبنى حصن البستيون بحلق الواد ليكون نقطة انطلاق للإغارة على الشمال الأفريقي.
ظلت تونس تحت الاحتلال الصليبي الإسباني والسلطان الحفصي أبو العباس أحمد مجرد صورة حتى استطاع أمير البحر العثماني [قلج علي] أن يعيد تونس للحكم العثماني سنة 980هـ، وخلع السلطان الحفص أبا العباس، والذي أسرع بدوره لوليه وحليفه ملك إسبانيا [فليب الثاني] بن شارلكان وطلب منه مساعدته في استعاده عرشه المسلوب فأرسل فليب الثاني جيشًا كبيرًا يقوده [دون جوان] وهو القائد الشهير بالسفاح للمذابح المروعة التي قام بها ضد مسلمي الأندلس عندما قاموا بثورتهم سنة 974هـ، واستطاع الإسبان احتلال تونس مرة أخرى وقاموا كعادتهم الصليبية بمجازر فظيعة بحق مسلمي تونس وذلك سنة 981هـ.
من اليمن إلى تونس:
في هذه الأثناء كان سنان باشا قد عاد لتوه من حج بيت الله الحرام، ولم يكد يلتقط أنفاسه من عناء غياب طويل عن داره وعياله لأكثر من ست سنوات، حتى جاءته الأوامر السلطانية بالتوجه مع أمير البحر [قلج علي] لنجدة مسلمي تونس وتحرير البلاد من الإسبان الغزاة.
فامتثل الوزير الصالح [سنان باشا] للأوامر، خاصة أن القتال هذه المرة ضد ألد أعداء الإسلام والمسلمين (الإسبان) فأشرف سنان باشا بنفسه على تجهيز الحملة التي بلغت 238 سفينة مختلفة الأحجام وأرسل إلى أهل تونس ليستعدوا للتطوع ضد الإسبان.
أخذ [حيدر باشا] الحاكم العثماني السابق بتونس على تنظيم صفوف المقاومة الداخلية، واستعدوا للانقضاض على الإسبان وحلفائهم الخونة الحفصيين، ووصل (سنان باشا) بحملته الكبيرة ومعه البطل الكبير (قلج علي) إلى تونس واشتبكوا مع الإسبان عند حلق الواد، وهجمت المقاومة الوطنية على العاصمة تونس في قتال مدن شديد الضراوة، وأمام هذا الهجوم الكاسح، فر الإسبان واحتموا بحصن البستيون المنيع ومعهم السلطان الحفص الخائن.
سنان باشا وحصن البستيون:
عندما احتل شارلكان تونس سنة 942هـ، قام ببناء قلعة ضخمة بالقرب من تونس العاصمة عند منطقة تشرف على البحر اسمها [البستيون]، وذلك لتكون نقطة تجميع وإغارة على الساحل الإفريقي كله، وظل الإسبان في عمارة هذا الحصن وفي زيادة وتوسيع حتى صار أمنع وأقوى الحصون في الشمال الإفريقي، وقد لجأت الحامية الإسبانية وبصحبتها الحفصي الخائن عند هجوم (سنان باشا) والعثمانيون عليهم إلى هذا الحصن المنيع، ظنًا منهم أنهم في ملاذ آمنين.
قرر سنان باشا تحطيم أسطورة هذا الحصن الشامخ، وضرب عليه حصارًا شديدًا من كل اتجاه من البر والبحر، وباشر الوزير (سنان باشا) القتال بنفسه كواحد من الجنود، حتى أنه أمر بعمل متراس يشرف منه على قتال من في داخل الحصن، واشترك مع جنوده في نقل الحجارة والتراب على ظهره مثل الجنود تمامًا، فقال له أحد مساعديه: ما هذا أيها الوزير؟ نحن إلى رأيك أحوج منا إلى جسمك، فرد عليه القائد الصالح الزاهد [سنان]: لا تحرمني من الثواب، وأمثال هؤلاء القادة هم الذين ينصرهم الله ويفتح لهم البلاد ويذلل لهم الصعاب، وبالفعل شدد (سنان باشا) في حصاره على البستيون حتى استطاع فتحه في 43 يومًا وقد بناه الإسبان في أربعين سنة، وقد تم الفتح سنة 983هـ.
وقد لجأ الحفصيون إلى صقلية حيث ظلوا يوالون الدسائس والمؤامرات والتضرعات لملوك إسبانيا سعيًا لاسترداد ملكهم، ولكن هيهات أنى للخونة أن ينتصروا أو يتمكنوا فإن مصيرهم لا محالة إلى مزبلة التاريخ حيث اللعنات وأسوأ النعوت والصفات، وعادت تونس إلى ظل الدولة العثمانية، والفضل لله عز وجل أولًا، ثم جهود الوزير الصالح (سنان باشا).
من الوزارة إلى الصدارة:
نظرًا للإنجازات الكبيرة التي حققها القائد المظفر (سنان باشا) وجدارته في المهام الصعبة التي لا يصلح لها إلا هو، أمر السلطان مراد الثالث بن سليم الثاني بترقيته لمنصب الصدارة العظمى وذلك سنة 988هـ وهو أرفع منصب في الدولة العثمانية، والصدر الأعظم يعتبر الحاكم الفعلي للدولة وبيده كل السلطات، فهو الذي يقود الجيوش ويوقع على المراسيم، ويعين الولاة ويعقد الاتفاقيات والمعاهدات، بالجملة هو أهم وأقوى رجل في الدولة.
كان هذا المنصب مصدر نقمة على سنان باشا لكثرة الطامعين والمتشوقين لهذا المنصب حتى أن كثيرًا ممن ولي هذا المنصب أما قتل أو عُزل بالدسائس والمؤامرات، حتى أن الصدر الأعظم السابق لسنان باشا وهو (صوقللي محمد) رغم جدارته وكفاءته فقد قتل نتيجة الدسائس لذلك فإن (سنان باشا) لم يمكث في هذا المنصب طويلًا رغم أحقيته حتى عزل، ثم لم يجدوا أكفأ منه، فأعادوه للمنصب مرة أخرى ثم عزلوه، ثم ولوه، وهو في كل مرة يسمع ويطيع طالما في خدمة الدين والأمة، فهو جندي عظيم وقائد صالح لا تهمه مناصب ولا تشغله ولاية، أو غير ذلك.
نصيحة المجاهد:
مر بنا من قبل أن من أسباب ضعف الدولة العثمانية، هو عدم وجود مهمة أساسية لها بعد أن حققت كل أهدافها، وأصبح الجيش العثماني لا وظيفة له بعد توقف الحروب، والفتوحات، وكانت جنود الانكشارية، وهي عماد الجيش العثماني قد فسدت أخلاقهم وضعف إيمانهم وانتشر بينهم شرب الخمر والدخان واستطالوا على الناس وقويت شوكتهم حتى على السلطان نفسه، وكان السلطان مراد الثالث قد أصدر فرمانًا يمنع شرب الخمر وإقامة الحد الشرعي على شاربها بعدما شاعت بين الناس وأفرط فيها الجنود الانكشارية وذلك سنة 982هـ فثار الإنكشاريون ثورة عنيفة وأجبروه على إلغاء هذا الفرمان وهذا يدل على مدى الضعف الذي وصلت إليه الدولة، إذ لم يستطع الخليفة والسلطان إقامة حدود الله، ويدل أيضًا على مدى انحراف الانكشارية.
وفي سنة 1001هـ قام الإنكشاريون بتمرد كبير شمل عدة ولايات عثمانية في مصر ودمشق وحلب واستانبول وغيرها وكانت ثورة عنيفة وواسعة، وحار السلطان (مراد الثالث) في كيفية التعامل معها، ولم يجد خيرًا من (سنان باشا) يستشيره في الأمر، ولأن هذا الرجل كان مجاهدًا من الطراز الأول، وخبيرًا بالمواقف الصعبة، فلقد نصح السلطان بنصيحة المجاهد المخلص، حيث أشار عليه بأن يكلف هؤلاء الجند الثائرين بالحرب على الجبهة الأوروبية ضد بلاد المجر وذلك لتفريغ الطاقة المعطلة عندهم لصالح الإسلام والمسلمين وكسب هذه الجهود المبعثرة لصالح الأمة.
إنقاذ ما يمكن إنقاذه:
دخل الإنكشاريون الحرب ضد المجر وقد فسدت أخلاقهم وانحرفت نواياهم وزالت هيبتهم من صدور عدوهم، دخلوا الحرب من أجل الغنيمة فقط لا غير، ولم يعد للأهداف السامية من الجهاد مثل نشر الإسلام والدفاع عن الأمة وغير ذلك وجود في قلوبهم ونفوسهم، وبالتالي تحولوا من مجاهدين في سبيل الله إلى قطاع طرق ولصوص، ومن أعلى الدرجات لأحط الدركات وبالتالي كان من الطبيعي والمنطقي أن يهزم هؤلاء الجند بعدما فقدوا كل أسباب الانتصار وقد دخلت النمسا الحرب مع المجر واستطاعت النمسا أن تحتل عدة قلاع حصينة.
أصبح وضع الدولة العثمانية متحرجًا والهزائم تتوالى على الجيوش العثمانية الخائرة، فأرسل السلطان مراد الثالث إلى رجل المهام الصعبة، الذي أنقذ الدولة العثمانية في مواطن كثيرة، القائد (سنان باشا) وكلفه باسترجاع القلاع المفقودة ومعها سمعة الدولة العثمانية التي انهارت بسوء أفعال جنودها الإنكشارية، وبالفعل قاد (سنان باشا) حملة كبيرة على البلقان استعاد بها ما فقدته الدولة من حصون وقلاع وذلك سنة 1003هـ، وقد جاوز السبعين وقتها من العمر ولكن الجسد جسد عجوز، والقلب قلب شاب فتي لا يعرف الهزيمة أو التراجع.
وفاة البطل:
بعد الانتصارات التي حققها القائد الصالح (سنان باشا) بأرض البلقان، عاد إلى استانبول حيث استقبله السلطان الجديد (محمد الثالث بن مراد الثالث) وشكره على صنيعه وأعاده إلى منصب الصدارة العظمى ولكن القائد العجوز قد هدت الأيام جسده وترك الزمان آثاره على بدنه، فقد وهنت القوة، وضعفت اليد، وإن كان القلب حيًا شابًا مخلصًا لذلك فقد كان منصب الصدارة العظمى تبعة ومسؤولية ثقيلة عليه، وشعر بدنو أجله، وأوشكت شمسه على الأفول، وقبل أن يغادر دنيانا أدى واجب النصيحة لأئمة المسلمين وعامتهم، فعندما زاره السلطان مُحمد الثالث في مرض موته، أوصاه (سنان باشا) أن يخرج هو بنفسه لقيادة الجيوش كما كان السلاطين الأقوياء يفعلون قبل، فإن سر الهزائم المتتالية لجيوش الدولة العثمانية ضعف القيادة وغياب القدوة الصالحة على رأس الجيوش، وما تسلطت الإنكشارية إلا بسبب ذلك، وقد عمل السلطان محمد الثالث بهذه الوصية النافعة والتي سيظهر أثرها جليًا ومباشرة من أول معركة.
وفي شهر شعبان سنة 1004هـ مضى (سنان باشا) إلى ربه عز وجل بعد أن قام بدور عظيم في الحفاظ على دولة الإسلام وقمع الثائرين وطرد الغزاة الصليبيين فجزاه الله خيرًا على ما قدم للإسلام والمسلمين ورحمه الله عز وجل رحمة واسعة.
المصادر والمراجع:
1– تاريخ الدولة العلية.
2- الدولة العثمانية.
3- الدولة العثمانية المفترى عليها.
4- البرق اليماني في الفتح العثماني.
5- التاريخ الإسلامي.
6- الفتح العثماني لليمن.
7- حرب الثلاثمائة سنة.
8- عوامل نهوض وسقوط الدولة العثمانية.