عرض مشاركة واحدة
  #2  
قديم 17-03-2020, 04:33 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 166,450
الدولة : Egypt
افتراضي رد: شهيد الحقيقة: زيد بن عمرو بن نفيل

فَتَقْوَى اللَّهِ رَبِّكُمُ احْفَظُوهَا
مَتَى مَا تَحْفَظُوهَا لَا تَبُورُوا

تَرَى الأَبْرَارَ دَارُهُمُ جِنَانٌ
وَلِلْكُفَّارِ حَامِيَةً سَعِيرُ

وَخِزْيٌ فِي الحَيَاةِ وَإِنْ يَمُوتُوا
يُلَاقُوا مَا تَضِيقُ بِهِ الصُّدُورُ

وكان زيد يُغايِرُ عاداتِ قومه السيئةَ ويسعى في تغييرها، لقد كان يحجُّ معهم ويعتمِر، ويطوف بالبيت ويسعى بين الصَّفا والمروة، ولا يقرب شيئًا مِن أصنامهم التي يشركونها مع الله في عباداتهم، كانوا يلبُّون فيقولون في تلبيتهم: "لبيك اللهمَّ لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إلَّا شريكًا هو لك، تَملِكه وما ملَك"، فكان زيد يشاركهم القولَ في: "لبَّيك اللهمَّ لبَّيك، لبَّيك لا شريك لك لبَّيك"، ثم يقول لهم: كفى، فواللهِ لا يملِك أحدٌ مع الله شيئًا.

وكان رضي الله عنه وأرضاه يُحيي الموءودة، فإذا سمِع بأنَّ أبًا يريد أن يقتل ابنتَه، أتاه فقال له: لا تقتلها، أنا أكفيكها مؤونتها، فيأخذها، فإذا ترعرعَتْ قال لأبيها: إن شئتَ دفعتُها إليك، وإن شئتَ كفيتُك مؤونتها[6].

وكان زيدٌ يأبى أكْلَ ما ذُبح للأصنام، يؤتى بالشَّاة فتُذبح عند الأصنام قربانًا لها، فيعيب ذلك على ذابحها بقول: الشَّاة خلقها الله، وأنزل لها العشبَ من السماء، ثمَّ تذبحونها لغيره؟!

ويأبى أن يأكُل منها، وهذه واللهِ عجيبةٌ من عجائبه، قد أشبَه فيها رسولَ الله صلى الله عليه وسلم؛ فقد كان عليه الصلاة والسلام كذلك لا يأكل مما ذُبِح على النُّصُب.

روى البخاريُّ عن عبدالله بن عمر رضي الله عنهما أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم لقي زيدَ بنَ عمرو بن نُفيل بأسفلِ بَلْدَحٍ قبلَ أن ينزل على النبيِّ صلى الله عليه وسلم الوحي، فقُدِّمتْ إلى النبي صلى الله عليه وسلم سفرة، فأبى أن يأكل منها، ثمَّ قال زيد: إنِّي لستُ آكل مما تَذبحون على أنصابكم، ولا آكُلُ إلَّا ما ذُكر اسم الله عليه، وأن زيد بن عمرو كان يَعيب على قريش ذبائحَهم، ويقول: الشاة خلقها الله، وأنزَل لها مِن السماء الماءَ، وأنبت لها مِن الأرض، ثمَّ تذبحونها على غير اسم الله؟! إنكارًا لذلك وإعظامًا له[7].
ثمَّ ينطلق زيدٌ وهو يقول: "لبَّيك حقًّا حقًّا، تعبُّدًا ورِقًّا"، ثمَّ يخرُّ فيسجد لله[8].

وهذه أخلاق الفِطرة السَّليمة، وهي هي تعاليم الدِّين الصَّحيح، وما الفطرة والدين إلَّا مِن مِشكاة واحدة، فإنَّ الدين هو ï´؟ فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا ï´¾ [الروم: 30].

ولكن لِمَ رجع زيد إلى مكَّةَ ولم يبقَ بأرض الشام أو العراق، أو بغير مكَّة من أراضي جزيرة العرب؟
تُحدِّثُنا الكتب بأنَّ أحد الأحبار الذين لقيهم في رحلته قال له: "ارجع؛ فإنَّ النبيَّ الذي تنتظره يَظهر في أرضك"، وفي بعض الرِّوايات أنَّ زيدًا قال: قال لي شيخ من أحبار الشام: إنَّك لتسألني عن دينٍ ما أعلم أحدًا يعبد اللهَ به إلَّا شيخًا بالجزيرة، قال: فقدمتُ عليه، فقال: إن الذي تطلب قد ظهَر ببلادك، وجميع من رأيتَهم في ضَلال"[9]، وفي رواية الطبراني من هذا الوجه: "وقد خرَج في أرضك نبيٌّ، أو هو خارِجٌ، فارجع وصدِّقْه وآمِنْ به، قال زيد: فلم أُحِس بشيء بعد"[10].

رجع زيد إلى مكَّةَ، وظلَّ على أخلاقه تلك النَّبيلة، وكان مِن أَمَله أن يلقى النبيَّ المنتظَر، فيكون معه، ويخدمه، وينصُره، ويؤازِره، ويغسل الترابَ عن قدميه؛ لقاءَ أن يعرف منه الحقَّ الذي جاء به، وأن يدلَّه على الهدى الذي حار حيرتَه الكبرى لأجله، وشقي شقاوتَه تلك جميعها لتحصيله.

وقد لقي زيدٌ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم غيرَ ما مرَّة، إلَّا أنه لم يدرِك البعثةَ، وإن كان النبيُّ صلى الله عليه وسلم قد أثنى عليه ومدَحَه، وبَشَّر بمنزلته ودرجتِه في الآخرة.

وبعضُ الأحاديث تروي إسلامَه وإيمانَه بالنبيِّ على الغيب، وأنَّه بعث إليه بالسلام؛ فقد روى محمد بن سعد والفاكهي من حديث عامر بن ربيعة حليف بني عَدي بن كعب قال: قال لي زيد بن عمرو: إنِّي خالفتُ قومي، واتَّبعتُ مِلَّةَ إبراهيم وإسماعيل وما كانا يَعبدان، وكانا يصلِّيان إلى هذه القِبلة، وأنا أنتظر نبيًّا من بني إسماعيل يُبعث، ولا أُراني أدركه، وأنا أومن به وأصدِّقُه وأشهد أنَّه نَبي، وإن طالت بك حياة فأقرِئْه منِّي السلام.

قال عامر: فلمَّا أسلمتُ أعلمتُ النبيَّ صلى الله عليه وسلم بخبره، قال: فردَّ عليه السلام وترحَّمَ عليه، قال: ((ولقد رأيتُه في الجنَّة يسحب ذيولًا))[11].

وفي بعض الروايات الصَّحيحة عن سعيد بن زيد قال: فسألتُ أنا وعمر رسولَ الله صلى الله عليه وسلم عن زيد؟ فقال: ((غفَر اللهُ له ورحمه؛ فإنَّه مات على دين إبراهيم))[12].

وعن سعيد بن زيد قال: سألتُ أنا وعمر بن الخطاب رسولَ الله صلى الله عليه وسلم عن زيد بن عمرو، فقال: ((يأتي يومَ القيامة أمَّةً وحدَه))[13].

لقد كان هاجس عدَم إدراكه مَبعث النبيِّ يلحُّ عليه في أوقاته جميعها، حتى وافاه الأجَلُ، فيُروى أنه في إحدى رحلاته هجَم عليه قومٌ مِن قبيلة بني لخم اليمنيَّة، فقتلوه، فقيل: إنَّه سُمِع في النَّزع وهو يقول: "اللهمَّ إن كنتَ حرمتني صحبةَ نبيِّك، فلا تَحرم منها ابني سعيدًا".

وبالفعل كان زيد بن عمرو بن نفيل - هذا العملاق - هو والد سَعيد بن زيد أحد العشرة المبشَّرين بالجنَّة، رحمهما الله ورضي عنهما.

كانت الفترة التي بين مَوت زيد ومَبعث النبيِّ فترة قليلة جدًّا، حتى روى الزُّبيرُ بن بكَّار من طريق هشام بن عروة قال: "بلَغَنا أنَّ زيدًا كان بالشام، فبلغه مخرج النبيِّ صلى الله عليه وسلم فأقبل يريده، فقُتل بمضيعةٍ مِن أرض البلقاء، وقال ابن إسحاق: لما توسَّط بلاد لخم قتلوه"[14].

وقد قال رفيقه ورقة بن نوفل يرثيه:
رشدتَ وأَنْعَمْتَ ابنَ عمرٍو وإنَّما
تجنَّبتَ تنُّورًا مِن النار حامِيَا

بدِينِك ربًّا ليس ربٌّ كمثلِه
وتركِك أوثانَ الطَّواغي كما هيَا

وقد تُدرِكُ الإنسانَ رحمةُ ربِّهِ
ولو كان تحت الأرضِ ستين وادِيَا[15]

وقيل: إنَّ زيدًا مات قبلَ المبعث بخمس سنين؛ أي: عند بناءِ قريش الكعبةَ[16].

لقد كان زيد يتردَّد بين مكَّة والشام، كأنَّه يستحثُّ الأيام على المضيِّ؛ ليأتي اليومُ المنتظَر ومعه النبيُّ، أو كأنَّه كان يأتي الشام يتلمَّس التأكيدَ على الخبر في روايات الرواة وأخبارهم، أو يلتمَّس الأمارات والشواهد على قُرب هذا الوقت.

وفي بعض أسفاره إلى الشَّام قيل له: إنَّ الذي تطلُبُ موجود بالفعل في أرض مكَّةَ، فاستحثَّ السَّيرَ إليها وأسرَع، لكن القدَر كان إليه أسرَع، فوافاه الموت في الطريق، قتَلَه أولئك البغاة، ولا ندري بأيِّ ذنبٍ قتلوه، رحمه الله ورضي عنه، أحسبه شهيد الحقيقة.

وعن جابر قال: سُئل رسولُ الله عن زيد بنِ عمرو بن نُفَيل أنَّه كان يستقبل القِبلةَ في الجاهليَّة، ويقول: إلهي إلهُ إبراهيم، وديني دينُ إبراهيم، ويَسجد، فقال رسول الله: ((يُحشَرُ ذاك أمَّةً وحدَه بيني وبين عيسى ابن مَريم))[17].
وقال صلى الله عليه وسلم: ((دخلتُ الجنَّةَ فرأيتُ لزيد بن عمرو بن نُفيل درجتين))[18].
رحِم الله زيدًا، وقدَّس روحه في علِّيِّين.


[1] أخرجه البخاري (3615).

[2] أخرجه الطيالسي (ص 32)، وانظر: إتحاف الخيرة المهرة (1/ 104).

[3] انظر: البداية والنهاية (2/ 242)، ط الفكر.

[4] أخرجه البزار (1266).

[5] أخرجه البخاري (3616).

[6] أخرجه البخاري (3616).

[7] أخرجه البخاري (3614).

[8] أخرجه الطيالسي (ص 32).

[9] حديث حسن، أخرجه أبو يعلى (7212)، وغيره، وصححه الحاكم ووافقه الذهبي.

[10] حديث صحيح، أخرجه الطبراني؛ كما في المجمع (9/ 417، 418).

[11] أخرجه ابن سعد (1/ 161 و3/ 379)، وعنه الطبري في التاريخ (1/ 529)، وهو ضعيف الإسناد، لكن لبعض عبارات المتن شواهد توحي بصحَّته.

[12] انظره في فتح الباري بشرح صحيح البخاري (7/ 176).

[13] رواه النسائيُّ في السنن الكبرى (8187)، وحسَّنه الحافظ ابن كثير؛ انظر: البداية والنهاية (2/ 241)، ط الفكر.

[14] فتح الباري (7/ 176).

[15] البداية والنهاية (2/ 243).

[16] فتح الباري (7/ 176).

[17] رواه النسائي في السنن الكبرى (8187)، وحسنه الحافظ ابن كثير؛ انظر: البداية والنهاية (2/ 241).

[18] أخرجه ابن عساكر (19/ 512)، وحسنه الألباني، انظر صحيح الجامع (3367)، والصحيحة (1406).



__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 26.24 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 25.61 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (2.39%)]