عرض مشاركة واحدة
  #3  
قديم 17-03-2020, 04:19 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 166,520
الدولة : Egypt
افتراضي رد: الخليل بن أحمد الفراهيدي: غني بعلمه عن العالمين

وكم نعمةٍ كانت على الحر نقمةً
وكم مغنم يعتدُّه الحر مَغرَمَا

ولم أَبتذِلْ في خدمة العلم مُهجتي
لأَخدُم مَن لاقيتَ لكنْ لأُخدَمَا

أأَشقى به غرسًا وأجْنِيه ذِلَّةً
إذًا فاتباعُ الجهلِ قد كان أحزَمَا

ولو أن أهلَ العلم صانُوه صانَهم
ولو عظَّموه في النفوس لعُظِّمَا

ولكنْ أهانوه فهانوا ودنَّسوا
محيَّاه بالأطماع حتى تجهَّمَا

فإن قلتَ: جدُّ العلم كابٍ، فإنما
كَبَا حين لم يُحرس حماه وأُسْلِمَا

وما كل برقٍ لاح لي يستفزُّني
ولا كل مَن في الأرض أرضاه مُنْعِمَا



إلى أن أرى ما لا أغَصُّ بذِكرِه
إذا قلتُ: قد أسدى إليَّ وأنعَمَا[11]

لقد شهِدت الحياة العلمية في أزمنة القوة والضعف على السواء شخصياتٍ علميةً باعت عزة العلم الذي تحمله، وأهانت شرف الدرجة التي تتبوَّؤها، حين سارت في ركاب السلطة تأتمر بأمرها وتنتهي عما تنهاه عنه، دون مراعاة لحقائق الشرع أو نصوص الدين، بل تم ذلك كلُّه في كثير من الأحيان تحت ستار الدين؛ تحريفًا تارة، وتأويلًا تارات أخرى، وسخَّروا القرآن والسُّنة لهوى الرجال والنساء، واخترعوا أحكامًا لإرضائهم ما أنزَلَ اللهُ بها من سلطان، وكان لذلك أثره السيِّئ الضار على الدين والعلم والمجتمع بأسره، وهكذا تجني شعوبنا المسلمة المصائب من تفريط العلماء وإضاعتهم لأمانات الله التي طوقت أعناقهم.

ولئن كان هؤلاء في زمن القوة قليلين، وأثرهم لا يكاد يُذكر، فإنهم في زمان الضعف - كزماننا هذا - يضرُّون الدين وأهله ضررًا بالغًا.
وهل هناك أضر على الدين من فقيه مثلًا يُطلَب إليه من قِبل الإعلام أن يضع جملة أحاديث في تحديد النسل، فيقول لمحدِّثيه: تريدون أن أكتب بالتحليل أم بالتحريم؟

فما كان من المجيب إلا أن قال له ساخرًا: خمسة أحاديث بالحل، وخمسة أخرى بالحُرمة!
يا لضيعة الدين بين أهله! ويا لهوان العلم على حامله! ويا لضيعته إذ وضع في غير موضعه، ومِن هذا اللون في عالَمِنا المعاصر كثيرون، لا يخشَون الله، ولا يرقبون في دينهم وأمتهم إلًّا ولا ذمة!

أمَا علِم هؤلاء أن الوفاء لله ورسوله صلى الله عليه وسلم أبقى وأجدى؟!
لقد خسِروا الآخرة، ولو كانوا يتوهمون بأنهم كسبوا الدنيا بأعمالهم تلك، فقد خُدعوا عن أنفسهم، فإنهم ما كسبوها، وكيف يقال: إنهم كسبوها، وهم ما عاشوا فيها إلا حقراء تافهين، لا قيمة لهم بين العامة، ولا يأبَهُ لهم الذي يستعملونهم؟

ليت لنا مثل الخليل عالِمًا، يعلِّم أولئك أن عزة العلم وعزة العلماء أرفع من كل مال أو منصب أو جاه، وأن لذة هذه العزة هي أعظم من لذة تحقيق المكاسب العاجلة، والرغائب الذاهبة، والشهوات التافهة!
ومن لوازم العزة الزهدُ في الدنيا والرغبة عن التكثر منها؛ ولهذا كان أكثر ما يميز الخليل من الصفات بعد سيادته في العلم وانقطاعه له - ما كان من زهده وورعه؛ إذ كان متقللًا من الدنيا جدًّا، متقشفًا متعبدًا، صبورًا على خشونة العيش وضيقه، وكان يقول: "إني لأغلق عليَّ بابي، فما يجاوزه همي"[12].

وكان رحمه الله يقيم في خصٍّ، وربما لا يملك ما يقيم أوده، يقول تلميذه النضر بن شميل: "أقام الخليل في خص له بالبصرة، لا يقدر على فلسين، وتلامذته يكسبون بعلمه الأموال، وكان كثيرًا ما ينشد:
وإذا افتقرتَ إلى الذخائرِ لم تجِدْ ♦♦♦ ذُخرًا يكون كصالحِ الأعمالِ"[13].

قال الذهبي: وكان الخليل من خيار عباد الله المتقشفين في العبادة، وهو القائل:
إن لم يكن لك لحمٌ
كفاك خلٌّ وزيتُ

إنْ لا يكن ذا ولا ذا
فكِسرةٌ وبُيَيْتُ

تظلُّ فيه وتأوي
حتى يجيئَك موتُ

هذا لَعمري كفافٌ
لكنْ تضرُّك لَيْتُ[14]


ولو لم نقف في حياةِ الخليل على درسٍ سوى هذا، لكفانا، ووالله إن حياتَه كلها لدروسٌ وعِبر ناطقة حية، تعِظُ الغافلين والعاطلين والكسالى والفارغين، رحم الله صاحب هذه الحياة العامرة بالإنتاج والإبداع، وتقبَّله في الصالحين.
كان مولد الخليل في العام المتمم مائة من الهجرة، في خلافة العادل عمر بن عبدالعزيز، وتُوفِّي رحمه الله في البصرة عام 174 هـ، في خلافة هارون الرشيد، وذلك بعد رحلات متعددة إلى أماكنَ شتى.

وقال الإمام شمس الدين الذهبي في سبب وفاته في كتابه تاريخ الإسلام:
"يقال: كان سبب موت الخليل أنه قال: أريد أن أعمل نوعًا من الحساب تمضي به الجارية إلى الفامي، فلا يمكنه أن يَظلِمَها، فدخل المسجد وهو يُعمل فكرَه، فصدمته ساريةٌ وهو غافل فانصرع، فمات من ذلك.

وقيل: بل صدمته السارية وهو يقطِّع بحرًا مِن العروض"[15].
وختامًا: هذا هو الخليل، فلا غرو أن يقول عنه سفيان بن عُيَينة: "مَن أحب أن ينظر إلى رجل خُلِق من الذهب والمسك، فلينظر إلى الخليل بن أحمد"[16].


[1] الأعلام (4/ 165).

[2] انظر: سير أعلام النبلاء (7/ 430).

[3] تاريخ الإسلام (4/ 355).

[4] قصة عبقري (116).

[5] المحكم في نقط المصاحف (7، 8)؛ الداني.

[6] تاريخ الإسلام، ت/ بشار (4/ 357).

[7] انظر: شعراء مقلون، (355 - 356)؛ د. حاتم الضامن، عالم الكتب.

[8] وفَيَات الأعيان (2/ 246).

[9] وفَيَات الأعيان (2/ 246).

[10] معجم الأدباء (2/ 283).

[11] يتيمة الدهر (4/ 23).

[12] سير أعلام النبلاء (7/ 431)، وفَيَات الأعيان (2/ 245).


[13] وفَيَات الأعيان (2/ 245)، سير أعلام النبلاء (7/ 430)، والبيت من ديوان الأخطل (1/ 136).

[14] تاريخ الإسلام (4/ 355).

[15] تاريخ الإسلام (4/ 356).

[16] المزهر في علوم اللغة وأنواعها (1/ 52)؛ للسيوطي.


__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 25.63 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 25.00 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (2.45%)]