عرض مشاركة واحدة
  #2  
قديم 14-03-2020, 03:20 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 159,240
الدولة : Egypt
افتراضي رد: ركائز العمل المؤسساتي في الإسلام: العقلانية

ركائز العمل المؤسساتي في الإسلام: العقلانية
عبدالستار المرسومي




ومن العقل أن يتذكَّر الفرد أنَّه (مخلوق) و(عبد)؛ لذلك يَنبغي أن تكون حياته باتجاهين:
الأول: باعتباره مخلوقًا يتوجَّب عليه أداء حقوق الخالِق جلَّ جلاله، وهذه الحقوق متعلقة بشكره لله جلَّ جلاله؛ لأنَّه مَنَحَنا الكثيرَ من الامتيازات الجميلة والمهمَّة والثمينة، وهنا صار من اللازم أن يَسعى الفرد لكَسب رضا الخالِق جلَّ جلاله وعدم إغضابه، وذلك الأمر من أبسط الواجبات الواقعة على عاتق المخلوق تجاه خالِقه، ومن هذا الفهم كان تصرُّف رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم، فيقول المغيرة بن شعبة رضي الله عنه: إن كان النبيُّ صلى الله عليه وسلم ليقوم لِيصلِّي حتى ترم قدماه - أو ساقاه - فيقال له، فيقول: ((أفلا أكون عبدًا شكورًا))[8].

الثاني: التصرُّف مع الآخرين كـ (عبد)، فيَمشي مشيةَ العبد، ويأكل أكلةَ العبد، فلا يحق له أن يتبختر ولا يتكبَّر، ولا يميز نفسَه عن الآخرين، بل عليه أن يَلتزم التواضعَ والاستكانة، إن هذه الخصوصية تَبعث الراحةَ في قلوب الآخرين مثلما تُشعرهم بأنهم متساوون، ولقد كان خير البشر محمد صلى الله عليه وسلم يَفتخر بعبوديَّته لله جلَّ جلاله، فهو يقول صلى الله عليه وسلم: ((آكُلُ كما يَأكل العبد، وأجلس كما يَجلس العبد، فإنَّما أنا عبد))، "وكان النبيُّ صلى الله عليه وسلم يَجلس محتفزًا"[9].

وكان هذا هو حال العلاء بن زياد[10] رحمه الله، الذي تعلَّم هذا الأصلَ من مدرسة محمد صلى الله عليه وسلم، فلقد: "كان قوت نفسه رغيفًا كل يوم، وكان يصوم حتى يخضرَّ، ويصلِّي حتى يسقط، فدخل عليه أنس بن مالكٍ رضي الله عنه والحسن فقالا: إنَّ الله تعالى لم يَأمرك بهذا كله، فقال: إنَّما أنا عبد مملوك، لا أدع من الاستكانة شيئًا إلا جئته به"[11].

وهكذا يوجِّه العلاء بن زياد رحمه الله بوصلتَه في الاتجاه الصحيح.

3- محاسبة النَّفس: إنَّ ما هو شائع اليوم أن يراقب الفردُ الآخرين بدقَّة متناهية، ويضع نفسه مراقبًا ثمَّ حكمًا وقاضيًا، ويرى أخطاءهم واضحةً كالشمس في رابعة النهار وإن كانت صغيرة، فيحاسِب ويعاتِب ويلوم، وربما يعاقِب، ولكنَّه لا يرى أخطاءه ولو كانت مثل زبد البحر.

وهذا الخُلق السيِّئ يؤثِّر سلبيًّا على العلاقة، فعن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يُبصِر أحدكم القذاةَ[12] في عين أخيه، ويَنسى الجذعَ في عينه))[13].

وفي هذا المقام لا نقول بترك النَّصيحة للأصدقاء والإخوة والزملاء في العمل وغيره؛ بل هي من صميم واجبات الأخوَّة والصداقة، ناهيك عن كونها واجبًا شرعيًّا، ولكن هناك مرحلة مهمَّة جدًّا قبل الشروع في عمليَّة النصح للآخرين، وهي مرحلة استِكشاف أخطاء وهفوات وتقصير نفسك التي بين جَنبيك، فكما قيل: (فاقِد الشيء لا يعطيه)، ومثل ذلك قال أبو الأسود الدؤلي:
لا تَنْهَ عن خُلُقٍ وتأتيَ مثله
عارٌ عليك إذا فعلتَ عظيمُ

ابدأ بنَفسِك وانهها عن غيِّها
فإذا انتهَت عنهُ فأنت حكيمُ

فهناك يُقبَل ما وعظتَ ويُقتدى
بالعِلم منك ويَنفعُ التعليمُ


يقول ميمون بن مهران[14]: "لا يكون الرجل من المتَّقين حتى يحاسِب نفسَه أشد من محاسبة شريكه، حتى يَعلم من أين مطعمه، ومن أين ملبسه، ومن أين مشربه، أمِن حل ذلك أم من حرام؟".

4- معرفة قيمة الأشياء على حقيقتها، وتمييز الغثِّ من السَّمين، فهناك أعمال وأقوال لها قِيمة عالية وفاخرة وتجلب محبةَ الآخرين واحترامهم وتقديرهم، وهي ما يتعلَّق بأمور الخير والآخرة وخدمة المجتمع، على عكس الأعمال الأخرى المتعلِّقة بطلب الدنيا وزينتها وبَهرجتها والعلوِّ على النَّاس، فعن أنس بن مالك رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((لَغدوة في سبيل الله أو روحة، خير من الدنيا وما فيها))[15].

وهكذا يبيِّن لنا رسولُ الله محمد صلى الله عليه وسلم الاتجاهَ الصَّحيح للبوصلة في هذا المقام؛ وذلك بالتمييز بين الأعمال ذات الأهمية القصوى والأولوية الأولى، وهي الأعمال المتعلِّقة بالله جلَّ جلاله وبرضاه سبحانه وتعالى.

5- إلغاء مبدأ الطاعة العمياء؛ فمَن نرتبط بهم بعلاقاتٍ ما، وأيًّا كان نوعها وحجمها، لا ينبغي أن ننكر فيها عقولَنا وذاتنا ونسلِّم مقدراتنا في أيديهم بشكلٍ مطلَق، فهم بشر مثلنا، نطيعهم ما أطاعوا اللهَ جلَّ جلاله، وقدَّموا للناس ما لا يقدِّمه غيرهمونصحوا وصدقوا، ولكن حين يَنحرفون فلا طاعة لهم، ومهما كان مقامهم؛ فإنَّ جزءًا من واجبنا تجاه من نكون معهم هو واجب تربوي، والواجب التربوي ليس له علاقة بالعمر ولا بالفقر ولا بالغنى ولا بالجاه؛ لأنَّه يتعلَّق بتقويم أخطاء واعوجاجٍ يحصل لكلِّ هؤلاء من غير استثناء، فينبغي أن نقوِّمهم، وذلك هو نصرنا لهم، وهكذا كان رسولُ الله محمد صلى الله عليه وسلم يربِّي الناسَ، فعن علي رضي الله عنه، قال: بَعث النبيُّ صلى الله عليه وسلم سريَّة، فاستعمل رجلاً من الأنصار وأمَرَهم أن يطيعوه، فغضب، فقال: أليس أمرَكم النبيُّ صلى الله عليه وسلم أن تطيعوني؟ قالوا: بلى، قال: فاجمعوا لي حطبًا، فجمعوا، فقال: أوقدوا نارًا، فأوقدوها، فقال: ادخلوها، فهمُّوا وجعل بعضهم يمسِك بعضًا، ويقولون: فررنا إلى النبيِّ صلى الله عليه وسلم من النار، فما زالوا حتى خمدَت النَّار، فسكن غضبُه، فبلغ النبيَّ صلى الله عليه وسلم، فقال: ((لو دَخلوها، ما خرجوا منها إلى يوم القيامة؛ الطاعة في المعروف))[16].

وهذا أبو بكر الصِّديق رضي الله عنه يَطلب من الآخرين أن يقوِّموه وهو أمير المؤمنين وخير الناس بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فعن قيس بن أبي حازم رحمه الله قال: خطب أبو بكر رضي الله عنه فقال: "إني ولِّيتُكم ولستُ من أخيركم، وإنَّما أنا بشر مثلكم، فإن أصبتُ فاحمدوا الله، وإن أخطأتُ فقوِّموني، وإنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يُعصم بالوحي"[17].

6- نبذ الرياء: فالرِّياء من أخطر أمراض القلوب،ولو تعامل المرائي عقلانيًّا لما يرائي به، لانتهى في الحال؛ لأنَّ العقل يقول: إنَّ أسباب (الرياء المزعوم) سواء كانت ماديَّة أو بدنية فهي من الله جلَّ جلاله، فلا يد للإنسان في أن يَجعل نفسه جميلاً أو يختار ذريَّته، ولم يكن الرِّزق يومًا بيد أحد غير الله جلَّ جلاله فهو الرزَّاق، فتكون النتيجة أن لا ينبغي للفرد أن يَقع في فخِّ الشيطان وهوى النَّفس فيباشر رياءً بأشياء لم تكن من صنع يده، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((مَن قام مقام رياء وسُمعة، راءَى الله به يوم القيامة وسمَّع))[18].

7- عدم تتبُّع عثرات وهفوات الآخرين، وهي آفَةٌ أخرى في مسار العلاقات الإنسانيَّة، ومؤشِّر مهمٌّ على انحراف البوصلة، ولأنَّ العلاقة في الأصل لم تَقم على قِيَم ثابتة، ولأنَّ من يقوم بها لا يعي مقاصدها؛ لذلك تراه يتصيَّد عثرات الآخرين، فهو يقف متحفِّزًا بالمرصاد لكلِّ شاردة وواردة للآخرين، يقول: ابن زيدون:
حَليمٌ تَلافى الجاهِلينَ أَناتُه
إذِ الحِلمُ عَن بَعضِ الذُّنوبِ عِقابُ

إذا عَثَرَ الجاني عَفا عَفوَ حافِظٍ
بِنُعمى لها في المُذنِبينَ ذِنابُ

شَهامَةُ نَفسٍ في سَلامَةِ مَذهَبٍ
كما الماءُ للرَّاحِ الشمولِ قِطابُ


وذهب الكثير من النَّاس اليوم ليس لتعقُّب هفوات الآخرين فحَسب، بل وتوريطهم وإعثارهم عمدًا، ثمَّ توثيق ذلك إمَّا بتسجيل صوتي أو (بالصورة والصوت) من أجل استخدامه كدليل للهجوم عليه في الوقت الذي يقرِّره هو.

وتتبُّع العثرات ليس يأتي ضرره على فاعِله فقط، بل له آثار حتى على من يَعثر نفسه، فعن معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه، قال: سمعتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((إنَّك إن اتَّبعتَ عورات النَّاس، أو عثرات الناس، أفسدتَهم، أو كدتَ أن تفسدهم))، قال: يقول أبو الدرداء: كلمة سمعها معاويةُ من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنفعه اللهُ بها"[19].

مصاحبة العقلاء، وذوي الرَّأي والمشورة، وصادقي النَّصيحة، وإن كانوا ممن ينتقدون ويقومون؛ لأنَّ ذلك من مصلحة العلاقة وليس العكس، فليس ثمَّة أخطر من الأحمق في العلاقات البشرية، يقول الشاعر:
ولئن يُعادي عاقلاً خير له
من أن يكون له صديقٌ أحمقُ

فاربأ بنفسِك أن تصادِق أحمقًا
إنَّ الصَّديق على الصديق مُصدقُ

وزِن الكلامَ إذا نطقتَ فإنَّما
يُبدي عُقولَ ذوي العُقولِ المنطقُ


ولكن الذي يجري في علاقات اليوم ينافِي هذه الحقيقية ويقلب موازينها، فأحباب المرء مَن يداهنونَه ويجارونه فيما يرى ويَعتقد، وما ذلك إلاَّ من أجل مكاسب شخصيَّة على حساب المصلحة العامَّة للعلاقة، وقد قيل: (صديقي من أهدى إليَّ عيوبي).

8- النظرة المستقبليَّة للعلاقة: لا يمكن لأيِّ إنسان مهما بلغَت درجة ذكائه وإمكاناته العقليَّة استنباط أو استشراف أحداث المستقبَل إلاَّ بعضًا مما يفتح الله عليه جلَّ جلاله؛ فإنَّه لن يَستطيع أن يَعلم ما في الغيب؛ لذلك ومن العقلانية في العلاقة مع الآخرين أن تكون لنا نظرة للآفاق المستقبليَّة وَفق تفكيرنا لمنطق العلاقة مع الآخرين.

وبما أنَّ الأمور والأقدار بيَد الله جلَّ جلاله وحده، فليس يعلم الفرد الذي هو اليوم في عزَّة ومَنعة ومكانَة مرموقة ووضعٍ مالي فاخر ومقام رفيع - ما الذي سيَحصل له في الغد القريب؛ لذلك فإنَّ التفريط بالعلاقات مع الكثير ممَّن يرون أنَّهم لا يستحقون عناءَ إقامة علاقات معهم، أو أنَّ العلاقة الموجودة أصلاً لا طائل منها، فيها مجانَبة شديدة للعقل والمنطِق، فكم من صغير صار كبيرًا! وكم من فقيرٍ أضحى غنيًّا! وكم من جاحد عاد مؤمنًا! وكان رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم يُبقي علاقاته الطيِّبة مع الفقراء والضعفاء، فعن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((ألا أخبركم بأهل الجنَّة؟ كل ضعيف متضاعف، لو أقسم على الله لأبرَّه، ألا أخبركم بأهل النار؟ كل عتلٍّ جواظ مستكبر))[20].
يتبع

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 27.24 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 26.61 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (2.31%)]