تفسير الزركشي لآيات من سورة مريم
د. جمال بن فرحان الريمي
الآية الكريمة: ﴿ قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا ﴾ [مريم: 4].
قوله تعالى: ﴿ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي ﴾، أي: يا رب[1].
قوله تعالى: ﴿ وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا ﴾، أي: شعر الرأس[2].. المستعار الاشتعال، المستعار منه النار، والمستعار له الشيب، والجامع بين المستعار منه والمستعار له: الانبساط "مشابهة ضوء النهار لبياض الشيب".
وفائدة ذلك وحكمته: وصفُ ما هو أخفى بالنسبة إلى ما هو أظهر، وأصل الكلام أن يقال: واشتعل شيب الرأس؛ وإنما قلِب للمبالغة[3]؛ لأنه يستفاد منه عموم الشيب لجميع الرأس؛ ولو جاء الكلام على وجهه لم يفد ذلك العموم، ولا يخفى أنه أبلغ من قولك: كثر الشيب في الرأس، وإن كان ذلك حقيقة المعنى[4].
﴿ يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا ﴾ [مريم: 6].
قال رحمه الله: قرأ علي[5] وابن عباس[6] في سورة مريم: ﴿ يَرِثُنيِ وَيَرِثُ مِنْ ءَالِ يَعْقُوبَ ﴾[7]، قال ابن جني: هذا هو التجريد، وذلك أنه يريد: وهَبْ لي من لدنك وليًا يرثني منه وارث من آل يعقوب، وهو الوارث نفسه، فكأنه جرد منه وارثًا[8].
﴿ يَايَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا ﴾ [مريم: 12].
قوله تعالى: ﴿ يَايَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا ﴾، حذف يطول تقديره: فلما ولد يحيى ونشأ وترعرع قلنا: ﴿ يَايَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ ﴾ [9].
﴿ وَحَنَانًا مِنْ لَدُنَّا وَزَكَاةً وَكَانَ تَقِيًّا ﴾ [مريم: 13].
قال رحمه الله: كل شيء في القرآن من "زكاة" فهو المال، غير التي في سورة مريم ﴿ وَحَنَانًا مِنْ لَدُنَّا وَزَكَاةً ﴾ فإنه يعنى تعطفًا[10].
﴿ فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْنًا فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا ﴾ [مريم: 26].
قال رحمه الله: كل صوم في القرآن فهو الصيام المعروف إلا الذي في سورة مريم ﴿ إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا ﴾ يعني صمتًا[11].
﴿ يَاأُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا ﴾ [مريم: 28].
قوله تعالى: ﴿ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا ﴾ وقوله: ﴿ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا ﴾ [12]، فإن مريم كأنها قالت: إني تفكرت في أزمنة وجودي ومثلتها في عيني:﴿ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا ﴾ فهو أبلغ في التنزيه؛ فلا يظن ظان أنها تنفي نفيًا كليًا؛ مع أنها نسيت بعض أزمنة وجودها، وأما هم لما قالوا: ﴿ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا ﴾، ما كان يمكنهم أن يقولوا: نحن تصورنا كل زمان من أزمنة وجود أمك، وننفي عن كل واحد منها كونها بغيًا؛ لأن أحدًا لا يلازم غيره، فيعلم كل زمان من أزمنة وجوده، وإنما قالوا لها: إن أمك اشتهرت عند الكل حتى حكموا عليها حكمًا واحدًا عامًا أنها ما بغت في شيء من أزمنة وجودها[13].
﴿ وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا ﴾ [مريم: 33].
قال رحمه الله: إنما لم ينكر "سلام عيسى" في قوله تعالى: ﴿ وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ ﴾؛ فإنه في قصة دعائه الرّمز، إلى ما اشتق منه اسم الله تعالى، والسلام: اسم من أسمائه، مشتق من السلامة، وكل اسم ناديته به متعرض لما يشتق منه ذلك الاسم، نحو: يا غفور يا رحيم[14].
﴿ مَا كَانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحَانَهُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ﴾ [مريم: 35].
قوله تعالى: ﴿ إِذَا قَضَى أَمْرًا ﴾ أي: أراد[15].
قوله تعالى: ﴿ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ﴾، فضمير ﴿ لَهُ ﴾ عائد على الأمر، وهو إذ ذاك غير موجود، فتأويله: أنه لما كان سابقًا في علم الله كونه، كان بمنزلة المشاهد الموجود، فصح عودُ الضمير إليه.
وقيل: بل يرجع للقضاء؛ لدلالة ﴿ قَضَى ﴾ عليه، واللام للتعليل بمعنى "من أجل"، كقوله تعالى: ﴿ وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ ﴾ [العاديات: 8][16]، أي من أجل حبه[17].
﴿ أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنَا لَكِنِ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ ﴾ [مريم: 38].
قوله تعالى: ﴿ أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ ﴾، قال أبو الفتح[18]: التقدير "وأبصر بهم"، لكنه حذف لدلالة ما قبله عليه، حيث كان بلفظ الفضلة؛ وإن كان ممتنعًا في الفاعل.
وهذا التوجيه إنما يتم إذا قلنا: إن الجار والمجرور؛ في ﴿ أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ ﴾ في محل الرفع، فإن قلنا في محل النصب فلا[19].
قوله تعالى: ﴿ أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ ﴾، تقديره: ما أسمعهم وأبصرهم!؛ لأن الله تعالى لم يتعجب منهم، ولكنه دل المكلفين على أن هؤلاء قد نُزِّلوا منزلة من يُتعجب منه.
ومما يدل على كونه ليس أمرًا حقيقيًا ظهورُ الفاعل الذي هو الجار والمجرور في الأول، وفعل الأمر لا يبرز فاعله أبدًا.
ووجه التجوّز في هذا الأسلوب أن الأمر شأنه أن يكون ما فيه داعية للأمر؛ وليس الخبر كذلك، فإذا عبر عن الخبر بلفظ الأمر أشعر ذلك بالدّاعية فيكون ثبوته وصدقه أقرب، هذا بالنسبة لكلام العرب لا لكلام الله؛ إذ يستحيل في حقه سبحانه الداعية للفعل[20].
﴿ يَاأَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا ﴾ [مريم: 45].
قوله تعالى حكاية عن إبراهيم: ﴿ يَاأَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ ﴾، فإنه لم يخل هذا الكلام من حسن الأدب مع أبيه، حيث لم يصرح فيه بأن العذاب لاحقٌ له، ولكنه قال: ﴿ إِنِّي أَخَافُ ﴾، فذكر الخوف والمسّ، وذكر العذاب ونكّره ولم يصفه بأنه يقصد التهويل بل قصد استعطافه، ولهذا ذكر ﴿ الرَّحْمَنِ ﴾ ولم يذكر "المنتقم" ولا "الجبَّار" على حد قوله:
فما يوجِع الحرمانُ من كفِّ حارمٍ ♦♦♦ كما يوجع الحرمانُ من كفِّ رازقِ[21]
قوله تعالى: ﴿ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ ﴾، أي من عند الرحمن، لظهور ﴿ قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ ﴾ [المائدة: 15][22].
﴿ قَالَ أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَاإِبْرَاهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا ﴾ [مريم: 46].
قال ابن فارس: وكل شيء في القرآن ﴿ لَنَرْجُمَنَّكُمْ ﴾ [23]، و﴿ يَرْجُمُوكُمْ ﴾[24]، فهو القتل، غير التي في سورة مريم عليها السلام: ﴿ لَأَرْجُمَنَّكَ ﴾، يعني: لأشتمنَّك[25].
﴿ وَوَهَبْنَا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنَا وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيًّا ﴾ [مريم: 50].
قال رحمه الله: من معاني اللام: التمليك، نحو: وهبت لزيد دينارًا، ومنه قوله تعالى: ﴿ وَوَهَبْنَا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنَا ﴾ [26].
﴿ وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا ﴾ [مريم: 52].
قال رحمه الله: في قوله تعالى: ﴿ وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا ﴾ لطيفة؛ فإنه تعالى بين أنه كما ناداه ناجاه أيضًا، والنداء مخاطبة الأبعد، والمناجاة مخاطبة الأقرب؛ ولأجل هذه اللطيفة أخبر سبحانه عن مخاطبته لآدم وحواء بقوله: وَ﴿ قُلْنَا يَاآدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ ﴾[27]، وفي موضع: ﴿ يَاآدَمُ اسْكُنْ ﴾ [28]، ثم لما حكى عنهما ملابسة المخالفة، قال في وصف خطابه لهما: ﴿ وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا ﴾ [الأعراف: 22] [29]، فأشعر هذا اللفظ بالبعد لأجل المخالفة، كما أشعر اللفظ الأول بالقرب عند السلامة منها[30].
قال السهيلي[31] في كتاب "الإعلام" في قوله تعالى حكاية عن موسى عليه السلام: ﴿ وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا ﴾ [مريم: 52]، وقال للنبي صلى الله عليه وسلم: ﴿ وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنَا إِلَى مُوسَى الْأَمْرَ ﴾ [القصص: 44] [32]، والمكان المشار إليه واحد، قال: ووجه الفرق بين الخطابين أن ﴿ الْأَيْمَنِ ﴾ إما مشتق من اليُمن وهو البركة، أو مشارك له في المادة، فلما حكاه عن موسى في سياق الإثبات أتى بلفظه، ولما خاطب محمدًا صلى الله عليه وسلم في سياق النفي عدل إلى لفظ ﴿ الْغَرْبِيِّ ﴾ لئلا يخاطبه، فيسلب عنه فيه لفظًا مشتقًا من "اليُمن" أو مشاركًا في المادة، رفقًا بهم في الخطاب، وإكرامًا لهما، هذا حاصل ما ذكره بمعناه موضح[33] وهو أصل عظيم في الأدب في الخطاب[34].
﴿ وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا ﴾ [مريم: 54].
قوله تعالى: ﴿ وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا ﴾، يرِد إشكال وهو: أنه لا يجوز أن يكون ﴿ نَبِيًّا ﴾ صفة لـ "رسول"؛ لأن النبي أعم من الرسول؛ إذ كل رسول من الآدميين نبي ولا عكس.
والجواب أن يقال: إنه حال من الضمير في ﴿ رَسُولًا ﴾، والعامل في الحال ما في "رسول" من معنى "يرسل"، أي كان إسماعيل مرسلا في حال نبوته، وهي حال مؤكدة، كقوله: ﴿ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا ﴾ [البقرة: 91] [35].
﴿ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمَنُ عِبَادَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّهُ كَانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا ﴾ [مريم: 61].
قوله تعالى: ﴿ إِنَّهُ كَانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا ﴾، أي: آتيا[36].
﴿ لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا إِلَّا سَلَامًا وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيًّا ﴾ [مريم: 62].
قوله تعالى: ﴿ لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا إِلَّا سَلَامًا ﴾، أي إن كان تسليم بعضهم على بعض، أو تسليم الملائكة عليهم لغوًا، فلا يسمعون لغوًا إلا ذلك؛ فهو من باب قوله:
ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم ♦♦♦ بهن فلول من قراع الكتائب[37]
يتبع