
13-03-2020, 03:13 AM
|
 |
قلم ذهبي مميز
|
|
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 159,286
الدولة :
|
|
رد: ركائز العمل المؤسساتي في الإسلام: الواقعية
ركائز العمل المؤسساتي في الإسلام: الواقعية
عبدالستار المرسومي
وللمشاورَة مقدِّمات أشارَت إليها الآيةُ الآنفة الذِّكر، وهذه المقدمات هي:
♦ أن تشاور أهلَ الله جلَّ جلاله، والسائرين في طريقه جلَّ جلاله، وأنَّ مجمل عمليَّة المشاورة يجب أن تكون في ذات الله جلَّ جلاله؛ لعلَّها تصيب رحمتَه جلَّ جلاله، ولهذا ابتدأت الآية: ï´؟ فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ ï´¾ [آل عمران: 159]، ويستحسن ألا يُشاوِرَ أهلَ الفسوق والفجور إلاَّ مضطرًّا وفي الحالات الخاصَّة التي لا يتخصَّص بها غيرهم.
ومن هنا وجب على مَن كان في رأس هرَم - أي: فريق عمل - أن يشاوِر من يتَّصف بهذه الصِّفة ليكون أهلاً للمشورة، لقد كان عمر بن عبدالعزيز يطلب المشورةَ والنَّصيحة من الحسن البصري رحمه الله، فقد كتب عمر بن عبدالعزيز رحمه الله إلى الحسن البصري يسأله عن صِفة الإمام العادِل، فكتب له الحسن البصريُّ: "اعلم يا أمير المؤمنين أنَّ الله جعل الإمامَ قوام كلِّ مائل، وقصد كلِّ جائر، وصلاح كلِّ فاسد، وقوة كل ضعيف، ونُصرة كلِّ مظلوم، ومَفزَع كل ملهوف، والإمام العادل كالرَّاعي الشفيق على إبله والرَّفيق بها، الذي يرتاد لها أطيبَ المراعي، ويذودها عن مراتع الهلَكة، ويحميها من السِّباع، ويكنُّها عن أذى الحرِّ والقرِّ.
والإمام العادِل كالأب الحاني على ولده؛ يسعى لهم صغارًا، ويعلِّمهم كبارًا، يَكتسب لهم في حياته، ويدَّخر لهم بعد مماته.
والإمام العادل يا أمير المؤمنين كالأمِّ الشَّفيقة البرَّة الرفيقة بولدها، حملَته كرهًا ووضعَته كرهًا، وربَّته طفلاً؛ تسهر بسهره، وتسكن بسكونه، وترضعه تارة وتفطمه تارة أخرى، وتفرح بعافيته، وتغتمُّ بشكايته.
والإمام العادل: كوصي اليتامى وخازِن المساكين؛ يربِّي صغيرَهم، ويمون كبيرهم.
والإمام العادل: كالقلب بين الجوارح؛ تصلُح الجوارحُ بصلاحه، وتفسد بفساده.
والإمام العادل: هو القائم بين الله وبين عباده؛ يسمع كلامَ الله ويُسمعهم، ويَنظر إلى الله ويُريهم، وينقاد إلى الله ويقودهم.
فلا تكن يا أمير المؤمنين فيما ملَّكك الله جلَّ جلاله كعبدٍ ائتمنه سيِّدُه واستحفظه مالَه وعياله، فبدَّد المال، وشرَّد العيال؛ فأفقر أهلَه، وفرَّق مالَه"[10].
♦ المشاورة تكون مع الذين بين الفرد وبينهم تعامُل باللِّين والحسنى، وجاءت هذه في قول الله تعالى: ï´؟ لِنْتَ لَهُمْ ï´¾ [آل عمران: 159].
♦ ألاَّ تكون مع من حصل بينهم شَحناء وغِلظة وتشاجر؛ لأنَّ ذلك الأمر يؤدِّي إلى النفرة من المستشير، وقد لا يحصل على مراده، ï´؟ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ ï´¾ [آل عمران: 159].
♦ يفضَّل أن يكون هناك تعامل سابق، وأن تكون قد أسديتَ لهم معروفًا؛ كأن تكون قد عفوتَ عنهم سابقًا، أو أنَّك تدعو لهم؛ حتى يبعث فيهم الإحساس أنَّهم يقومون بردِّ الجميل، قال تعالى: ï´؟ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ ï´¾ [آل عمران: 159].
وبعد الأخذ بكلِّ هذه المقدِّمات، ينطلق الفرد فيشاور وفق الأسس التالية:
1- هناك استشارة عامَّة وخاصَّة؛ فالعامَّة أن يُستشار إنسان له خبرة في الحياة بشكلٍ عام وله معرفة بالناس، فيوجِّه المستشير توجيهًا عامًّا إلى ماذا يمكن أن يعمل؛ بمعنى أنَّه يضع له خارطة طريق.
وأمَّا الاستشارة الخاصَّة، فهي المتعلِّقة بموضوع الاستشارة؛ كأن يستشير طبيبًا في إجراء عملية جراحيَّة، ومهندسًا في بناء بيت، وميكانيكيًّا في شراء سيارة وهكذا، يقول الشاعر:
أُشاوِر أَهلَ الرَّأي فيما يَنوبُني
وَإن كان لِي رأيٌ أَحَدُّ صَليبُ 
ولا أدَّعي بالجَهل عِلمًا لِسائلٍ
ولا أحسُدُ المَسؤول حين يُجيبُ 
2- في الاستشارة الخاصَّة تفضَّل استشارة صاحب التجربة العمليَّة المشابهة لقضيَّة المستشير، يقول الشاعر:
ودَعِ المضلِّلَ والمُخاتِلَ إنَّنا ♦♦♦ ضِقنا بتضليل الدعاةِ خِناقَا
3- الاستشارة أمانة، والأمانة حمل ثَقيل، فينبغي أن يَنتبه المستشير أين يضع أمانتَه، وينتبه المستشار إلى حَجم الأمانة الملقاة على عاتقه، فعن أبي مسعودٍ الأنصاري رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((المستشار مؤتمَن))[11].
4- عدم الاعتماد على ما يقدِّمه المستشار؛ لأنَّ الأمر بالتالي ليس بيده، وهو يُبدي للمستشير رأيًا ليس إلاَّ، وإنَّما التوكُّل يكون على الله جلَّ جلاله تحديدًا.
5- عدم الإكثار من المستشارين؛ فيكفي أن يُستشار واحد أو اثنان؛ لأنَّ مع الكثرة قد لا تتطابق الآراء، فيكون بجعبة المستشير أكثر من رأيٍ، فيتشتَّت أمام كثرة البدائل، ويصعب عليه اتِّخاذ القرار المناسِب في الوقت المناسب.
6- الانتباه إلى قضيَّة الوقت في المشاورة؛ لأنَّه قد تأتي المشورة مطابقة، ولكن بعد فوات الأوان.
7- الإيمان بأنَّ المشورة سبب، وأنَّ النتائج عند الله جلَّ جلاله، فوجب تعلُّق القلب بالله جلَّ جلاله.
8- الاستشارة لا يُقصد منها الاستفادة في موضوع معيَّن فقط؛ وإنَّما تُستثمر كرابطٍ جيد وفعَّال في توثيق العلاقة بين الأطراف أيضًا، وبذلك تكون مساعدًا عمليًّا في ضبط البوصلة.
♦ عدم استعجال النتائج؛ فمن الأخطاء التي يقع فيها معظَم النَّاس أنَّهم يَستعجلون نتائجَ الأشياء، فقد فقدوا الصَّبرَ على انتظار النتائج، ويرغبون في ظهور نتائج إيجابيَّة عن أي عملٍ يقومون به، ويرفضون بشدَّة النتائج السلبيَّة وإن كانت انعكاسًا لأخطائهم، وإنَّ ثمرة الصَّبر عظيمة، ولقد كافأ الله جلَّ جلاله نبيَّه يعقوب عليه السلام بعودة ولده نبيِّ الله يوسف عليه السلام بعد فترةِ صبرٍ عصيبة، ولكن النتائج كانت باهِرة، يقول الفضيل بن عياض رحمه الله: "كان بين فراق يوسف حجرَ يعقوب إلى أن التقيا ثمانون سنة"[12].
♦ مصاحبة أهل الإيمان: في الغالب حين تتوفَّر مواصفات متميزة للفرد من الجوانب الماديَّة أو الاجتماعيَّة أو الوظيفيَّة، يتحلَّق حول ذلك الشخص الآخرون طلبًا للمنفعة، والقليل من هؤلاء هم المخلصون الصادِقون من الذين همهم قضيتهم التي يعملون من أجلها، مِن هنا كان لا بدَّ للفرد من الانتباه والتمييز بين من يقترب من أجل المنفعَة، وسيتنازل عن العلاقة والمعيَّة في أقرب وقت أو تحت ضغط أي أَزمَة، وبين المخلِص الذي يسير مع الصديق حتى نهاية المطاف لا تؤثِّر فيه عوائقُ المسيرة ولا مطبات الأزمات، فعن أبي سعيد الخدري، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((لا تصاحِب إلاَّ مؤمنًا، ولا يأكل طعامَك إلا تقي))[13].
لقد وضع رسولُ الله محمد صلى الله عليه وسلم الصحابيَّ أبا ذر الغفاري على طريق الواقعية في التعامل مع الآخرين عندما قدَّم له وصفة في التعامل معهم، فعن أبي ذرٍّ رضي الله عنه، قال: أوصاني خليلي صلَّى الله عليه وسلم، بخصالٍ من الخير: أوصاني:
♦ بأن لا أنظر إلى من هو فوقي.
♦ وأن أنظر إلى من هو دوني.
♦ وأوصاني بحب المساكين والدنوِّ منهم.
♦ وأوصاني أن أصل رحمي وإن أدبرَت.
♦ وأوصاني ألاَّ أخاف في الله لومة لائم.
♦ وأوصاني أن أقول الحقَّ وإن كان مُرًّا.
♦ وأوصاني أن أُكثر من قول: لا حول ولا قوة إلا بالله؛ فإنَّها كنز من كنوز الجنة"[14].
[1] متفق عليه، واللفظ لمسلم.
[2] الخول: الخدم والعبيد.
[3] صحيح البخاري - كتاب الإيمان - باب: المعاصي من أمر الجاهلية.
[4] صحيح البخاري - كتاب العلم باب من خص بالعلم قومًا دون قوم.
[5]كتاب الزهد، الإمام أحمد بن حنبل - أخبار الحسن بن أبي الحسن، الحديث 1628.
[6] جامع معمر بن راشد - باب إفشاء السلام.
[7] معرفة الصحابة؛ لأبي نعيم الأصبهاني - باب السين - من اسمه سفيان - سواد بن غزية الأنصاري.
[8] المعجم الأوسط للطبراني - باب الميم - من اسمه: محمد.
[9] مسند أبي يعلى الموصلي - مسند عائشة.
[10] الحكمة والحوار علاقة تبادلية؛ د. عباس محجوب، ص 86 - 87.
[11] سنن الدارمي - كتاب السير - باب: المستشار مؤتمن.
[12] المستدرك على الصحيحين للحاكم - كتاب تواريخ المتقدمين من الأنبياء والمرسلين - ذكر يوسف بن يعقوب صلوات الله عليهما.
[13] صحيح ابن حبان - كتاب البر والإحسان - باب الصحبة والمجالسة - ذكر الأمر للمرء أن لا يصحب إلا الصالحين.
[14] صحيح ابن حبان - كتاب البر والإحسان باب صلة الرحم وقطعها - ذكر وصية المصطفى صلى الله عليه وسلم بصلة الرحم.
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟ فبكى رحمه الله ثم قال : أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.
|