عرض مشاركة واحدة
  #1  
قديم 13-03-2020, 03:12 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 158,410
الدولة : Egypt
افتراضي ركائز العمل المؤسساتي في الإسلام: الواقعية

ركائز العمل المؤسساتي في الإسلام: الواقعية
عبدالستار المرسومي



خامسًا: الواقعية





وننطلق لمفهوم الواقعيَّة في العلاقات بين الناس من أساسين في غاية الأهمية، هما:

الأساس الأول: أنَّ الإنسان مخلوق، وأنَّ أهمَّ صفة للمخلوق أنَّه غير كامل، وغير الكامل تعتريه الكثير من صفات النَّقص المختلفة؛ كالجهل والطمع، والعجز والحسد، والنسيان والغفلة، والغيرة والبخل، وضعف النفس وغلبة الشهوة، وليس بالضرورة أن تظهر كلُّ هذه الصفات السلبيَّة مجتمعة مرَّة واحدة، ولكنها قد تظهر كلُّ واحدة منها حسب الحال الذي يكون عليه الفرد؛ كمثال على ذلك: فإنَّ البخل لا يظهر إلاَّ حين يمتلك الفرد المالَ ولا ينفقه في أبواب الخير، وسوء الخُلُق يَظهر عند السفر مثلاً.



ونذكر هنا بعضَ الصِّفات السلبيَّة والسيئة التي تُلازم الإنسان والتي جاء ذكرُها في القرآن الكريم، يقول تعالى: ﴿ قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذًا لَأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الْإِنْفَاقِ وَكَانَ الْإِنْسَانُ قَتُورًا ﴾ [الإسراء: 100]، وقال تعالى: ﴿ خُلِقَ الْإِنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ سَأُرِيكُمْ آيَاتِي فَلَا تَسْتَعْجِلُونِ ﴾ [الأنبياء: 37]، وقال تعالى: ﴿ وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا ﴾ [الأحزاب: 72]، وقال تعالى: ﴿ إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا ﴾ [المعارج: 19]، وقال تعالى: ﴿ كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى * أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى ﴾ [العلق: 6، 7].



وفي العادة تؤثِّر في سلوك الفرد ظروفٌ مختلفة تحيط به؛ كالحرَج والخوف، والجوع والحاجة، وفقدان الأمن، فيظهر منه نتيجة لذلك سلوكٌ معيب عرفًا أو محرَّمٌ شرعًا، أو نراه نحن كذلك؛ لذلك لا بدَّ من مراعاة كل ذلك، واعتبار ذلك هو واقع الإنسان الذي لا مفرَّ منه.



وعلى هذا الأساس تعامَل رسولُ الله محمد صلى الله عليه وسلم مع ذلك الأعرابيِّ الذي كان يسيء له شخصيًّا؛ بسبب جهله، وطبعه الغليظ، الآتي من تأثيرات عمق الصحراء، فعن أنس بن مالكٍ رضي الله عنه قال: "كنتُ أمشي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وعليه بُردٌ نجرانيٌّ غليظُ الحاشية، فأدركه أعرابيٌّ فجبذه بردائه جبذةً شديدةً، حتى نظرتُ إلى صفحة عاتق رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أثَّرَت بها حاشيةُ البُرد من شدَّة جبذته، ثُمَّ قال: يا محمد، مُر لي من مال الله الذي عندك! فالتفت إليه رسولُ الله صلى الله عليه وسلم ثُمَّ ضحك، ثُمَّ أمر له بعطاءٍ"[1].



الأساس الثاني: أنَّ الناس قد كُتبَت لهم أقدار قدَّرها الله جلَّ جلاله لهم، ليسوا لها بمختارين؛ كالرزق والشَّكل، ولون البشرة، ومستوى الذَّكاء، واختيار الوالدين، فينبغي أن يكون التعامُل معهم وفق هذا الواقع، وألَّا يُتجاوز على حقوقهم البشريَّة بسبب ذلك، فعن المعرور بن سويد رضي الله عنه قال: لقيتُ أبا ذرٍّ بالربذة، وعليه حلَّة، وعلى غلامه حلَّة، فسألتُه عن ذلك، فقال: إنِّي ساببتُ رجلاً فعيَّرتُه بأمِّه، فقال لي النبيُّ صلى الله عليه وسلم: ((يا أبا ذر، أعيَّرتَه بأمِّه؟ إنك امرؤ فيك جاهليَّة، إخوانكم خوَلكم[2]، جعلهم الله تحت أيديكم، فمن كان أخوه تحت يده، فليُطعِمه ممَّا يأكل، وليلبِسه ممَّا يلبس، ولا تكلِّفوهم ما يغلبهم؛ فإن كلَّفتموهم فأعينوهم))[3].



أمام هذا الواقع أصبح من المنطق أن يكون التعامل مع الآخرين بواقعيَّة هذه الأسس، ومن هنا وجب التعامل مع الآخرين وفق الواقع المتاح لنا ولهم، ضمن المناخ الذي نعيشه، بمعنًى آخر: وفق الظُّروف التي نعيشها؛ لأنَّ الأمور التي نتعايش معها اليوم تختلف عن عصر الصحابة رضي الله عنهم وعن عصر صلاح الدين الأيوبي؛ فتلك العصور لها خصوصيتها، وعصرنا له خصوصيته (في أمور الدنيا).



إنَّ تقبُّل واقع الآخرين يَمنحنا فرصةً مناسبة للتعامل معهم، ونتقبَّل الواقع كما هو، بسلبيَّاته وإيجابياته، فنعمل لمعالجة السلبيَّات واستثمار الإيجابيَّات؛ لنجعل كلَّ هذه الأمور تصب في مشروع أهدافنا التي رسمناها.



فأصبح من موجبات العقل ألاَّ نطلب من النَّاس أن يكونوا كالملائكة في تصرُّفاتهم، فنحبُّهم ألا يخطئوا ولا يقصروا ولا يجزعوا، وإذا عملوا عملاً أن يتقنوه ويقدِّموه كاملاً رائعًا، فإذا طلبنا ذلك منهم سنكون قد تصرَّفنا بعيدًا عن الواقعيَّة؛ لأنَّهم ببساطة ليسوا ملائكة.



وعلينا أن نتذكَّر دائمًا أنَّ الآخرين بشر مثلنا، فنسمح لهم بنِسبة مقبولة من الخطأ ونَعذرهم في ذلك، مثلما نَسمح لأنفسنا في ذلك، ونساعدهم على تخطِّي عقبات الأخطاء بكلِّ الوسائل المتاحة لنا.



ولعلَّ هذا هو السَّبب الرئيس والمباشِر الذي دفع عليَّ بن أبي طالب رضي الله عنه لأن يقول: "حدِّثوا الناسَ بما يعرفون؛ أتحبون أن يُكذَّبَ اللهُ ورسوله؟"[4]، يقول الفضل بن الوليد:

لئن تكُ زلاتُ الكبارِ كبيرةً ♦♦♦ فأكبرُ منها من عَفا وأقالَها



ويقول شاعر آخر:



إذا كان أصلُ الناسِ من حَمَأٍ فما

عسى أن يُرى في الفرعِ صفو المشاربِ



إذا كنتَ تبغي صاحبًا دون زلَّةٍ

أُجِئتَ إلى زلاتِ غير المصاحبِ






وحين نسمح للآخرين بالخطأ ولا نستعجل بالحكم على تصرُّفاتهم حتى نتبيَّن الأمر، فإنَّنا في تلك اللَّحظة نتصرَّف بغاية الواقعيَّة في الموضوع، ولكن قبولنا بنسبة مقبولة من أخطاء الآخرين لا يعني أن نترك لهم الحبلَ على الغارب فنقبل منهم كلَّ الأخطاء؛ لأنَّ هذا الأمر سيشجِّعهم على التمادي واقتراف المزيد من الأخطاء.



ومن الواقعية ألاَّ نعيِّر أحدًا على خطأ ارتكبَه أو فِعل قام به؛ لأنَّ ذلك ليس دورنا في الحياة، وإنَّما النَّصيحة والتقويم؛ لأنَّنا ربَّما جاء اليوم الذي نفعل ما فعل ذلك الفرد، عن صالح المري قال سمعت الحسن البصري يقول: كنا نحدث أنه من عير أخاه بذنب قد تاب الي الله منه، ابتلاه الله عز وجل به.[5].



وتكون العلاقة واقعيَّة حين تكون منصِفة بين الطَّرفين أو الأطراف، وإنَّ إنصاف الآخرين من أنفسنا لهو من رفعة الأخلاق وتمامها، يقول عمَّار بن ياسر رضي الله عنه: "ثلاث من كُنَّ فيه وجد بهنَّ حلاوة الإيمان: الإنفاق من الإقتار، وإنصاف الناس من نفسك، وبَذل السلام للعالم"[6].



لقد مكَّن رسولُ الله محمد صلى الله عليه وسلم بعضَ الصحابة رضي الله عنهم من نفسه الشريفة الطَّاهرة الزكيَّة؛ وما فعل ذلك إلا أنَّه مؤمن أنَّ القدوة لا بدَّ أن يكون أول من يطبِّق ما يدعو له، وهنا موضع الإنصاف من النَّفس، فإنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم عدَّل صفوفَ أصحابه يوم بدر، وفي يده قدح يعدِّل به القوم، فمرَّ بسواد بن غزية رضي الله عنه حليف بني عدي بن النجار، قال: وهو مستنتل من الصفِّ، فطعن رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بالقدح في بطنه، وقال: ((استوِ يا سواد))، فقال: يا رسول الله، أوجعتَني وقد بعثك الله بالعدل، فأقِدني، قال: فقال له رسولُ الله صلى الله عليه وسلم ((استقِد))، قال: يا رسول الله، إنَّك طَعنتني وليس عليَّ قميص، قال: فكشف رسولُ الله صلى الله عليه وسلم عن بطنه، وقال: ((استقِد))، قال: فاعتنقه، وقبَّل بطنَه، وقال: ((ما حملَك على هذا يا سواد؟))، قال: يا رسول الله، حضرني ما ترى، ولم آمَن القتل، فأردتُ أن يكون آخر العهد بك أن يمسَّ جلدي جلدك، فدعا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم له بخير[7].



عن أنس بن مالك، عن النبي صلى الله عليه وسلم: ((ثلاث مهلِكات:

شح مطاع.

وهوًى متَّبَع.

وإعجاب المرء بنفسه من الخيلاء.



وثلاث منجيات:

العدل في الرضا والغضب.

والقصد في الغنى والفاقة.

ومخافة الله في السرِّ والعلانية))[8].



وليس من الواقعيَّة أن نعامل الجميعَ بنفس الطَّريقة أو بنفس المستوى؛ فالنَّاس مراتب ومنازل، مثلما هم متفاوتون في مستوى العمل وفي المسؤولية، فاقتضى أن نعطي كلَّ ذي قدر قدرَه، فعن أمِّ المؤمنين عائشة بنت الصدِّيق رضي الله عنها، قالت: "أمَرَنا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أن ننزِل الناسَ منازلَهم"[9]، وهذه المنازل تتفاوت من حيث: العلم، الوظيفة، المكانة الاجتماعية، والراتب وفقًا لنوع العمل، ولكنها متساوية في الإنسانيَّة واستحقاقاتها، المتمثلة في الكرامة وحق الحياة، والمطعم والمأكل والمجلس، وغيرها.



المشاورة: فالواقع يقول: إنَّ الإنسان يَحتاج إلى مشورة الآخرين، بل لا غنى له عنها، والسبب هو عدم كماله، فعجزه وقلَّة عِلمه ومحدوديَّة إمكاناته تُلجئه إلى من يقدِّم له المشورة، والمشاورةُ مع رفقاء المسيرة في الحياة، سواء في العمل أو في الدراسة أو أي مكان آخر - واجبةٌ؛ لذلك خاطَب بها الله جلَّ جلاله نبيَّه بصيغة فِعل الأمر (شاوِر)؛ حيث قال تعالى:﴿ فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ ﴾ [آل عمران: 159]، والمشاورَة لها أصولها وطُرقها، فلا بدَّ أن يعي الفردُ لماذا يشاور؟ ومتى؟ ومَن يشاور؟ وفي أيِّ شيء؟



يتبع

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 27.74 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 27.12 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (2.26%)]