عرض مشاركة واحدة
  #2  
قديم 10-03-2020, 03:47 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 167,020
الدولة : Egypt
افتراضي رد: لماذا قتل هارون الرشيد جعفرا؟

لماذا قتل هارون الرشيد جعفرا؟


د. سعيد إسماعيل صيني


وروى الخطيب البغدادي أن الرشيد كان يقول إنا من قوم عظمت رزيتهم وحسنت بعثتهم. ورثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وبقيت فينا خلافة الله. وبينما الرشيد يطوف يوما بالبيت إذ عرض له رجل فقال يا أمير المؤمنين إني أريد أن أكلمك بكلام فيه غلظة. فقال: لا؛ ولا نعمت عين، قد بعث الله من هو خير منك إلى من هو شر مني. فأمره أن يقول له قولا لينا. وعن شعيب بن حرب قال: رأيت الرشيد في طريق مكة فقلت في نفسي قد وجب عليك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فخوفتني زوجتي. فقالت: إنه الآن يضرب عنقك. فقلت: لا بد من ذلك؛ فناديته فقلت: يا هارون قد أتعبت الأمة والبهائم. فقال: خذوه فأدخلت عليه وهو جالس على كرسي فقال: ممن الرجل؟ فقلت: رجل من المسلمين. فقال: ثكلتك أمك؛ ممن أنت؟ فقلت: من الأنبار. فقال: ما حملك على أن دعوتني بإسمي؟ فخطر ببالي شيء لم يخطر قبل ذلك فقلت: أنا أدعو الله باسمه "يا الله" أفلا أدعوك باسمك؟ وهذا الله سبحانه قد دعا أحب خلقه إليه بأسمائهم: يا آدم، يا نوح، يا هود، يا صالح، يا إبراهيم، يا موسى، يا عيسى، يا محمد. وكنّى أبغض خلقه إليه، فقال ﴿ تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ ﴾ [المسد: 1]. فقال الرشيد أخرجوه أخرجوه.[34] ومن المعلوم أن هذه الطريقة تخالف أمر الله بالدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة، ولكن الإنصاف كان من صفات هارون الرشيد.

ويقول وكيع قال الرشيد لأبي بكر: يا أبا بكر ادن، فلم يزل يدنيه فلما قرب منه، قال وكيع تركته ووقفت حيث أسمع كلامه. فقال له الرشيد: يا أبا بكر. قد أدركت أيام بني أمية وأدركت أيامنا، فأينا كان أخيَر؟ قال وكيع فقلت: اللهم ثبت الشيخ. فقال: يا أمير المؤمنين أولئك كانوا أنفع الناس، وأنتم أقوم بالصلاة. فصرفه الرشيد، وأجازه بستة آلاف، وأجاز وكيع بثلاثة آلاف.[35].

وطلب الرشيد إحضار بعض القرشيين، حيث بلغه أنهم يحرضون على إزالة خلافته، وكان منهم الشافعي. يقول الشافعي: كنت من بين المجموعة أصغر سنا فجيء بنا إلى هارون الرشيد. قال ثم أُمر بنا فأدخلنا على هارون. فقال: يا معشر قريش ما حملكم على ما بلغنى عنكم؟ ولا تكثروا علىّ. قدموا منكم من يكلمنى عنه وعنكم. فقالوا قد قدمنا هذا، وأشاروا إلىّ، وتقدمت ويديّ مغلولة إلى عنقى. فلما نظر إلىّ صعد فى البصر، وصوبه ثم قال: يا معشر قريش ألم أجبر فقيركم وأكبر كبيركم، وأتفقد صغيركم، وألُمّ شعثكم، وأحسن اليكم، وأقسم العطاء فى كل موسم فيكم؟ وأنتم الآن تدعون الخوارج من آل علي لتحملوا علىّ أمة محمد بالسيف. فقلت: أصلح الله أمير المؤمنين، ووفقه لما يرضى به عنه. إن بنى على لا يرون قريشا إلا كعبيدهم، وأنتم تعرفون لقريش حق القرابة. فهل يصح دعوى مدع عند من يعقل أنه يرضى أن يتآمر عليه من يعده عبدا، ويترك أن يتآمر عليه من يراه ابن عمه ومثله فى نسبه؟ قال فسكت ساعة ثم قال: من أنت؟ قلت: أنا من ولد المطلب ابن عبد مناف. أنا محمد بن إدريس بن العباس بن عثمان بن شافع بن السائب بن عبيد بن عبد يزيد بن هاشم بن المطلب بن عبد مناف بن قصى. فقال الرشيد. أطلقوا عنه وعن الذين معه من قريش. قال الشافعى فحل وثاقى ووثاقهم وأمر لنا بخمسمائة دينار وأمر لى بخمسين دينارا، وأمر لى يحيى بن خالد بخمسين دينارا أخرى [36].

وقال ثمامة بن أشرس رفع محمد بن الليث رسالة إلى الرشيد يعظه فيها ويقول: إن يحيى بن خالد لا يغني عنك من الله شيئا وقد جعلته فيما بينك وبين الله فكيف أنت إذا وقفت بين يدي الله فسألك عما عملت في عباده وبلاده فقلت استكفيت يحيى أمور عبادك أتراك تحتج بحجة يرضاها؟ ومع هذا الكلام توبيخ وتقريع. فدعى الرشيد يحيى، وقد تقدم إليه خبر الرسالة، فقال: تعرف محمد بن الليث؟ قال: نعم قال فأي الرجال هو؟ قال: متهم على الإسلام. فأمر به فوضع في الحبس دهرا. فلما تنكر الرشيد للبرامكة ذكره فأمر بإخراجه فأحضر. فقال له بعد مخاطبة طويلة: يا محمد أتحبني؟ قال: لا. والله يا أمير المؤمنين. قال: تقول هذا؟ قال: نعم، وضعت رجلي في الأكبال، وحلت بيني وبين العيال بلا ذنب أتيت ولا حدث أحدثت، سوى قول حاسد يكيد الإسلام وأهله ويحب الإلحاد وأهله. فكيف أحبك؟ قال: صدقت؛ وأمر بإطلاقه، ثم قال يا محمد أتحبني؟ قال: لا، والله يا أمير المؤمنين، ولكن قد ذهب بما في قلبي. فأمر أن يعطى مائة ألف درهم فأحضرت، فقال: يا محمد أتحبني؟ قال: أما الآن فنعم، قد أنعمت عليّ وأحسنت إليّ. قال [هارون] انتقم الله ممن ظلمك، وأخذ لك بحقك ممن بعثني عليك [37].

وكان الخليفة هارون يكرم العلماء بعد وفاتهم. قدم عبد الملك بن محمد بن أبي بكر أبو طاهر الأنصاري المدني بغداد. فحدّث بها، وروى عنه سريج بن النعمان. وكان ثقة جليلا من أهل العلم والسنة والحديث، وولاه الرشيد القضاء بالجانب الشرقي من بغداد. فمكث أياما ثم مات فصلى عليه هارون، ودفنه في مقبرة العباسة بنت المهدي وقيل توفي في سنة ست وسبعين ومائة [38].

قصص سلبية حول هارون الرشيد:

قال أحمد بن يحيى المكي عن أبيه قال أرسل إليّ هارون الرشيد، فدخلت إليه وهو جالس على كرسي بتل دارا، فقال: يا يحيى غنني متى تلتقي الآلاف والعيس كلما تصعدن من واد هبطن إلى واد. فلم أزل أغنيه إياه، ويتناول قدحا إلى أن أمسى. فعددت عشر مرات استعاد فيها الصوت، وشرب عشرة أقداح، ثم أمر لي بعشرة آلاف درهم وأمرني بالإنصراف [39].

ومن القصص قصة الجارية المسماة بذات الخال لأنها كانت ذات خال على شفتها العليا. ولإبراهيم الموصلي وغيره فيها أشعار كثيرة. وكانت جارية لقرين المكي، مولى العباسة بنت المهدي. وكانت من أجمل النساء وأكملهن بلغ خبرها الرشيد فاشتراها بسبعين ألف درهم. فقال: فنهض إليها مسترضيا وأمر للعباس بألفي دينار، وغناه إبراهيم الموصلي وقال لها الرشيد يوما: أسألك عن شيء فإن صدقتني وإلا صدقني غيرك. قالت: أنا أصدقك. قال: هل كان بينك وبين إبراهيم الموصلي شيء قط وأنا أحلفه فيصدقني؟ فتلكأت ساعة ثم قالت: نعم مرة واحدة. فأبغضها. وقال يوما في مجلسه أيكم لا يبالي أن يكون كشخان حتى أهب له ذات الخال فبادر حمويه الوصيف فقال: أنا. فوهبها له ثم إنه اشتاق يوما بعد ذاك، فقال: يا حمويه ويحك أوهبنا لك الجارية على أن تسمع غناءها وحدك. فقال: يا أمير المؤمنين مر فيها بأمرك. قال: نحن غدا عندك. فمضى واستعد لذلك واستعار لها من الجوهريين بدنة وعقودا ثمنها اثنا عشر ألف دينار، وأخرجها للرشيد وهو عليها. فأنكره وقال: ويلك يا حمويه من أين لك هذا وما وليتك عملا تكسب فيه مثله ولا وصل إليك منى هذا القدر؟ فصدقه عن أمره، فبعث الرشيد إلى أصحاب الجوهر فأحضرهم واشترى الجوهر منهم ووهبه لها. ثم حلف أن لا تسأله في يومه حاجة إلا قضاها فسألته أن يولي حمويه الحرب والخراج بفارس سبع سنين. ففعل ذلك وكتب له عهده، وشرط على ولي العهد بعده أن يتممها له إن لم تتم في حياته [40].

قتل هارون الرشيد جعفرا عام 187 وحبس يحي وابنه الفضل إلى أن ماتا بالرقة. وقتل أنس بن أبي شيخ المتهم بالزندقة ويوالي البرامكة [41].
وينقل ابن كثير عن من سبقه من المؤرخين فيقول: قد كان جعفر يدخل على الرشيد بغير إذن حتى كان يدخل عليه وهو في الفراش مع حظاياه. وهذه وجاهة ومنزلة علية. وكان عنده من أحظى العشراء على الشراب المسكر. وكان أحب أهله إليه العباسة بنت المهدي وكان يحضرها معه وجعفر البرمكي حاضرا أيضا معه. فزوجه بها ليحل النظر إليها، واشترط عليه أن لا يطأها. وكان الرشيد ربما قام وتركهما وهما ثملان من الشراب فربما واقعها جعفر فحبلت منه فولدت ولدا وبعثته مع بعض جواريها إلى مكة وكان يربى بها.

ويقول الطبري، وقد كان الرشيد في اليوم الذى قتل جعفرا في آخره هو وإياه راكبين في الصيد في أوله وقد خلا به دون ولاة العهود. فلما كان وقت المغرب ودعه الرشيد وضمه إليه؛ وقال لولا أن الليلة ليلة خلوتي بالنساء ما فارقتك. فاذهب إلى منزلك واشرب واطرب وطب عيشا حتى تكون على مثل حالى، فأكون أنا وأنت في اللذة سواء. فقال والله يا أمير المؤمنين لا أشتهي ذلك إلا معك. فقال: لا. انصرف إلى منزلك. فانصرف عنه جعفر فما هو إلا أن ذهب من الليل بعضه حتى أوقع به من البأس والنكال ما تقدم ذكره. وكان ذلك ليلة السبت آخر ليلة من المحرم وقيل إنها أول ليلة من صفر في هذه السنة كان عمر جعفر إذ ذاك سبعا وثلاثين سنة [42].

ويضاف إلى ذلك قصة تزويج أخته العباسة صوريا لجعفر البرمكي، ليأنس بوجودهما معه في جلسات أنسه. وسيتم مناقشة هذه القصة بصفة مستقلة لخطورتها، ولبيان مصداقية ما يرد في كتب التاريخ.

وعند التأمل في القصص السابقة الإيجابية والسلبية، مع استبعاد المبالغات نجد 36 قصة غير مكررة في أكثر من عشرين مرجع، من بين 25 مرجعا، يغطي أخبار الرشيد إلى عام 911 للهجرة. وكلها تورد قصصا تؤكد أن من السمات الشخصية البارزة للخليفة العباسي هارون الرشيد ما يلي:
1- الخشية من الله والحرص على تقواه.
2- الحرص على التقرب إلى الله، بالحج وبالغزو وبالجود في أوجه الخير وبالتواصل مع العلماء والصالحين والحرص على الاستماع إلى نصائحهم، والتفقه في الدين، والحرص على حسن تربية أولاده.
3- وبالحكمة في التعامل مع الوشايات أو الشكاوى بين المقربين إليه.

ويقابل هذه السمة ست قصص تشير إلى أنه ممن يحيي مجالس الغناء ويعاقر الخمرة، ويفتقد الغيرة الفطرية والعقلية والشرعية بالنسبة لأخته العباسة. ولم يخل مرجعان منها من الإشارات التي تثبت خشية هارون الرشيد العظيمة من الله.

والسؤال من نصدق؟
القصص المتضافرة العديدة التي تؤكد خشية هارون الرشيد من الله خشية تفوق الخشية العادية التي نعرفها عند عامة الصالحين، وتصوره وفيا لمن يحسن إليه، وحريصا على كسب رضاء الله؟ أم المراجع المحدودة التي تقول بأنه يستبيح الخمر والغناء المختلط، ويفتقد الغيرة الفطرية والدينية على عرضه؟
وفي ظل السمة العامة لهارون الرشيد، وهي الخوف من الله والحرص على رضاه ومخالطة العلماء والصالحين، واعتزازه بنسبه الشريف وعروبته، وثقافته الدينية والدنيوية تبرز الأسئلة المنطقية والمبنية على الفطرة والعقل،، ومن أبرزها:
1- ما هي درجة احتمال انغماس هارون الرشيد في مجالس الغناء المختلط؟
2- ما هي درجة احتمال تعاطي هارون الرشيد الخمر والإدمان عليها؟
3- ما هي درجة احتمال افتقاد الخليفة العباسي إلى الغيرة الفطرية والعقلية والدينية على أخته العباسة؟

هارون الرشيد والبرامكة:
من مراجعة علاقة الخليفة العباسي بالبرامكة يجد الإنسان أن هارون الرشيد كان مكبلا من طفولته بالبرامكة. فيحيى أبوه من الرضاعة، والفضل وجعفر اخوته من الرضاعة. ولهذا كان سلوك يحيى يعكس نوعا من التسلط، ليس على الخليفة من الناحية الأدبية، ولكن تسلطا واقعيا على أسرته وبإصرار. ويؤكد ابن خلكان هذا النوع من السلطة، حيث يقول: بأن الرشيد فوض إلى يحيى أمور الخلافة وأزمّتِها، ولم يزل كذلك حتى كانت نكبة البرامكة.[43] ويثني المسعودي على البرامكة فيقول: للبرامكة أخبار حسان، وما كان منهم من الإفضال بالمعروف واصطناع المكارم، وغير ذلك من عجائب أخبارهم وسيرهم وما مدحتهم الشعراء به، ومراثيهم.[44].

الشخصيات الرئيسة من البرامكة:
وتتمثل الشخصيات الرئيسة التي ظهر سلطانها واضحا في حياة هارون الرشيد في يحيىى، وولديه الفضل وجعفر.
ويحيى بن خالد هو والد جعفر البرمكي، ضم إليه المهدي ولده الرشيد فرباه وأرضعته امرأته مع الفضل بن يحي. فلما ولى الرشيد عرف له حقه وكان يقول "قال أبي" قال أبي، وفوض إليه أمور الخلافة وأزمتها ولم يزل كذلك حتى نكبة البرامكة. وقيل أنه سأل الرشيد أن يعفيه من الولاية فأعفاه وأقام يحيى بمكة وفيها توفي. وقيل أنه مات في الحبس بعد مقتل ابنه جعفر، في الرقة، في العراق [45].

يقول المسعودي أن هارون الرشيد قتل جعفرا وخلّد أباه يحي في الحبس حتى مات عام 189هـ. والمشهور أن يحيى بن خالد توفى قبل ابنه الفضل. وكان كريما فصيحا ذا رأى سديد، ويظهر من أموره خير وصلاح. قال يوما لولده خذوا من كل شئ طرفا. فإن من جهل شيئا عاداه. وقال لأولاده اكتبوا أحسن ما تسمعون، واحفظوا أحسن ما تكتبون، وتحدثوا بأحسن ما تحفظون. وكان يقول لهم: إذا أقبلت الدنيا فأنفقوا منها، فإنها لا تبقى، وإذا أدبرت فأنفقوا منها، فإنها لا تبقى. وكان إذا سأله أحد، في الطريق وهو راكب، أقل ما يأمر له بمائتي درهم [46].

وعندما حج الرشيد بالناس عام 181، سأله يحى بن خالد أن يعفيه من الولاية فأعفاه وأقام يحي بمكة وفيها توفي.[47] ويعود ابن كثير فيقول في عام 182هـ رجع يحيى بن خالد البرمكي من مجاورته بمكة إلى بغداد [48].
ويحيى هو الذي عيّن ابنه جعفرا وزيرا لابنه من الرضاعة هارون الرشيد [49].

والفضل ابن خالد بن برمك أخو جعفر وأخوته كان هو والرشيد يتراضعان: أرضعت الخيزران فضلا، وأرضعت أمه هارون الرشيد [50].

قال ابن الجوزي بأن الفضل توفي في سنة 192هـ . أما ابن جرير فيقول في المحرم من عام 193هـ، أي أن وفاته كانت في نفس العام الذي توفي فيه هارون الرشيد [51].

ويقول ابن خلكان كان جعفر متمكنا عند الرشيد، غالبا على أمره، واصلا منه. وبلغ من علو المرتبة عنده ما لم يبلغه سواه. ولم يكن للرشيد صبر عنه. ثم تغيّر الرشيد عليه وعلى البرامكة كلهم، آخر الأمر ونكبهم وقتل. وكانت ولادة جعفر عام 150؛ وقتله عام 187، وعمره إذ ذاك سبعا وثلاثين سنة، أي تولى الوزارة وعمره حول العشرين عاما. وفي رواية المسعودي "قتل جعفر بن يحيى وهو ابن خمس وأربعين سنة، وقيل أقل من ذلك" [52].

ويبدو، واضحا، مما ورد عن البرامكة ى هارون الرشيد ووالده المهدي. وأتيحت لهم الفرصة للسيطرة الأدبية والفعلية على الخليفة هارون الرشيد منذ طفولته. كما أتيحت لهم الفرصة لكسب جاه عظيم وثروات عظيمة، أحسنوا استعمالها في كسب محبة الشعراء والأدباء لأنفسهم، وإن كانت على حساب ميزانية الدولة، وسمعة الخليفة.

وأما مسألة وصف جعفر بأنه كان يعاقر الخمرة فالمسالة تحتمل الصدق وقد لا تحتمله. فمعظم القصص مرتبطة بتهمة الخليفة الورع بالشرب. وهناك قصص حول تعاطي جعفر الخمر مستقلة، مثل حالته التي كان عليها عند قتله عبد الله بن الحسن، وعندما جاءه مسرور السياف لقتله بأمر الخليفة [53].

وعن نهاية البرامكة فيقول الطبري، ومن نقل عنه أن مسرورا الخادم هو الّذي نفذ حكم الرشيد فيه [54] وأما المسعودي فيقول أن ياسرا الخادم هو الذي نفذ فيه أمر الرشيد.[55] ثم تم سجن يحي ابن خالد البرمكي، وابنه الفضل.[56] وأرسل الرشيد من ليلته البرد بالاحتياط على البرامكة جميعهم ببغداد وغيرها ومن كان منهم بسبيل. فأخذوا كلهم عن آخرهم. فلم يفلت منهم أحد وحبس يحيى بن خالد في منزله وحبس الفضل بن يحيى في منزل آخر وأخذ جميع ما كانوا يملكونه من الدنيا. وبعث الرشيد برأس جعفر وجثته فنصب الرأس عند الجسر الأعلى، ونودي في بغداد بأن لا أمان للبرامكة ولا لمن آواهم، إلا محمد بن يحي بن خالد فإنه مستثنى منهم لنصحه للخليفة [57].

سبب نكبة البرامكة:
لقد كانت عملية قضاء الرشيد على سلطة البرامكة حركة خاطفة، ومفاجأة غير متوقعة. فما هي الأسباب؟ هناك إشارات واقعية، وأخرى تكهنات، أو قصص مخترعة في الأصل، ومن الأخيرة قصة جعفر والعباسة التي سيتم مناقشتها فيما يلحق. وعند استعراض الأسباب التي سجلها المؤرخون والمعلقون يمكن حصرها في الأسباب المباشرة وغير المباشرة التالية: [58].

أولاً: تسلط يحي على حرم الرشيد، إذ يقول المسعودي كانت زبيدةُ أم جعفر زوجُ الرشيد من الرشيد بالمنزلة التي لا يتقدمها أحد من نظرائها. وكان يحيى بن خالد لا يزال يتفقد أمر حرم الرشيد ويمنعهن من خدمة الخدم لهن، فشكت زبيدة إلى الرشيد، ولكن الرشيد أيده فازداد يحيى لها منعاً، وعليها في ذلك غلْظَة.

ثانياً: يقول الدكتور الجومرد في كتابه "هارون الرشيد" ج 2 ص 469 في بيان السبب الرئيسي للنكبة ما ملخصه: "أن الرشيد لم يكن غافلاً عن أعمال البرامكة التي توجب محاسبتهم، ولكنه أغمض عينيه فترة غير قصيرة عنهم؛ وفاء لخدماتهم، وحرصًا على صفاء الجو بينه وبينهم، وأملاً في أن يعودوا إلى رشدهم، ولكن أمر البرامكة تفاقم، وسلطانهم ظهر على سلطانه، والنعرة الفارسية والشعوبية تكالبت على قوميته، واستبد "يحيى بن خالد" بكل أمور الدولة، وتدخل "جعفر بن يحيى" في خاصة شؤونه، حتى أوقع بين وَلِيَّيْ عهده الأمين والمأمون، وغرس الحقد بينهما بما يهدد مستقبل الخلافة إذا تنازعا عليها، ومنع المال عن الرشيد بحجة المحافظة على أموال المسلمين، التي راح هو وجماعته يرتعون فيها بغير حساب. وبلغ الأمر إلى أن بات جعفر يحاسب الرشيد على تصرفاته، ولا يأبه إلى اعتراضاته، وقد كان الرشيد يعاني ضيقًا شديدًا من هذه التصرفات، ولكنه كان قوي الاحتمال، عظيم الصبر، واسع الحيلة، ومن أمهر الناس في التظاهر بالرضا وهو في أشد سورة غضبه، إذا اقتضى الأمر ذلك. ولهذا يؤكد الجومرد بأن السبب الحقيقي لنكبة البرامكة، هو سبب سياسي، يرجع إلى أنهم استغلوا نفوذهم واستأثروا بالسلطة في أيديهم، ويشير الجومرد أن الجهشياري ذكر أربع عشرة قضية عدَّدَها الرشيد ليحيى بن خالد في حينه، وكل واحدة منها تكفي عذرًا له في التخلص منهم، وإزاحتهم من طريقه. ويستشهد بقول ابن خلدون: وإنما نكب البرامكة ما كان من استبدادهم على الدولة، واحتجابهم أموال الجباية، حتى كان الرشيد يطلب اليسير من المال فلا يصل إليه، فغلبوه على أمره، وشاركوه في سلطانه، ولم يكن له معهم تصرف في أمور ملكه".

ثالثا: عيّن الرشيد الفضل بن يحيى سنة 178هــ واليًا على الجانب الشرقي للدولة باتخاذ "خراسان" مقرًّا لولايته، فكوَّن بها جيشًا عظيمًا من العجم، قوامه خمسمائة ألف جندي، دون أخذ رأي الرشيد وسماه "العباسية"، وجعل ولاء هذا الجيش للبرامكة وحدهم. ولما علم الرشيد بذلك الحدث الخطير، استقدم الفضل إلى بغداد من غير أن يعزله، فحضر إليها ومعه فرقة من هذا الجيش عددها عشرون ألف جندي مسلح من الأعاجم. وينقل الجومرد عن الجهشياري قولا لجعفر لأحد الأتباع، لأن الرشيد عاتبه في أمر "ووالله لئن كلفنا الرشيد بما لا نحب، ليكونَنَّ وبالاً عليه سريعًا".

رابعا: اتهم البعض البرامكة بالزندقة والمجوسية.
خامسا: تجاوز جعفر للسلطة المفوضة إليه. فكان يتجرأ أحيانا باتخاذ قرارات تخالف رغبة الخليفة. ففي مرة دفع الرشيد إلى جعفر يحيى بن عبد الله بن حسن كان من الثوار العلويين فحبسه، ثم دعى جعفر به، ليلة من الليالي، فسأله عن شيء من أمره. فأجابه إلى أن قال له اتق الله في أمري ولا تتعرض أن يكون خصمك غدا محمد صلى الله عليه وسلم. فو الله ما أحدثت حدثا ولا آويت محدثا. فرقّ له جعفر، وقال اذهب حيث شئت من بلاد الله. قال: وكيف أذهب ولا آمن أن أؤخذ بعد قليل فأرد إليك أو على غيرك. فوجّه إليه من أداه إلى مأمنه. وبلغ الخبر الفضل بن الربيع، من عين كانت له عليه من خاص خدمه، فدخل على الرشيد فأخبره. فأراه أنه لا يعبأ بخبره وقال: ما أنت وهذا؛ فلعل ذلك عن أمري.[59] وجاءه جعفر فدعا بالغداء فأكلا وجعل يلقمه ويحادثه إلى أن كان آخر ما كان بينهما أن قال: ما فعل يحيى بن عبد الله؟ قال: بحاله يا أمير المؤمنين في الحبس الضيق والأكبال الثقيلة. فقال: أتصدقني القول؟ فأحجم جعفر، وكان من أرق الخلق ذهنا وأصحهم فكرا، فهجس في نفسه أنه قد علم بشيء من أمره، فقال: لا. يا سيدي، ولكن أطلقته وعلمت أنه لا حياة به ولا مكروه عنده. قال: نِعم ما فعلت، ما عدوت ما كان في نفسي. فلما خرج أتبعه بصره حتى كاد يتوارى عن وجهه [60].

من الواضح أن الأسباب السابقة قوية لاستحقاق البرامكة تأديبا وكبحا لجماحهم، ولكن بالتأمل في السمة البارزة التي تم إثباتها، سابقا، لهارون الرشيد، وهو الخوف الشديد من الله، يتردد العاقل في أن يجعلها سببا لقتل جعفر ابن يحيى البرمكي. فالسؤال: ما هو السبب المنطقي الذي يتسق والسمة الغالبة على هارون الرشيد؟
يتبع

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 31.27 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 30.65 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (2.01%)]