مختصر الكلام على بلوغ المرام(43)
الشيخ فيصل بن عبدالعزيز آل مبارك
(بابُ التَّفْلِيسِ وَالحَجْرِ)
826- عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ اَلرَّحْمَنِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اَللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: "مَنْ أَدْرَكَ مَالَهُ بِعَيْنِهِ عِنْدَ رَجُلٍ قَدْ أَفْلَسَ، فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ مِنْ غَيْرِهِ"؛ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ ومَالِكٌ - مِنْ رِوَايَةِ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ اَلرَّحْمَنِ مُرْسَلاً بِلَفْظِ: "أَيُّمَا رَجُلٍ بَاعَ مَتَاعًا، فَأَفْلَسَ اَلَّذِي اِبْتَاعَهُ، وَلَمْ يَقْبِضِ اَلَّذِي بَاعَهُ مِنْ ثَمَنِهِ شَيْئًا، فَوَجَدَ مَتَاعَهُ بِعَيْنِهِ، فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ، وَإِنْ مَاتَ اَلْمُشْتَرِي فَصَاحِبُ اَلْمَتَاعِ أُسْوَةُ اَلْغُرَمَاءِ"، ووصله البيهقيُّ وضعه تبعًا لأبي داود ورواه أبو داود، وابن ماجه من رواية عمر بن خلدة قال: أتينا أبا هريرة - رضي الله عنه - في صاحب لنا قد أفلس فقال: لأقضينَّ فيكم بقضاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من أفلس أو مات، فوَجَدَ رجلٌ متاعه بعينه، فهو أحَقُّ به، وصحَّحَهُ الحاكم وضعفه أبو داود، وضعَّف أيضًا هذه الزيادة في ذكر الموت.
(قوله: من أدرك ماله بعينه)؛ أي: لم يتغير بزيادة ولا نقصان، قال البخاري: باب إذا وجد ماله عند مفلس في البيع والقرض والوديعة، فهو أحق به، وقال الحسن: إذا أفلس وتبيَّن، لم يجز عتقه ولا بيعه ولا شراؤه، وقال سعيد بن المسيب: قضى عثمان أن من اقتضى من حقه قبل أن يفلس، فهو له، ومن عرف متاعه بعينه، فهو أحق به؛ انتهى. (قوله: من أفلس أو مات فوجد رجل متاعه بعينه، فهو أحق به)، قال الحافظ: فتعين المصير إليه؛ لأنها زيادة من ثقة، وجمع الشافعي بين الحديثين بحمل حديث ابن خلدة على ما إذا مات مفلسًا، وحديث أبي بكر بن عبدالرحمن على ما إذا مات مليًّا، والله أعلم، قال في المغني: وإن نقصت مالية المبيع لذهاب صفة مع بقاء عينه، لم يمنع الرجوع لكنه يتخير بين أخذه ناقصًا بجميع حقه، وبين أن يضرب مع الغرماء بكمال ثمنه، وقال أيضًا: فأما الزيادة المنفصلة كالولد والثمرة والكسب، فلا تمنع الرجوع بغير خلاف بين أصحابنا، وهو قول مالك والشافعي، وسواء نقص بها المبيع أو لم ينقص، إذا كان نقص صفة والزيادة للمفلس، هذا ظاهر كلام الخرقي؛ لأنه منع الرجوع بالزيادة المتصلة لكونها للمفلس، فالمنفصلة أولى، وهو الصحيح إن شاء الله تعالى؛ انتهى ملخصًا.
827- وَعَنْ عَمْرِو بْنِ اَلشَّرِيدِ، عَنْ أَبِيهِ - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اَلله - صلى الله عليه وسلم -: "لَيُّ اَلْوَاجِدِ يُحِلُّ عِرْضَهُ وَعُقُوبَتَه"؛ رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ والنسائي، وعَلَّقَهُ البُخَارِيُّ، وصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ.
فسر البخاري حل العرض بما نقله عن سفيان قال: يقول: مطلني وعقوبته حبسه، وأجاز الجمهور الحجر عليه وبيع الحاكم ماله، والحديث دليل على تحريم مطل الغنيّ، ويدل بمفهومه على أن المعسر لا يحل عرضه ولا عقوبته، بل يجب إنظاره إلى ميسرة.
828- وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ اَلْخُدْرِيِّ - رضي الله عنه - قَالَ: "أُصِيبَ رَجُلٌ فِي عَهْدِ رَسُولِ اَلله - صلى الله عليه وسلم - فِي ثِمَارٍ اِبْتَاعَهَا، فَكَثُرَ دَيْنُهُ فأَفْلَسَ، فَقَالَ رَسُولُ اَلله - صلى الله عليه وسلم -: "تَصَدَّقُوا عَلَيْهِ"، فَتَصَدَّقَ اَلنَّاسُ عَلَيْهِ، وَلَمْ يَبْلُغْ ذَلِكَ وَفَاءَ دَيْنِهِ، فَقَالَ رَسُولُ اَلله - صلى الله عليه وسلم - لِغُرَمَائِهِ: "خُذُوا مَا وَجَدْتُمْ، وَلَيْسَ لَكُمْ إِلا ذَلِكَ"؛ رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
فيه الحث على جبر من حديث عليه حادث، قال الشوكاني: والحديث يدل على أن الثمار إذا أُصيبت مضمونة على المشتري، وقد تقدم في باب وضع الجوائح ما يدل على أنه يجب على البائع أن يضع عن المشتري بقدر ما أصابته الجائحة، والجمع بينهما أن وضع الجوائح محمول على الاستحباب؛ انتهى.
829- وَعَنِ اِبْنِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ، عَنْ أَبِيهِ - رضي الله عنهما -: "أَنَّ رَسُولَ اَلله - صلى الله عليه وسلم - حَجَرَ عَلَى مُعَاذٍ مَالَهُ، وَبَاعَهُ فِي دَيْنٍ كَانَ عَلَيْهِ" رَوَاهُ اَلدَّارَقُطْنِيُّ وصحَّحَهُ الحاكم وَأَخْرَجَهُ أَبُودَاوُدَ مُرْسَلاً، وَرُجِّحَ إرساله.
الحديث دليل على أن الحاكم يحجر على المدين التصرف في ماله، ويبيعه لقضاء دينه.
830- وَعَنِ اِبْنِ عُمَرَ - رضي الله عنهما - قَالَ: "عُرِضْتُ عَلَى اَلنَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - يَوْمَ أُحُدٍ، وَأَنَا اِبْنُ أَرْبَعَ عَشْرَةَ سَنَةً، فَلَمْ يُجِزْنِي، وَعُرِضْتُ عَلَيْهِ يَوْمَ اَلْخَنْدَقِ، وَأَنَا اِبْنُ خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً، فَأَجَازَنِي" مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَفِي رِوَايَةٍ لِلْبَيْهَقِيِّ: "فَلَمْ يُجِزْنِي، وَلَمْ يَرَنِي بَلَغْتُ"، وصحَّحَهُ ابنُ خُزيمةَ.
فيه دليل على أن من استكمل خمس عشرة سنة صار مكلفًا بالغًا له أحكام الرجال، ومن كان دونها، فلا.
831- وَعَنْ عَطِيَّةَ اَلْقُرَظِيِّ - رضي الله عنه - قَالَ: "عُرِضْنَا عَلَى اَلنَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - يَوْمَ قُرَيْظَةَ، فَكَانَ مَنْ أَنْبَتَ قُتِلَ، وَمَنْ لَمْ يُنْبِتْ خُلِّيَ سَبِيلُهُ، فَكُنْتُ فِيمَنْ لَمْ يُنْبِتْ فَخُلِّيَ سَبِيلِي"؛ رَوَاهُ الأَرْبَعَةُ، وصَحَّحَهُ ابنُ حِبَّانَ والحَاكِمُ، وقالَ عَلَى شَرْطِ الشَّيْخَيْنِ.
الحديث دليل على أنه يحصل بالإنبات البلوغ، فتجري على من أنبت أحكام المكلفين.
832- وَعَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ - رضي الله عنه -؛ أَنَّ رَسُولَ اَلله - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: "لا يَجُوزُ لِاِمْرَأَةٍ عَطِيَّةٌ إِلا بِإِذْنِ زَوْجِهَا". وَفِي لَفْظٍ: "لا يَجُوزُ لِلْمَرْأَةِ أَمْرٌ فِي مَالِهَا، إِذَا مَلَكَ زَوْجُهَا عِصْمَتَهَا"؛ رَوَاهُ أَصْحَابُ اَلسُّنَنِ إِلا اَلتِّرْمِذِيَّ، وصَحَّحَهُ الحَاكِمُ.
قال الخطابي: حمله الأكثر على حسن العشرة واستطابة النفس، أو يحمل على غير الرشيدة، وقد ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال للنساء: تصدقن، فجعلت المرأة تلقي القرط والخاتم، وبلال يتلقاه بردائه، وهذه عطية بغير إذن الزوج؛ انتهى.
833- وَعَنْ قَبِيصَةَ بْنِ مُخَارِقٍ اَلْهِلالِيِّ - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اَلله - صلى الله عليه وسلم -: "إِنَّ اَلْمَسْأَلَةَ لا تَحِلُّ إِلا لأحَدِ ثَلاثَةٍ: رَجُلٍ تَحَمَّلَ حَمَالَةً فَحَلَّتْ لَهُ اَلْمَسْأَلَةُ حَتَّى يُصِيبَهَا ثُمَّ يُمْسِكُ، وَرَجُلٍ أَصَابَتْهُ جَائِحَةٌ اِجْتَاحَتْ مَالَهُ، فَحَلَّتْ لَهُ اَلْمَسْأَلَةُ حَتَّى يُصِيبَ قِوَامًا مِنْ عَيْشٍ، وَرَجُلٍ أَصَابَتْهُ فَاقَةٌ حَتَّى يَقُولَ ثَلاثَةٌ مِنْ ذَوِي الْحِجَا مِنْ قَوْمِهِ: لَقَدْ أَصَابَتْ فُلانًا فَاقَةٌ، فَحَلَّتْ لَهُ اَلْمَسْأَلَةُ"؛ رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
قد تقدم الحديث في باب قسمة الصدقات، قال في سبل السلام: لعل إعادته هنا أن الرجل الذي تحمل حمالة قد لزمه دين فلا يكون له حكم المفلس في الحجر عليه بل يترك حتى يسأل الناس فيقضي دينه.