الملحد وتشكيكه في مصدرية الدين للأخلاق
د. ربيع أحمد
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم المرسلين، وعلى أصحابه الغُرِّ الميامين، وعلى من اتبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وبعد:
فقد انتشر في عصرنا مرض الإلحاد، وهو أحد الأمراض الفكرية الفتاكة؛ إذ يفتِك بالإيمان، ويُعمي الحواس عن أدلة وجود الخالق الرحمن، وتجد المريض به يجادل في البديهيات، ويجمع بين النقيضين، ويفرق بين المتماثلين، ويجعل من الظن علمًا، ومن العلم جهلًا، ومن الحق باطلًا، ومن الباطل حقًّا.
ومن عوامل انتشار هذا المرض:
الجهل بالدين، وضعفُ العقيدة واليقين، والاسترسالُ في الوساوس الكفرية، والسماع والقراءة لشبهات أهل الإلحاد دون أن يكون لدى الإنسان علم شرعي مؤصل.
وشبهات أهل الإلحاد ما هي إلا أقوال بلا دليل، وادعاءات بلا مستند، ورغم ضعفها وبطلانها فإنها قد تؤثر في بعض المسلمين؛ لقلة العلم، وازدياد الجهل بالدين؛ ولذلك كان لا بد من كشف شبهات ومغالطات ودعاوى أهل الإلحاد، شبهة تلو الأخرى، ومغالطة تلو المغالطة، ودعوى تلو الدعوى؛ حتى لا ينخدعَ أحد بكلامهم وشُبَههم.
وفي هذا المقال سنتناول تشكيك الملاحدة واللادينيين في مصدرية الدين للأخلاق بالعرض والنقد، وقبل بيان دعاواهم والرد عليها لا بد من معرفة مفهوم الأخلاق ومفهوم الدين.
مفهوم الأخلاق
الأخلاق: جمع كلمة خُلُق، والخُلق: عبارة عن هيئة للنفس راسخة، تصدر عنها الأفعال بسهولة ويُسر، من غير حاجة إلى فكر وروية، فإن كان الصادر عنها الأفعال الحسنة كانت الهيئة خُلقًا حسنًا، وإن كان الصادر منها الأفعال القبيحة سُمِّيت الهيئة التي هي مصدر ذلك خُلقًا سيئًا، وإنما قلنا: إنه هيئة راسخة؛ لأن مَن يصدُر منه بذل المال على الندور بحالة عارضة لا يقال: خُلقه السَّخاء، ما لم يثبت ذلك في نفسه[1].
والذي يفصل الأخلاق ويميزها عن غيرها هو الآثار القابلة للمدح أو الذم، وبذلك يتميز الخُلق الحسن عن الغريزة؛ فالأكل مثلًا غريزة، والإنسان عند الجوع يأكل بدافع الغريزة، وليس مما يمدح به أو يُذَم، لكن لو أن إنسانًا أكل زائدًا عن حاجته الغريزية، صار فعله مذمومًا؛ لأنه أثرٌ لخُلق في النفس مذموم، وهو الطمع، وعكس ذلك أثرٌ لخُلق في النفس محمود، وهو القناعة.
كذلك، فإن مسألة حب البقاء ليست محلًّا للمدح أو الذم في باب السلوك الأخلاقي، لكن الخوف الزائد عن حاجات هذه الغريزة أثرٌ لخُلق في النفس مذموم، وهو الجبن، أما الإقدام الذي لا يصِل إلى حد التهور، فهو أثر لخُلق في النفس محمود، وهو الشجاعة.
وهكذا سائر الغرائز والدوافع النفسية التي لا تدخل في باب الأخلاق، إنما يميزها عن الأخلاق كونُ آثارها في السلوك أمورًا طبيعية ليست مما تحمد إرادة الإنسان عليه أو تذم[2].
مفهوم الدين
الدين له عدة تعريفات، منها: الشرع الإلهي المتلقَّى عن طريق الوحي[3]، ومن تعريفات الدين: وضعٌ إلهي سائق لذوي العقول - باختيارهم إياه - إلى الصلاح في الحال، والفلاح في المآل[4]، ومن تعريفات الدِّين: كل ما يتخذه الناس ويتعبدون له، سواء كان صحيحًا أو باطلًا [5].
الشُّبَه التي لجأ إليها الملاحدة للتشكيك في مصدرية الدين للأخلاق
لجأ الملاحدة للعديد من الشُّبَه للتشكيك في مصدرية الدِّين للأخلاق، فقالوا: وُجِدت الأخلاق قبل الدِّين، واختُرِع الدِّين لتنظيم المسيرة الأخلاقية؛ فالأخلاق مستمدة من احتياجات الإنسان واهتماماته، بل الإنسان إذا وجد بعض القيم الخلقية في الدِّين، فإنها مأخوذة من المجتمع الذي ظهر به هذا الدِّين.
وقال آخرون: وجود بعض الأخلاق في بلاد لا تَدين بدين سماوي، ووجود بعض الأخلاق في بلاد يكثر فيها الإلحاد، وانتشار الفساد في البلاد الإسلامية الأخلاق؛ أي: يوجد مَن هو متدين وليس لديه أخلاق، بينما يوجد من هو لاديني ولديه أخلاق - هذا دليل على عدم مصدرية الدِّين للأخلاق.
واحتج بعضهم: أن الدِّين ثابت، وأخلاقيات بعض المنتسبين إلى الدِّين تتغير مع الوقت.
وقال البعض: ليس من الأخلاق قطعُ يد السارق ورجم الزاني، وكيف يكون الدِّين مصدرًا للأخلاق ويشترط شهادة أربعة رجال لتطبيق حد الزنا؟! فلو فعلها الشخص دون علم أحدٍ أو أمام سيدات لا بأس بذلك!
وقال البعض: ليس الدِّين مصدر الأخلاق؛ إذ كيف يضبط السلوك الاجتماعي عن طريق التهديد بالعذاب الأبدي بواسطة كائن فوق الطبيعة؟ وعدم التخلق بالخلق السيئ خوفًا من النار، كأنه تقديم رشوة للرب، وأسلوب الترغيب في الأخلاق الحسنة بدخول الجنة، والترهيب من الأخلاق السيئة بدخول النار - ليس من الأخلاق في شيء.
وقال البعض: لا يحق لأي دين أن يفرض رؤيته للفضيلة الأخلاقية، والإثم، والسلوك الجنسي، والزواج والطلاق، والتحكم في النسل أو الإجهاض، أو أن تسن القوانين بحسب تلك الرؤية على بقية المجتمع، والمبادئ الأخلاقية من الممكن أن تكتشف في سياق التشاور الأخلاقي والديموقراطية.
وقال البعض: العقل والإنسانية كفيلانِ بجعل الإنسان يتخلق بالخُلق الحسَن، ومن طبائع الإنسانية - ودون حاجة لتوجيه ديني مباشر أو غير مباشر - مسائل مثل: تجريم القتل، والسرقة، والخيانة المالية والزوجية، والعلاقات الممنوعة بين المحارم، والأخلاق موجودة في الضمير الإنساني، والحاجة للدين؛ كي يبين أن ممارسة جنس المحارم وقتل الإنسان هي شيء خاطئ يصور الإنسان كأنه كائن لاأخلاقي وحشي، وإذا كان هذا الوحش موجودًا داخل أي إنسان، فلن ينفع لا الدِّين ولا القوانين في القضاء عليه.
وقال البعض: الافتراض بأن الخوف والطمع يدفعان الإنسان لعمل الخير أو اجتناب الشر، يصور الإنسان كأنه شريرٌ بالفطرة؛ لذلك لا بد من ترويضه بالقوة، كالحيوان المتوحش.
وقال البعض: القول بأن الأديان مصدر الأخلاق مسألة غير عملية، لا تصمُدُ أمام التجارِب الحقيقية على أرض الواقع.
وقال البعض: إن خصصنا الأديان كمصدر للأخلاق لوجود نصوص أخلاقية، فعليه سنقول: الأديان مصدر القتل؛ لوجود تعاليم ترتبط بالقتل، وإنها مصدر الحرب؛ لوجود تعاليمَ ترتبط بالحرب.
وقال البعض: لنفرض أن أمامنا عدة كتب (التوراة، الإنجيل، القرآن، ...) كل منها يزعم أنه الصحيح ويحتوي على الأخلاق الصحيحة، وهو فقط يمتلك هذه المعرفة، كيف سيكون بإمكاننا معرفة أي منها هو الصادق إذا لم نعرف أصلًا ما تعنيه الأخلاق؟ أي: كيف يمكننا أن نقول: إن كتابًا معينًا هو الصحيح من وجهة نظر أخلاقية إذا لم تكن لدينا فكرة مسبقة مستقلة عما يعنيه أن يكون حكمٌ ما أخلاقيًّا أو لا؟ بأي معيار أستطيع أن أقول: إن كتابًا معينًا صادق في حكم أخلاقي ما (أو في كل أحكامه الأخلاقية) بدون أن أعرف ما تعنيه الأخلاق؟ بالتالي من هنا ضرورة أن تكون المعرفة الأخلاقية سابقةً ومستقلة وذات أولية على الدِّين، ما يؤدي إلى أن الكتب الدينية لا يمكنها أن تكون مصدرًا للأخلاق.
وقال البعض: الدِّين هو مصدر الأخلاق، هي مقولة خاطئة؛ لأنها تؤدي إلى تناقض ذاتي، لنفرض أن إنسان أ1 يتبع الأخلاق التي يمليها عليه دِينه د1، وأما الإنسان أ2 فيتبع الأخلاق التي يمليها عليه دينه د2، في حال اختلاف الدينين فيما يطالبان به بخصوص حالة معينة (كضرورة أو عدم ضرورة رجم الزانية مثلاً)، فإن هذا العمل ذاته سيكون أخلاقيًّا من منظور الدِّين الأول، وغير أخلاقي من منظور الدِّين الثاني؛ أي: إن الحكم الموضوعي على العمل نفسه لن يكون ممكنًا إذا كان مرجعنا فيما يجب فعله، أو الاستنكاف عن عمله - هو فقط ما يسوِّغه دينٌ معين أو غيره.
الأخلاق قيمة مطلقة ثابتة
الأخلاق قيمة مطلقة ثابتة، لا يعتريها التبديل من عصر لعصر، ولا من بلد لبلد، ولا من شخص لشخص، شأنها شأن الأفلاك والمدارات التي تتحرك فيها الكواكب لا تتغيَّر بتغيُّر الزمان.
ورغم أن العديد من الناس لديهم ممارسات أخلاقية مختلفة، فإنهم يتشاركون في مبادئ أخلاقية عامة مثلاً، يتفق مناصِرو الإجهاض ومعارضوه على أن القتل أمر خاطئ، ولكنهم يختلفون حول ما إذا كان الإجهاض يعتبر قتلًا أم لا؛ لهذا، حتى في هذه الحالة تثبت حقيقة وجود الأخلاقيات العامة المطلقة، ولا يوجد مجتمع بكامله يمكن أن يرى أن زنا المحارم مسألةٌ عادية وليس أمرًا مَشينًا، نعم قد يوجد بعض الأفراد الشواذ الذي يرون أن زنا المحارم مسألة عادية؛ فالعيب في هؤلاء الأفراد الشاذين، وليس في المجتمع.
ويوجد قيم أخلاقية تحتفظ بقدرٍ من التوافق العام والتصور المشترك على أنها خيرٌ عند جميع الأمم؛ كالعدالة، والأمانة، والكرم، ويوجد قيمٌ أخلاقية تحتفظ بقدر مِن التوافق العام والتصور المشترك على أنها شرٌّ عند جميع الأمم؛ كالكذب، والخيانة.
وتجد جميع الأمم والشعوب في كل الأزمان وكل الأماكن تحبُّ الخير وتمدحه وتكره الشر وتذُمُّه، وتحب الفضيلة وتكره الرذيلة، وتحب الصدق وتمدحه وتكره الكذِبَ وتذُمُّه، وتحب الأمانة وتمدحها وتكره الخيانة وتذُمُّها، وتحب الشجاعة وتمدحها وتكره الجبن وتذُمُّه، وتحب الكرم وتمدحه وتكره البخل وتذُمُّه، وتحب الاحترام وتمدحه وتكره الاحتقار وتذُمُّه، وتحب العدل وتمدحه وتكره الظلم وتذُمُّه، ولا معنى للمدح والذم، ولا معنى لحب الخير وكُرهِ الشر إذا لم تكن الأخلاق مطلقة.
وتجد جميع الأمم والشعوب تُشيد أو تكافئ على فعل بعض السلوكيات الحسنة؛ كالشجاعة، والوفاء، والإخلاص، وتجرِّم أو تندِّد أو تعاقب على فعل بعض السلوكيات السيئة؛ كالسِّباب، والفساد، والقتل، والغش، ولا معنى للثواب والعقاب إذا لم تكن الأخلاق مطلقة، ولا معنى للمكافأة والمعاقبة والتجريم في غياب الأخلاق المطلقة.
ولا توجد أمة من الأمم في أي وقت وأي زمان تجعل السرقة عملاً بطوليًّا، ولا توجد أمة من الأمم في أي وقت وأي زمان تمتدح الكذِبَ، ولا توجد أمة من الأمم في أي وقت وأي زمان تعظم الخيانة.
وإذا كان الواحد منا يرى بعض السلوكيات فيرفضها، ويقول: إنها منافية للأخلاق؛ كقتل الرجل لأبيه، أو سبِّ الرجل لشخص - فهذا دليلٌ على مطلقية الأخلاق، ومن خلال مطلقيتها حكمنا على بعض السلوك أنه مُنَافٍ للأخلاق.
يتبع