صحة الطلاق
الشيخ فيصل بن عبدالعزيز آل مبارك
قوله: (ويصحُّ من زوج مُكلف ومميز يعقله...) إلى آخره[1].
قال في "المقنع": "ويصح من الزوج العاقل البالغ المختار، ويصح من الصبي العاقل.
وعنه[2]: لا يصح حتى يبلغ، ومن زال عقله لسبب يعذر فيه كالنائم والمجنون والمغمى عليه والمبرسم لم يقع طلاقه، وإن زال لسبب لا يُعذر فيه كالسكران.
ومن شرب ما يُزيل عقله لغير حاجة ففي صحة طلاقه روايتان[3].
وكذلك يخرج في قتله وقذفه وسرقته وزناه وظهاره وإيلائه.
ومن أُكره على الطلاق بغير حق لم يقع طلاقه، وإن هدده بالقتل، أو أخذ المال ونحوه قادر يغلب على الظن وقوع ما هدده به فهو إكراه.
وعنه[4]: لا يكون مكرهًا حتى يُنال بشيء من العذاب، كالضرب والخنق، وعصر الساق، اختارها الخرقي.
ويقع الطلاق في النكاح المختلف فيه كالنكاح بلا ولي عند أصحابنا[5]، واختار أبو الخطاب أنه لا يقع حتى يعتقد صحته[6]"[7].
قال في "الحاشية": "قوله: ويصح من الصبي... إلى آخره، إذا لم يعقل الصبي، فلا طلاق له بغير خلاف.
وأما الذي يعقل الطلاق ويعلم أن زوجته تبين منه وتحرم عليه فأكثر الروايات عن أحمد أنه يقع طلاقه، وهو المذهب[8]، رُوي عن سعيد بن المسيب وعطاء والحسن والشعبي وإسحاق.
وعنه[9]: لا يصح حتى يبلغ، وهو قول النخعي والزهري ومالك[10] وحماد والثوري وأبي عبيد، وذكر أنه قول أهل الحجاز وأهل العراق[11]، وروي عن ابن عباس؛ لقوله عليه السلام: "رُفع القلم عن الصبي حتى يحتلم"[12].
ولأنه غير مُكلَّف فلم يقع طلاقه كالمجنون، ولنا: قوله عليه السلام: "إنما الطلاق لمن أخذ بالساق"[13]، وقوله: "كل الطلاق جائز إلا طلاق المعتوه المغلوب على عقله"، رواه الترمذي[14].
ولأنه طلاق من عاقلٍ صادف محل الطلاق، فأشبه طلاق البالغ.
فائدتان:
من أجاز طلاقه اقتضى مذهبه أن يجوز توكيله فيه وتوكيله لغيره؛ لأن من صح تصرفه في شيء مما يجوز الوكالة فيه بنفسه صح توكيله ووكالته فيه كالبالغ.
الثانية: يقع طلاق السفيه في قول أكثر أهل العلم، منهم: القاسم بن محمد ومالك[15] والشافعي[16] وأبو حنيفة[17] وأصحابه، ومنع منه عطاء.
قوله: ومن زال عقله لسبب يُعذر فيه لم يقع طلاقه بالإجماع[18]، لكن لو ذكر المجنون والمُغمى عليه لما أفاقا أنهما طلقا وقع الطلاق.
قال المصنف: هذا في من جنونه بذهاب عقله بالكُلية.
وقال الشيخ تقي الدين: إن غيَّره الغضب ولم يزل عقله، أو غُشي لم يقع الطلاق.
قوله: وإن زال لسبب لا يُعذر فيه: ففي صحة طلاقه روايتان:
إحداهما[19]: يقع، وهو المذهب، وبه قال سعيد بن المسيب وعطاء ومجاهد والحسن وابن سيرين والنخعي والشعبي والحكم ومالك[20] والأوزاعي والشافعي[21] وابن شبرمة وأبو حنيفة[22] وصاحباه وسليمان بن حرب؛ لقوله عليه السلام: "كل الطلاق جائز إلا طلاق المعتوه"[23].
ومثل هذا عن علي ومعاوية وابن عباس.
قال ابن عباس: طلاق السكران جائز[24]؛ لأنه ركب معصية من معاصي الله فلم ينفعه ذلك؛ بدليل أن الصحابة جعلوه كالصاحي في الحدِّ، ولأنه إيقاع للطلاق من مُكلف صادف ملكه فوجب أن يقع كطلاق الصاحي.
والدليل على تكليفه: أنه يُقتل بالقتل، ويُقطع بالسرقة، وبهذا فارق المجنون.
والثانية[25]: لا يقع، وبه قال عثمان رضي الله عنه، وعُمر بن عبد العزيز، والقاسم ويحيى الأنصاري، وربيعة، والليث، والعنبري، وإسحاق، وأبو ثور، والمزني، وأبو بكر، والناظم، والشيخ تقي الدين، وإليه ميلُ المصنف والشارح.
قال الزركشي: ولا يخفى أن أدلة هذه الرواية أظهر.
وقال ابن المنذر: هذا ثابت عن عثمان، ولا نعلم أحدًا من الصحابة خالفه"[26].
وقال في "الإفصاح": "واختلفوا في طلاق السكران، فقال أبو حنيفة[27] ومالك[28]: يقع.
وعن الشافعي[29] قولان: أظهرهما: أنه يقع.
وعن أحمد روايتان:
أظهرهما[30]: أنه يقع أيضًا، اختارها الخلال.
والثانية[31]: لا يقع، اختارها عبد العزيز من أصحابه.
وقال الطحاوي والكرخي من أصحاب أبي حنيفة[32] والمزني من أصحاب الشافعي[33]: إنه لا يقع"[34].
"واختلفوا في طلاق المُكره وعتاقه:
فقال أبو حنيفة[35]: يقع، وقال مالك[36] والشافعي[37] وأحمد[38]: لا يقع إذا نطق به دافعًا عن نفسه.
واختلفوا في التوعد الذي يغلب على ظن المتوعد به أنه يؤتى فيه، هل يكون إكراهًا؟
فقال أبو حنيفة[39] ومالك[40] والشافعي[41]: التوعد في الجملة إكراه.
وعن أحمد روايات ثلاث:
إحداها[42]: كمذهبهم هذا.
والأخرى[43]: لا يكون إكراهًا، وهي التي اختارها الخرقي.
والثالثة[44]: إن كان بالقتل أو قطع الطرف فهي إكراه، وإن كان بغير القتل فليس بإكراه.
وإن كان الإكراه من سلطان فهل يُفرق بينه وبين الإكراه من غيره كلصٍّ أو مُتغلب؟
فقال مالك[45] والشافعي[46]: لا فرق في ذلك بين السلطان وغيه، وعن أحمد روايتان:
إحداهما[47]: كقول الشافعي.
والأخرى([48]: لا يكون الإكراه إلا من السلطان.
وعن أبي حنيفة[49] روايتان كالمذهبين.
واختلفوا فيما إذا طلَّق الصبي وهو ممن يعقل الطلاق:
فقال أبو حنيفة[50] ومالك[51] والشافعي[52]: لا يقع طلاقه.
وعن أحمد روايتان: أظهرهما[53]: أنه يقع طلاقه، والأخرى[54] كمذهب الجماعة"[55].
وقال ابن رشد: "الباب الثاني في المطلق الجائز الطلاق: واتفقوا على أنه الزوج العاقل البالغ[56]، الحر[57]، غير المُكره[58].
واختلفوا في طلاق المُكره والسكران، وطلاق المريض، وطلاق المقارب للبلوغ.
واتفقوا على أنه يقع طلاق المريض إن صح[59].
واختلفوا هل ترثُه إن مات أم لا؟
فأما طلاق المُكره فإنه غير واقع عند مالك[60] والشافعي[61] وأحمد[62] وداود[63] وجماعة، وبه قال عبد الله بن عمر وابن الزبير[64] وعمر بن الخطاب[65] وعلي بن أبي طالب[66] وابن عباس[67].
وفرَّق أصحاب الشافعي[68] بين أن ينوي الطلاق أو لا ينوي شيئًا، فإن نوى الطلاق فعنهم قولان: أصحهما: لزومه، وإن لم ينو فقولان: أصحهما: أنه لا يلزم.
وقال أبو حنيفة وأصحابه[69]: هو واقع، وكذلك عتقه دون بيعه، ففرقوا بين البيع والطلاق والعتق.
وسبب الخلاف: هل المطلق من قبل الإكراه مختار أم ليس بمختار؟ لأنه ليس يُكره على اللفظ إذ كان اللفظ إنما يقع باختياره، والمُكره على الحقيقة هو الذي لم يكن له اختيار في إيقاع الشيء أصلًا، وكل واحد من الفريقين يحتج بقوله عليه السلام: "رفع عن أمتي الخطأ، والنسيان، وما استكرهوا عليه"[70].
ولكن الأظهر: أن المكره على الطلاق، وإن كان موقعًا للفظ باختياره أنه ينطلق عليه في الشرع اسم المُكره؛ لقوله تعالى: ﴿ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ ﴾ [النحل: 106].
وإنما فرَّق أبو حنيفة بين البيع والطلاق؛ لأن الطلاق مُغلظ فيه؛ ولذلك استوى جدُّه وهزله.
وأما طلاق الصبي فإن المشهور عن مالك[71]: أنه لا يلزمه حتى يبلغ.
وقال في "مختصر ما ليس في المختصر": إنه يلزمه إذا ناهز الاحتلام، وبه قال أحمد بن حنبل[72] إذا هو أطاق صيام رمضان.
وقال عطاء: إذا بلغ اثنتي عشرة سنة جاز طلاقه، ورُوي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه.
وأما طلاق السكران: فالجمهور من الفقهاء على وقوعه[73]، وقال قومٌ: لا يقع، منهم المزني[74] وبعض أصحاب أبي حنيفة[75].
والسبب في اختلافهم: هل حكمه حكم المجنون أم بينهما فرقٌ؟
فمن قال: هو والمجنون سواء إن كان كلاهما فاقدًا للعقل ومن شرط التكليف العقل، قال: لا يقع.
ومن قال: الفرق بينهما أن السكران أدخل الفساد على عقله بإرادته والمجنون بخلاف ذلك، ألزم السكران الطلاق، وذلك من باب التغليظ عليه.
واختلف الفقهاء فيما يلزمه السكران بالجملة من الأحكام وما لا يلزمه:
فقال مالك[76]: يلزمه الطلاق والعتق والقود من الجراح والقتل، ولم يلزمه النكاح ولا البيع.
وألزمه أبو حنيفة[77] كل شيء.
وقال الليث: كل ما جاء من منطق السكران فموضوع عنه، ولا يلزمه طلاق ولا عتق، ولا نكاح، ولا بيع، ولا حدٌّ في قذف، وكل ما جنته جوارحه فلازمٌ له، فيحدُّ في الشراب والقتل والزنى والسرقة.
وثبت عن عثمان بن عفان رضي الله عنه: أنه كان لا يرى طلاق السكران[78].
وزعم بعض أهل العلم: أنه لا مخالف لعثمان في ذلك من الصحابة.
وقول من قال: كل طلاق جائز إلا طلاق المعتوه، ليس نصيًا في إلزام السكران الطلاق؛ لأن السكران معتوه ما، وبه قال داود[79] وأبو ثور وإسحاق وجماعة من التابعين، أعني: أن طلاقه ليس يلزم.
وعن الشافعي[80] القولان في ذلك، واختار أكثر أصحابه قوله الموافق للجمهور، واختار المزني[81] من أصحابه أن طلاقه غير واقع[82]".
وقال في "الاختيارات": "ويصحُّ الطلاق من الزوج، وعن الإمام أحمد رواية[83]: ومن والد الصبي والمجنون وسيدهما، والذي يجب أن يسوى في هذا الباب بين العقد والفسخ، فكل من ملك العقد عليه ملك الفسخ عليه، فإن هذا قياس الرواية، وهو موجب شهادة الأصول، ويندرج في هذا الوصي المزوج والأولياء إذا زوجوا المجنون.
فإذا جوَّزنا للولي في إحدى الروايتين استيفاء القصاص، وجوَّزنا له الكتابة والعتق لمصلحته، وجوَّزنا له المقايلة في البيع، وفسخه لمصلحة فقد أقمناه مقام نفسه، وكذلك الحاكم الذي له التزويج، وهذا في من يملك جنس النكاح.
ولا يقع طلاق السكران ولو بسكرٍ بمُحرَّم وهو رواية عن أحمد، اختارها أبو بكر[84].
ونقل الميموني عن أحمد[85]: الرجوع عما سواها، فقال: كنت أقول: يقع طلاق السكران، حتى تبينت فغلب عليَّ أنه لا يقع، وقصد إزالة العقل بلا سبب شرعي محرم.
ولو ادَّعى الزوج أنه [كان] حين الطلاق زائل العقل بمرض أو غشي، قال أبو العباس: أفتيت أنه إذا كان هناك سبب يمكن معه صدقه فالقول قوله مع يمينه، ويجب على الزوج أمر امرأته بالصلاة، فإن لم تقبل وجب عليه فراقها في الصحيح...
إلى أن قال: ولا يقع طلاق المُكره، والإكراه يحصل إما بالتهديد، أو بأن يغلب على ظنه أنه يضره في نفسه أو ماله بلا تهديد.
وقال أبو العباس في موضع آخر: كونه يغلب على ظنه تحقيق تهديده ليس بجيد، بل الصواب: أنه لو استوى الطرفان لكان إكراهًا.
وأما إن خاف وقوع التهديد وغلب على ظنه عدمه فهو محتمل في كلام أحمد وغيره، ولو أراد المكره إيقاع الطلاق وتكلم به وقع، وهو رواية (حكاها أبو الخطاب)[86] في "الانتصار"، وإن سحره ليطلق فإكراهٌ، قال أبو العباس: تأملت المذهب فوجدت الإكراه يختلف باختلاف المُكره عليه، فليس الإكراه المعتبر في كلمة الكفر كالإكراه المعتبر في الهبة ونحوها، فإن أحمد[87] قد نص في غير موضع على أن الإكراه على الكفر لا يكون إلا بالتعذيب من ضرب أو قيد، ولا يكون الكلام إكراهًا.
وقد نصَّ[88] على أن: المرأة لو وهبت زوجها صداقها، أو مسكنها[89] فلها أن ترجع بناءً على أنها لا تهب له إلا إذا خافت أن يُطلقها، أو يُسيء عشرتها، فجعل خوف الطلاق أو سوء العشرة إكراهًا في الهبة، ولفظه في موضع آخر: لأنه أكرهها، ومثل هذا لا يكون إكراهًا على الكفر، فإن الأسير إذا خشي من الكفار ألا يزوجوه، وأن يحولوا بينه وبين امرأته لم يُبح له التكلم بكلمة الكفر.
ومثل هذا لو كان له عند رجل حق من دين، أو وديعة، أو نفقة فقال: لا أعطيك حتى تبيعني أو تهبني، فقال مالك: هو إكراه، وهو قياس قول أحمد ومنصوصه في مسألة ما إذا منعها حقها لتختلع منه[90]، وقال القاضي تبعًا للحنفية والشافعية: ليس إكراهًا.
وكلام أحمد[91] في وجوب طلاق الزوجة بأمر الأب مُقيد بصلاح الأب"[92].
وقال البخاري: "باب: الطلاق في الإغلاق والكره والسكران والمجنون، وأمرهما، والغلط والنسيان في الطلاق والشرك وغيره"؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "الأعمال بالنية ولكل امرئ ما نوى"، وتلا الشعبي: ﴿ لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا ﴾ [البقرة: 286] وما لا يجوز من إقرار الموسوس.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم للذي أقرَّ على نفسه: "أبك جنون؟" وقال علي: بقر حمزة خواصر شارِفيَّ فطفق النبي صلى الله عليه وسلم يلوم حمزة، فإذا حمزة قد ثمل محمرة عيناه، ثم قال حمزة: وهل أنتم إلا عبيد لأبي، فعرف النبي صلى الله عليه وسلم أنه قد ثمل فخرج وخرجنا معه.
وقال عثمان: ليس لمجنون ولا سكران طلاق.
وقال ابن عباس: طلاق السكران والمستكره ليس بجائز.
وقال عقبة بن عامر: لا يجوز طلاق الموسوس.
وقال عطاء: إذا بدا بالطلاق فله شرطه.
وقال نافع: طلق رجل امرأته ألبتة إن خرجت، فقال ابن عمر: إن خرجت فقد بتت منه، وإن لم تخرج فليس بشيء.
وقال الزهري في من قال: إن لم أفعل كذا وكذا فامرأتي طالق ثلاثًا: يُسأل عما قال، وعقد عليه قلبه حين حلف بتلك اليمين، فإن سمَّى أجلًا أراده، وعقد عليه قلبه حين حلف جعل ذلك في دينه وأمانته.
وقال إبراهيم: إن قال: لا حاجة لي فيك، نيته، وطلاق كل قوم بلسانهم.
وقال قتادة: إذا قال: إذا حملت فأنت طالق ثلاثًا: يغشاها عند كل طهر مرة، فإن استبان حملها فقد بانت منه.
وقال الحسن: إذا قال: الحقي بأهلك، نيتُهُ.
وقال ابن عباس: الطلاق عن وطر، والعتاق ما أُريد به وجه الله.
وقال الزهري: إن قال: ما أنت بامرأتي، نيته، وإن نوى طلاقًا فهو ما نوى.
وقال علي: ألم تعلم أن القلم رُفع عن ثلاثة: عن المجنون حتى يفيق، وعن الصبي حتى يُدرك، وعن النائم حتى يستيقظ.
وقال علي: وكل الطلاق جائز إلا طلاق المعتوه.
حدثنا مسلم، حدثنا هشام، حدثنا قتادة، عن زرارة بن أوفى، عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله تجاوز عن أمتي ما حدثت به أنفسها ما لم تعمل أو تتكلم"[93].
وقال قتادة: إذا طلَّق في نفسه فليس بشيءٍ، ثم ذكر البخاري قصة ماعز بن مالك"[94].
قال الحافظ: "قوله: باب الطلاق في الإغلاق، والكره، والسكران، والمجنون، وأمرهما والغلط والنسيان في الطلاق والشرك وغيره؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "الأعمال بالنية ولكل امرئ ما نوى".
اشتملت هذه الترجمة على أحكام يجمعها أن الحكم إنما يتوجه على العاقل المختار العامد الذاكر، وشمل ذلك الاستدلال بالحديث؛ لأن غير العاقل المختار لا نية له فيما يقول أو يفعل، وكذلك الغالط والناسي والذي يكره على الشيء.
وقوله: (الإغلاق): هو بكسر الهمزة: الإكراه على المشهور، قيل له ذلك لأن المكره يتغلق عليه أمره، ويتضيق عليه تصرفه، وقيل: هو العمل في الغضب.
وبالأول جزم أبو عبيد وجماعة.
وإلى الثاني أشار أبو داود، فإنه أخرج حديث عائشة: "لا طلاق ولا إعتاق في غِلاق"[95]. قال أبو داود: والغِلاق أظنه الغضب، وترجم على الحديث: الطلاق على غيظ، ووقع عنده بغير ألف في أوله.
وحكى البيهقي: أنه رُوي على الوجهين[96].
ووقع عند ابن ماجه في هذا الحديث: الإغلاق بالألف[97]، وترجم عليه: طلاقُ المُكره.
فإن كانت الرواية بغير ألف هي الراجحة فهو غير الإغلاق.
قال المُطرزي[98]: قولهم: إياك والغلق، أي: الضجر والغضب.
وردَّ الفارسي في "مجمع الغرائب" على من قال: الإغلاق: الغضب، وغلطه في ذلك وقال: إن طلاق الناس غالبًا إنما هو في حال الغضب.
وقال ابن المرابط: الإغلاق: حرج النفس، وليس كل من وقع له فارق عقله، ولو جاز عدم وقوع طلاق الغضبان لكان لكل أحدٍ أن يقول فيما جناه: كنت غضبانًا.
قال الحافظ: وأراد بذلك الرد على من ذهب إلى أن الطلاق في الغضب لا يقع، وهو مروي عن بعض مُتأخري الحنابلة، ولم يوجد عن أحد من متقدميهم إلا ما أشار إليه أبو داود، وأما قوله في "المطالع": الإغلاق: الإكراه، وهو من أغلقت الباب، وقيل: الغضب، وإليه ذهب أهل العراق، فليس بمعروفٍ عن الحنفية، وعرف بعِلَّة الاختلاف المطلق إطلاق "أهل العراق" على الحنفية.
وإذا أطلقه الفقيه الشافعي فمراده: مقابل المراوزة منهم، ثم قال: وقيل: معناه: النهي عن إيقاع الطلاق البدعي مطلقًا، والمراد النفي[99] عن فعله لا النفي لحكمه، كأنه يقول: بل يُطلق للسُّنَّة، كما أمره الله.
وقول البخاري: (والكُرْه) هو في النسخ بضم الكاف وسكون الراء، وفي عطفه على الإغلاق نظر، إلا إن كان يذهب إلى أن الإغلاق الغضب، ويحتمل أن يكون قبل الكاف ميم؛ لأنه عطف عليه السكران فيكون التقدير: باب حكم الطلاق في الإغلاق، وحُكم المكره والسكران والمجنون... إلى آخره.
وقد اختلف السلف في طلاق المُكره، فروى ابن أبي شيبة وغيره عن إبراهيم النخعي أنه يقع، قال: لأنه شيء افتدى به نفسه، وبه قال أهل الرأي[100].
وعن إبراهيم النخعي تفصيل آخر: إن ورَّى المُكره لم يقع، وإلا وقع. وقال الشعبي: إن أكرهه اللصوص وقع، وإن أكرهه السلطان فلا، أخرجه ابن أبي شيبة[101]، ووجه بأن اللصوص من شأنهم أن يقتلوا من يخالفهم غالبًا بخلاف السلطان.
وذهب الجمهور إلى عدم اعتبار ما يقع فيه[102].
واحتج عطاء بآية النحل: ﴿ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ ﴾ [النحل: 106] قال عطاء: الشرك أعظم من الطلاق([103])، أخرجه سعيد بن منصور بسند صحيح، وقرَّره الشافعي بأن الله لما وضع الكفر عمَّن تلفظ به حال الإكراه، وأسقط عنه أحكام الكفر فكذلك يسقط عن المُكره ما دون الكفر؛ لأن الأعظم إذا سقط سقط ما هو دونه بطريق الأولى، وإلى هذه النكتة أشار البخاري بعطف الشرك على الطلاق في الترجمة.
يتبع