نفقة الزوجة في العصر الحاضر بحث فقهي مقارن (1/ 2)
د. خالد بن عبد الله المزيني
المقدمة:
من محاسن هذه الشريعة المباركة عمومها وشمولها لأحوال المكلفين في كل زمان ومكان، ومما جاءت الشريعة بتنظيمه على أحسن الوجوه وأتمها: العلاقة بين الزوجين، فقد أسستها على قواعد المودة والرحمة والتعاون والتكافل، وجعلت لكل واحد من الزوجين حقوقاً بإزاء الواجبات التي ناطتها به، ثم أمرت الطرفين بالعفو والمحاسنة والتفضل بما لا يجب عليه فعله من المعروف(1) استبقاء لرابطة الزوجية، قال تعالى: {وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [البقرة:237]، ومن الواجبات التي ناطتها الشريعة بالزوج: نفقة الزوجة، قال تعالى: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ} [النساء:34]. وهذا الموضوع من الموضوعات التي اعتنى بها الفقهاء في القديم والحديث، فلا يخلو كتاب فقه من مناقشة مسائل النفقات بعامة والنفقة الزوجية بخاصة، كما تنشغل المحاكم كثيراً بمعالجة قضايا النفقة ومسائلها الشائكة التي لا تفتأ تثير الإشكالات وتتفاوت فيها أنظار القضاة كغيرها من المسائل المنوطة بالعرف كمسائل الحرز في السرقة وإحياء الموات وزيارة المحضون والعقوبات التعزيرية. كما أن هذا الموضوع مظنة وقوع الجور والتجاحد بين الأزواج في كل عصر ومصر، يقول ابن نجيم بعد أن بسط الكلام في مسائل النفقة الزوجية: "وإنما أكثرنا من هذه المسائل تنبيهاً للأزواج لما نراه في زماننا من تقصيرهم في حقوقهن – أي الزوجات – حتى إنه يأمرها بفرش أمتعتها جبراً عليها وكذلك لأضيافه وبعضهم لا يعطي لها كسوة حتى كانت عند الدخول غنية [ثم] صارت فقيرة، وهذا كله حرام لا يجوز، نعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا" [البحر الرائق (11/243)]، ولم تزل قضايا النفقة الزوجية محل عناية القانونيين ومثار خلاف بينهم، فلا تخلو كتب القانون وقوانين الأحوال الشخصية ومدونات الأسرة في الدول الحديثة من تناول قضايا النفقة الزوجية. ولهذه الأسباب كان موضوع النفقة الزوجية حقيقاً بالتحقيق والتأصيل، خصوصاً أنه ذو علاقة مباشرة باستقرار الأسرة التي هي اللبنة المؤسسة للمجتمع، فعقدت العزم على تحرير مسائله في هذا البحث، والسؤال الذي يعالجه هذا البحث: ما مدى مشروعية إلزام الزوج بنفقة العلاج لزوجته إذا مرضت وهي في عصمته، وما ضابط ما يجب في النفقة، وهل يشمل قيمة الزينة والخدمة والترفيه أم لا؟، وما المرجع في تحديد نفقة الزوجة في العصر الحاضر، وقد أسميته "نفقة الزوجة في العصر الحاضر"، وخصصت المبحث الأول للحديث عن مفهوم النفقة على الزوجة وحكمها، والمبحث الثاني عن نفقة العلاج للزوجة، والمبحث الثالث عن نفقة الزينة والخدمة والترفيه،والمبحث الرابع عن أثر عمل الزوجة خارج المنزل على نفقتها، والمبحث الخامس عن المرجع في تحديد النفقة الزوجية في العصر الحاضر، ثم الخاتمة، وقد انتهجت فيه الوصفي الاستقرائي لآراء المذاهب الفقهية، والمنهج التحليل في النقد والترجيح، سائلاً الله تعالى أن يوفقنا لسداد القول وصلاح العمل، وصلى الله على نبينا محمد وآله وأزواجه وذريته.
المبحث الأول: مفهوم النفقة على الزوجة وحكمها:
المطلب الأول: مفهوم النفقة لغة واصطلاحاً:
أ – النفقة في اللغة:
النفقة اسم من المصدر: نَفْق، يقال: نَفَقَت الدراهم نَفْقاً: أي نفدت، وجمع النفقة: نِفَاق، مثل رَقَبَة ورِقَاب، وتجمع على نَفَقَات(2)، وأشار بعضهم إلى معنى النفقة بحسب الاستعمال اللغوي العام فقال هي: الإدرار على شيء بما فيه بقاؤه(3)، وهذا يقرب من المعنى الفقهي للنفقة.
ب – النفقة في الاصطلاح:
عرفت النفقة فقهاً بتعريفات كثيرة، أشير إلى أهمها ثم أورد التعريف المختار.
قيل هي: "الطعام والكسوة والسكنى"(4)، وهذا التعريف غير جامع؛ لأنه اكتفى بالمهمات، وأهمل بعض مشمولات النفقة مع أهمية الإشارة إليها، مثل أدوات النظافة والفرش والخادم لمن تحتاجه وتوابع هذه الأشياء.
وقيل هي: "ما به قوام معتاد حال الآدمي دون سرف"(5).
وهذا التعريف أعم من نفقة الزوجة، فهو غير مانع، إذ تدخل فيه نفقة الأولاد والمملوك.
وقيل هي: "معاوضة في مقابلة التمكين والاستمتاع"(6).
وهذا التعريف وإن كان مختصاً بنفقة الزوجة لأنه نص على التمكين والاستمتاع، لكنه لم يتعرض لموضوع النفقة وموجباتها.
وقيل هي: "كفاية من يمونه خبزاً وأدماً وكسوة ومسكناً وتوابعها"(7). وهذا التعريف مع شموله، إلا أنه طوَّ ما حقه الاختصار، ولو اقتصر على الطعام دون تسمية الخبز والأدم لكان أولى، فضلاً عن عدم تقييده بالمعروف ولهذا فيستدرك عليه أيضاً ترك التنصيص على الخادم.
التعريف المختار:
والتعريف الذي يصدق على النفقة على الزوجة خاصة لأنها موضوع بحثنا أن نقول: (هي كفاية الزوجة طعاماً وكسوة وسكنى وتوابعها بالمعروف) وهذا التعريف قريب من تعريف الحنابلة الآنف الذكر مع تعديل طفيف.
(كفاية الزوجة): هذا ضابط لمقدار النفقة، فليس لها قدر محدد، بل تختلف باختلاف الزمان والمكان والشخص والأسعار، والمهم تحقيق قدر الكفاية للزوجة.
(طعاماً وكسوة وسكنى) هذه الثلاثة أهم ما يصدق عليه اسم النفقة فلهذا نص عليها.
(وتوابعها بالمعروف) ليدخل فيه ما يتعارف الناس على أنه من الاحتياجات الأساسية للزوجة كالحاجيات المتممة لما سبق، وكالعلاج من الأمراض في عصرنا الحاضر على القول الراجح كما سيأتي بيانه بإذن الله، وكتوفير الخادم إذا كان مثلها يخدم وطلبته، وهو ما سيناقشه هذا البحث في موضعه بإذن الله.
والنفقة لها أسباب ثلاثة عند الفقهاء: الزوجية والقرابة والملك(8)، وسوف يكون بحثنا هذا خاصاً بالسبب الأول وهو الزوجية.
المطلب الثاني: حكم النفقة على الزوجة:
اتفق الفقهاء على وجوب إنفاق الزوج على زوجته في الجملة(9)، وثبت هذا الوجوب بالكتاب والسنة والإجماع والمعقول، وفيما يأتي بيان ذلك:
أ – دليل النفقة من الكتاب:
1 – قوله تعالى: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لَا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة:233].
وجه الاستدلال: الآية نص في وجوب النفقة على الزوجة، وإنما نص على وجوب النفقة عليها حال الولادة ليدل على "أن النفقة تجب لها حال اشتغالها عن الاستمتاع بالنفاس؛ لئلا يتوهم متوهم أنها لا تجب لها"(10) أي في حال النفاس، أي أنها تستحق النفقة ولو لم تكن محلاً للاستمتاع بسبب عذر النفاس.
2 – قوله تعالى: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ} [النساء:34].
وجه الاستدلال: أن الله تعالى بيّن أنه فضّل الرجال على النساء وجعلهم أهل قيام عليهن بسبب "سَوْقهم إليهنّ مهورهن، وإنفاقهم عليهن أموالهم، وكفايتهم إياهن مُؤَنهن، وذلك تفضيل الله تبارك وتعالى إياهم عليهن"(11)، فدل على مشروعية النفقة على الرجل لزوجته.
ب – دليل النفقة من السنة:
1 – عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في خطبته في حجة الوداع: فاتقوا الله في النساء، فإنكم أخذتموهن بأمان الله، واستحللتم فروجهن بكلمة الله، ولكم عليهن ألا يوطئن فرشكم أحداً تكرهونه، فإن فعلن ذلك فاضربوهن ضرباً غير مبرح، ولهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف"(12).
وجه الاستدلال: ظاهر، فقد نص على أن للزوجات على أزواجهن النفقة بالرزق والكسوة بالمعروف.
2 – عن عائشة رضي الله عنها أن هند بنت عتبة رضي الله عنها قالت: يا رسول الله إن أبا سفيان رجل شحيح وليس يعطيني ما يكفيني وولدي إلا ما أخذت منه وهو لا يعلم، فقال: "خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف"(13).
وجه الاستدلال: رخص النبي صلى الله عليه وسلم لهند بأن تأخذ من مال زوجها مقدار النفقة الواجبة لها ولولدها، وهو ما يكفيها وولدها بالمعروف، وهي فتيا تدل على استحقاق الزوجة النفقة من زوجها.
ج – دليل النفقة من الإجماع:
اتفق الفقهاء على وجوب نفقة الزوجة في مال زوجها ما لم تكن ممتنعة منه، وذلك أن تمكنه من نفسها وأن تكون مطيقة للوطء وغير ناشز، إلا إذا كان الامتناع لسبب مشروع فتكون معذورة حينئذ، وقد حكى الإمام ابن المنذر وغيره اتفاق أهل العلم على وجوب نفقات الزوجات على أزواجهن إذا كانوا بالغين إلا الناشز منهن(14). وأما نفقة الزوجة الغنية على زوجها الفقير فقد انفرد ابن حزم بأن الزوجة الغنية تكلف بالإنفاق على زوجها الفقير(15)، وخالف بذلك قول جمهور الفقهاء، والصحيح أنه لا يجب عليها بل يستحب لها ذلك وتؤجر عليه، وعليه أن يتعفف عن مالها ما استطاع ولا تتشوف نفسه لشيء من مالها ما لم تطب نفسها بذلك، وقد قال تعالى: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ} الآية [النساء:34].
د – دليل النفقة من المعقول:
دل المعقول على استحقاق الزوجة النفقة في مال زوجها من وجهين:
أولهما: أن الأزواج قوامون على زوجاتهم، فهذا حق يقابله التزام بالإنفاق، وهو ما قرره ربنا تبارك وتعالى في قوله: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ} الآية [النساء:34]، "والقيم على غيره هو المتكفل بأمره"(16) بما في ذلك النفقة وهو ما أكدته الآية بذكر إنفاق الرجال من أموالهم على أزواجهم.
ثانيهما: أن الزوجة محبوسة المنافع على زوجها، وممنوعة من التصرف لحقّه في الاستمتاع بها، فوجب لها مؤنتها ونفقتها، كما يلزم الإمام في بيت المال نفقات أهل النفير؛ لاحتباس نفوسهم على الجهاد(17).
المبحث الثاني: نفقة علاج الزوجة:
لا يخفى أن توفير الزوج أجرة العلاج لزوجه من مظاهر المودة والرحمة التي هي من مقاصد عقدة النكاح وبها تتم استدامته، ومع هذا فقد اختلف الفقهاء في وجوب ذلك على الزوج قضاء، وذلك كما يأتي:
القول الأول:
عدم وجوب ثمن الدواء وعدم وجوب أجرة الطبيب على الزوج(18)، وإنما تجب في مال الزوجة أو من تلزمه نفقتها، وإلى هذا ذهب جمهور الفقهاء، مستندين في ذلك إلى ما يأتي:
أ – قوله تعالى: {لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آَتَاهُ اللَّهُ} [الطلاق:7].
وجه الاستدلال: أن الله تعالى ألزم الزوج بالنفقة المستمرة على زوجته، وليست نفقة العلاج داخلة تحتها؛ لأنها من الأمور العارضة(19).
ب – أن شراء الأدوية وأجرة الطبيب إنما تراد لإصلاح الجسم، فلا تلزم الزوج(20).
القول الثاني:
أن أجرة التطبيب وثمن الدواء واجب في مال الزوج بالمعروف، وإلى هذا القول ذهب الشوكاني(21)، وجمع من المعاصرين(22)، واحتجوا بعموم النصوص الواردة بالنفقة، ومنها حديث: ولهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف"(23).
ووجه الاستدلال: أن الصيغة عامة لأنها مصدر مضاف وهي من صيغ العموم(24).
ولأن وجوب النفقة عليه هي لحفظ صحتها والدواء من جملة ما تحفظ به صحتها(25)، فالدواء لحفظ الروح فأشبه النفقة(26).
واستظهر الدكتور وهبة الزحيلي من المعاصرين أن المداواة لم تكن فيما مضى حاجة أساسية، فلا يحتاج الإنسان غالباً إلى العلاج؛ لأنه يلتزم قواعد الصحة والوقاية، فاجتهاد الفقهاء مبني على عرف قائم في عصرهم، "أما الآن فقد أصبحت الحاجة إلى العلاج كالحاجة إلى الطعام والغذاء، بل أهم؛ لأن المريض يفضل غالباً ما يتداوى به على كل شيء، وهل يمكنه تناول الطعام وهو يشكو ويتوجع من الآلام والأوجاع التي تبرح به وتجهده وتهدده بالموت؟!"(27)، لذا فإنه يرى وجوب نفقة الدواء على الزوج كغيرها من النفقات الضرورية، ويجعلها نظير وجوب نفقة الدواء اللازم للولد على الوالد بالإجماع، ويتساءل د. الزحيلي: "هل من حسن العشرة أن يستمتع الزوج بزوجته حال الصحة، ثم يردها إلى أهلها لمعالجتها حال المرض؟!"(28).
الترجيح:
النصوص ناطت موضوع النفقة على معنى الكفاية والمعروف، وهذان المعنيان يختلفان باختلاف الزمان والمكان والحال، فقد تتحقق الكفاية لكن لا يكون معروفاً لدى أهل البلد المعين، فلا بد من مراعاة العرف في ذلك المحل، قال أبو العباس ابن تيمية: "الصواب المقطوع به عند جمهور العلماء أن نفقة الزوجة مرجعها إلى العرف وليست مقدرة بالشرع"(29) ا.هـ، وهذا ما عليه الأمة علماً وعملاً، قديماً وحديثاً، وهي تتنوع بتنوع حال الزوجين(30). وفي عصرنا الحاضر صار العلاج من الأمراض من جنس الضروريات التي لا يكاد يستغني عنها إنسان، وذلك لكثرة الأمراض وتراجع المناعة وتلاحق التلوث البيئي. ومما يؤيد هذا أن الفقهاء الذين لم يلزموا الزوج بأجرة الطبيب قالوا: "لو مرض القريب وجب أجرة الطبيب على قريبه"(31)، فالزوجة مثله، ولا فرق مؤثر هنا.
وتأسيساً على هذا فإن عقد النكاح في عصرنا الحاضر يقتضي إلزام الزوج بمعالجة زوجته، فأما إذا اشترط العلاج في العقد فلا إشكال في وجوبه لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} الآية [المائدة:1]. وأما إذا كان العقد مطلقاً فإنه يجب تفسيره بما يتعارفه الناس في الزمان والمكان، والناس قد تعارفوا في زماننا هذا على أن الزوج يتكفل بنفقة علاج زوجته، فمن تزوج امرأة على كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم فمقتضى هذه الصيغة إلزام الزوج بما يلزمه به العرف السائد في بلده؛ لأن الكتاب والسنة قد أحالا على العرف، فهذا هو موجب العقد المطلق، لهذا قال أبو العباس ابن تيمية: "والمعروف فيما له ولها هو موجَب العقد المطلق، فإن العقد المطلق يرجع في موجَبه إلى العرف، كما يوجب العقد المطلق في البيع النقد المعروف(32)، فإن شرط أحدهما على صاحبه شرطاً لا يحرم حلالاً ولا يحلل حراماً فالمسلمون عند شروطهم؛ فإن موجَبات العقود تتلقى من اللفظ تارة ومن العرف تارة أخرى"(33) ا.هـ.
ولعل عدول الفقهاء رحمهم الله عن إلزام الزوج بنفقة العلاج لزوجته مردُّه إلى ثلاثة أمور:
أولها: أن النساء في القديم كن يعالجن أنفسهن بأنفسهن غالباً، فتقوم المرأة بتركيب الدواء المناسب بما يتوفر من الأعشاب الطبية المعروفة في تلك الأزمنة، ولم تكن مضطرة إلى الذهاب إلى الطبيب، كما أنه لم تكن للأطباء حوانيت وعيادات منتشرة في كل مكان كحالهم اليوم. ولهذا ورد أن النبي صلى الله عليه وسلم كانت تعالجه أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها بما ينعته له حكماء العرب(34).
ثانيها: أن الطب في العصور الماضية لم يكن متقدماً كحاله اليوم لا في إجراءاته ولا في نتائجه، بل كان مبنياً على ظنون وتجارب منقوصة وغير منهجية غالباً، وربما اختلط بشيء من الشعوذة والسحر، حتى كان يطلق أحياناً على السحر: الطب، ومنه قول ابن الأسلت(35):
ألا مَن مُبلِغٌ حسّانَ عني *** أطِب كان داؤك أم جنونُ(36)
وفي حديث عائشة رضي الله عنها: "أن النبي صلى الله عليه وسلم طُب"(37) أي سُحر، وهذا يشير إلى اختلاط أعمال التطبيب بما ليس منه من أعمال غير مرضية شرعاً كالسحر. ولعله لأجل هذا التدني في مستوى الطب القديم واختلاطه بغيره ذهب جمهور الفقهاء إلى أن التداوي لا يعدو أن يكون مباحاً(38)، وكان بعض الفقهاء تكون به العلل فلا يخبر الطبيب توكلاً على الله تعالى، كما فعله الإمام أحمد رحمه الله فيما نقل عنه(39)، وهؤلاء الأئمة يرون أن من تمام التوكل ترك التداوي لمن قدر عليه، وهذا بالطبع لا يليق إلا بذوي المقامات العالية في الزهد والعلم والعمل، ولا يصح تعميم هذا الرأي على عموم الأمة رجالها ونسائها. ومع هذا فلا يسلم بأن ترك التداوي أفضل وأتم للتوكل، بل إن بذل أسباب التداوي هو من تمام التوكل لا العكس، ولهذا كان نبينا صلى الله عليه وسلم يتداوى وهو سيد المتوكلين، قال ابن القيم: "وفي الأحاديث الصحيحة الأمر بالتداوي وأنه لا ينافي التوكل كما لا ينافيه دفع داء الجوع والعطش والحر والبرد بأضدادها، بل لا تتم حقيقة التوحيد إلا بمباشرة الأسباب التي نصبها الله مقتضيات لمسبباتها قدراً وشرعاً، وأن تعطيلها يقدح في نفس التوكل كما يقدح في الأمر والحكمة ويضعفه من حيث يظن معطلها أن تركها أقوى في التوكل، فإن تركها عجز ينافي التوكل الذي حقيقته اعتماد القلب على الله في حصول ما ينفع العبد في دينه ودنياه ودفع ما يضره في دينه ودنياه، ولا بد مع هذا الاعتماد من مباشرة الأسباب وإلا كان معطلاً للحكمة والشرع، فلا يجعل العبد عجزه توكلاً ولا توكله عجزاً"(40) ا.هـ.
ثالثها: عدم اعتبار العلاج من الضروريات المستمرة، وإنما هو عارض طارئ، وهم يشترطون كفايتها – أي الزوجة – في الحوائج الدائمة، ولهذا عبر إمام الحرمين بلسانهم إذ قال في معرض كلامه عن نفقة الخادم: "وعلى الفقيه ألا يغفل نظره عن الرواتب من هذه الأمور، وعما يطرأ بعارض"(41)، وزاد هذا وضوحاً في موضوع آخر فقال: "والأمراض عوارض لا ترتب لها، فلم ير الشرع اعتبارها"(42) ا.هـ، أي أن النفقة منوطة بما هو دائم لا بما هو طارئ، ونوط النفقة بما هو دائم دون العارض يفتقر إلى دليل يدل عليه، والعمومات في الباب لا تساعد عليه، والله أعلم.
وقد اتجهت مدونات قوانين الأسرة والأحوال الشخصية إلى إلزام الزوج بعلاج زوجته في حال مرضها، كما في القانون المصري (م100) لسنة 1985م، ومدونة الأسرة المغربية رقم 70.03 (م189)(43)، والقانون الليبي عام (1984م) (م22)(44)، وقانون الأسرة الجزائري لعام (1404هـ) (م78)(45)، هذه المدونات نصت على أن العلاج من مشمولات النفقة الزوجية، في حين نجد أن القانون الموريتاني لم يصرح بوجوب نفقة العلاج وإنما عبر بعبارة محتملة، ونصه: "تشمل النفقة الطعام والكسوة والمسكن وما يعد من الضروريات في العرف"، ولم ينص صراحة على العلاج، وعلى هذا يكون تقدير مرجعه إلى القضاء المختص عند النزاع.
ومما يرد السؤال عنه في هذا العصر: هل يلزم الزوج أن يقوم بالتأمين الصحي عن زوجته ما دمتم ألزمتم الزوج بنفقة العلاج لزوجته؟ والجواب أن يقال:
أولاً: في حال توفر التأمين الصحي التكافلي: ففي هذه الحال يلزم الزوج التأمين إلا إذا كان قادراً على علاجها في حال مرضها بدون تأمين، وعليه ففي الدول التي تكون تكاليف العلاج باهظة ويعجز عنها الزوج فيلزمه التأمين؛ لأن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب.
ثانياً: في حال عدم توفر التأمين التكافلي: ففي هذه الحال لا يجوز له التأمين إلا في صورة ما إذا ألزمه ولي الأمر أو نائبه من الجهات المختصة في البلد، وأما إذا كان عاجزاً عن توفير العلاج لزوجته بدون تأمين، ولا يتوفر التأمين التكافلي في البلد، فحينئذ يتوجه القول بعدم إلزامه بالتأمين؛ لأن نفقة الزوجة منوطة بالمعروف، والتأمين التجاري ليس من المعروف، على أن يتكفل بما يستطيع من نفقة العلاج قدر وسعه بالمعروف، والله تعالى أعلم.
ومما اختلف فيه الفقهاء من متعلقات النفقة أجرة القابلة(46)، وسبب الخلاف أمران:
أولهما: هل أجرة القابلة من قبيل أجرة العلاج أم من قبيل مؤونة الجماع والاستمتاع ونفع الولد، فمن ألحقها بأجرة الطبيب جعلها على الزوجة، ومن ألحقها بمؤونة الجماع والاستمتاع ونفع الولد جعلها على الزوج(47).
يتبع