وأما الرواية الثانية: فمدٌّ مدٌّ لكل مسكين بمد النبي صلى الله عليه وسلم، وبه قال الشافعي[79].
فوجه الرواية الأولى: اعتبار الشبع غالبًا، أعني: الغداء والعشاء. ووجه هذه الرواية الثانية: اعتبار هذه الكفارة [بكفارة] اليمين.
فهذا هو اختلافهم في شروط الصحة في الواجبات في هذه الكفارة.
وأما اختلافهم في مواضع تعددها، ومواضع اتحادها:
فمنها: إذا ظاهر بكلمة واحدة من نسوة أكثر من واحدة، هل يجزئ في ذلك كفارة واحدة أم يكون عدد الكفارات على عدد النسوة؟
فعند مالك[80]: أنه يجزئ في ذلك كفارة واحدة.
وعند الشافعي[81] وأبي حنيفة[82]: أن فيها من الكفارات بعدد المظاهر منهن، إن اثنتين فاثنتين، وإن ثلاثًا فثلاثًا، وإن أكثر [فأكثر]، فمن شبهه بالطلاق أوجب في كل واحدة كفارة، ومن شبهه بالإيلاء أوجب فيه كفارة واحدة، وهو بالإيلاء أشبه.
ومنها: إذا ظاهر من امرأته في مجالس شتى، هل عليه كفارة واحدة أو على عدد المواضع التي ظاهر فيها؟
فقال مالك[83]: ليس عليه إلا كفارة واحدة إلا أن يظاهر [فلم يكفر][84]، ثم يظاهر فعليه كفارة ثانية، وبه قال الأوزاعي، وأحمد[85]، وإسحاق.
وقال أبو حنيفة[86] والشافعي[87]: لكل ظِهار كفارة.
وأما إذا كان ذلك في مجلس واحد، فلا خلاف عند مالك أن في ذلك كفارة واحدة.
وعند أبي حنيفة[88]: أن ذلك راجع إلى نيته، فإن قصد التأكيد كانت الكفارة واحدة، وإذا أراد استئناف الظِّهار كان ما أراد، ولزمه من الكفارات على عدد الظِّهار.
وقال يحيى بن سعيد: تلزم الكفارة على عدد الظِّهار سواءٌ كان في مجلس واحد أو في مجالس شتى.
والسبب في هذا الاختلاف: أن الظِّهار الواحد بالحقيقة هو الذي يكون بلفظ واحد من امرأة واحدة في وقت واحد.
والمتعدد بلا خلاف: هو الذي يكون بلفظين من امرأتين في وقتين، فإن كرَّر اللفظ من امرأة واحدة، فهل يوجب تعدد اللفظ تعدد الظِّهار أم لا يوجب ذلك فيه تعددًا؟
وكذلك إن كان اللفظ واحدًا والمظاهر منها أكثر من واحدة؟ وذلك أن هذه بمنزلة المتوسطات بين ذينك الطرفين، فمن غلب عليه شبه الطرف الواحد أوجب له حكمه، ومن أوجب[89] عليه شبه الطرف الثاني أوجب له حكمه.
ومنها: إذا ظاهر من امرأته، ثم مسها قبل أن يُكفِّر، هل عليه كفارة واحدة أم لا؟
فأكثر فقهاء الأمصار مالك[90]، والشافعي[91]، وأبو حنفية[92]، والثوري، والأوزاعي، وأحمد[93]، وإسحاق، وأبو ثور، وداود[94]، والطبري، وأبو عبيد، أن في ذلك كفارة واحدة.
والحجة لهم حديث سلمة بن صخر البياضي أنه ظاهر من امرأته في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم وقع بامرأته قبل أن يكفر، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر له ذلك، فأمره أن يُكفر تكفيرًا واحدًا[95].
وقال قومٌ: عليه كفَّارتان: كفَّارة العزم على الوطء، وكفارة الوطء؛ لأنه وطئ وطًأ محرمًا، وهو مروي عن عمرو بن العاص[96]، وقبيصة بن ذؤيب[97]، وسعيد بن جبير[98]، وابن شهاب[99].
وقد قيل: إنه لا يلزمه شيء، لا عن العود ولا عن الوطء؛ لأن الله تعالى اشترط صحة الكفارة قبل المسيس، فإذا مس فقد خرج وقتها، فلا تجب إلا بأمر مجدد؛ وذلك معدوم في مسألتنا، وفيه شذوذ.
وقال أبو محمد بن حزم[100]: من كان فرضه الإطعام فليس يحرم عليه المسيس قبل الإطعام، وإنما يحرم المسيس على من كان فرضه العتق أو الصيام"[101].
وقال ابن رشد أيضًا: "وأما هل يدخل الإيلاء على الظِّهار إذا كان مضارًا، وذلك بألا يكفر مع قدرته على الكفارة؟ فإن فيه أيضًا اختلافًا:
فأبو حنيفة[102] والشافعي[103] يقولان: لا يتداخل الحكمان؛ لأن حكم الظِّهار خلاف حكم الإيلاء، وسواء كان عندهم مضارًا أو لم يكن، وبه قال الأوزاعي وأحمد[104] وجماعة.
وقال مالك[105]: يدخل الإيلاء على الظِّهار بشرط أن يكون مضارًا.
وقال الثوري: يدخل الإيلاء على الظِّهار، وتبين منه بانقضاء الأربعة الأشهر من غير اعتبار المضارة، ففيه ثلاثة أقوال:
قول: إنه يدخل بإطلاق.
وقول: إنه لا يدخل بإطلاق.
وقول: إنه يدخل مع المضارة، ولا يدخل مع عدمها.
وسبب الخلاف: مراعاة المعنى واعتبار الظاهر، فمن اعتبر الظاهر قال: لا يتداخلان، ومن اعتبر المعنى قال: يتداخلان إذا كان القصد الضرر"[106].
وقال في "الاختيارات": "وما يخرج في الكفارة المطلقة غير مقيد بالشرع بل بالعُرف قدرًا ونوعًا، من غير تقدير ولا تمليك، وهو قياس المذهب في الزوجة والأقارب، والمملوك، والضيف، والأجير المستأجر بطعامه، والإدام يجب إن كان يطعم أهله بإدام وإلا فلا.
وعادة الناس تختلف في ذلك في الرُّخْص والغلاء واليسار والإعسار، وتختلف بالشتاء والصيف.
والواجبات المقدرات في الشرع من الصدقات على ثلاثة أنواع:
تارة: تقدَّر الصدقة الواجبة، ولا يقدر من يعطاها كالزكاة .
وتارة: يقدَّر المُعطى، ولا يقدر المال كالكفارات.
وتارة: يقدر هذا وهذا كفدية الأذى؛ وذلك أن سبب وجوب الزكاة هو المال، فقَدَّر [فيها] المال الواجب.
وأما الكفارات: فسببها فعل بدنه كالجماع واليمين والظِّهار، فقدر فيها المعطى كما قُدر العتق والصيام، وما يتعلق بالحج فيه بدن ومال فهو عبادة بدنية ومالية؛ فلهذا قدر فيه هذا وهذا"[107].
وقال الشوكاني في "الدرر البهية": "باب الظهار: هو قول الرجل لامرأته: أنت علي كظهر أمي، أو: ظاهرتك، أو نحو ذلك، فيجب عليه قبل أن يمسها أن يكفر بعتق رقبة، فإن لم يجد فصيام شهرين متتابعين، وإن لم يستطع فليطعم ستين مسكينًا.
ويجوز للإمام أن يعينه من صدقات المسلمين إذا كان فقيرًا لا يقدر على الصوم، وله أن يصرف منها لنفسه وعياله، وإذا كان الظِّهار مؤقتًا فلا يرفعه إلا انقضاء الوقت، وإذا وطئ قبل انقضاء الوقت -أو قبل التكفير – كفَّ حتى يكفر في المُطْلق، وينقضي وقت المؤقَّت"[108].
وقال البخاري: "باب: المجامع في رمضان هل يطعم أهله من الكفارة إذا كانوا محاويج؟".
وذكر حديث أبي هريرة في قصة المجامع، وفي آخره: "فأطعمه أهلك"[109].
قال الحافظ: "وقال ابن دقيق العيد[110]: تباينت في هذه القصة المذاهب:
فقيل: إنه دل على سقوط الكفارة بالإعسار المقارن لوجوبها؛ لأن الكفارة لا تصرف إلى النفس ولا إلى العيال.
وقال الجمهور[111]: لا تسقط الكفارة بالإعسار، والذي أذن له في التصرف فيه ليس على سبيل الكفارة.
وقال الزُّهري: هو خاص بهذا الرجل، وقيل: لما كان عاجزًا عن نفقة أهله جاز له أن يصرف الكفارة لهم، وهذا هو ظاهر الحديث.
وقال الشيخ تقي الدين[112]: وأقوى من ذلك أن يجعل الإعطاء لا على جهة الكفارة بل على جهة التصدق عليه وعلى أهله بتلك الصدقة على ما ظهر من حاجتهم، وأما الكفارة فلم تسقط بذلك.
قال الحافظ: والحق أنه لما قال له صلى الله عليه وسلم: "خُذ هذا فتصدق به[113]" لم يقبضه، بل اعتذر بأنه أحوج إليه من غيره، فأذن له حينئذ في أكله، فلا يكون فيه إسقاط ولا أكل المرء من كفارة نفسه، ولا إنفاقه على من تلزمه نفقتهم من كفارة نفسه.
وأما ترجمة البخاري: باب: المجامع في رمضان، هل يطعم أهله من الكفار إذا كانوا محاويج؟ فليس فيه تصريح بما تضمنه حكم الترجمة... والله أعلم[114]" انتهى ملخصًا.
وقال في "المقنع" أيضًا: "كفارة الظهار على الترتيب، فيجب عليه تحرير رقبة، فإن لم يجد فصيام شهرين متتابعين، فإن لم يستطع فإطعام ستين مسكينًا.
وكفارة الوطء في رمضان مثلها في ظاهر المذهب[115]، وكفارة القتل مثلهما إلا في الإطعام، ففي وجوبه روايتان[116]، والاعتبار في الكفارات بحال الوجوب في إحدى الروايتين[117].
فإذا وجبت وهو موسر ثم أعسر لم يجزئه إلا العتق، وإن وجبت وهو معسر فأيسر لم يلزمه العتق، وله الانتقال إليه إن شاء.
وعنه[118] في العبد إذا عتق لا يجزئه غير الصوم.
والرواية الثانية[119]: الاعتبار بأغلظ الأحوال، فمن أمكنه العتق من حين الوجوب إلى حين التكفير لا يجزئه غيره، فإن شرع في الصوم ثم أيسر لم يلزمه الانتقال عنه، ويحتمل أن يلزمه[120]".
وقال في "الإفصاح": "واتفقوا على أن كفَّارة الجِماع في شهر رمضان عتق رقبة، أو صيام شهرين متتابعين، أو إطعام ستين مسكينًا[121].
وأجمعوا على أنه إذا عجز عن كفَّارة الوطء حين الوجوب سقطت عنه[122]، إلا الشافعي فإنه قال في أحد قوليه[123]: تثبت في ذمته.
وقال أبو حنيفة[124]: إذا عجز عنها حين وجوبها فلا يلزمه الاستدانة، ولا إثم عليه في تأخيرها حتى لو مات ولم يقدر عليها، فلا إثم عليه.
لكن متى قدر عليها وجبت عليه وجوبًا موسعًا، حتى إن مات ولم يؤدها بعد أن كان قدر عليها أثم"[125].
[1] الروض المربع ص 441 - 442.
[2] الإنصاف مع المقنع والشرح الكبير 23/ 351، وشرح منتهى الإرادات 5/ 559، وكشاف القناع 12/ 506.
[3] شرح منتهى الإرادات 5/ 560، وكشاف القناع 12/ 508.
[4] الإنصاف مع المقنع والشرح الكبير 23/ 358.
[5] المقنع 3/ 253 - 255.
[6] كذا في الأصل، وفي الإنصاف 23/ 351: "البر".
[7] الإنصاف مع المقنع والشرح الكبير 23/ 351.
[8] شرح منتهى الإرادات 5/ 559، وكشاف القناع 12/ 506.
[9] الأم 5/ 303، ومغني المحتاج 3/ 367.
[10] الإنصاف مع المقنع والشرح الكبير 23/ 352.
[11] الإنصاف مع المقنع والشرح الكبير 23/ 352.
[12] تحفة المحتاج 8/ 201، ونهاية المحتاج 7/ 102.
[13] الإنصاف مع المقنع والشرح الكبير 23/ 351.
[14] شرح منتهى الإرادات 5/ 559، وكشاف القناع 12/ 505.
[15] شرح منتهى الإرادات 5/ 559، وكشاف القناع 12/ 506.
[16] انظر: مصنف ابن أبي شيبة 3/ 407.
[17] رواه البيهقي في الكبرى 10/ 55.
[18] تحفة المحتاج 8/ 201، ونهاية المحتاج 7/ 102.
[19] أبو داود 2218، وصححه الألباني في "صحيح أبي داود" 1921.
[20] الشرح الصغير 1/ 491، وحاشية الدسوقي 2/ 454.
[21] مصنف عبد الرزاق 8/ 509 16082، ومصنف ابن أبي شيبة 3/ 406.
[22] مصنف ابن أبي شيبة 3/ 406، 12203.
[23] مصنف ابن أبي شيبة 3/ 406، 12196.
[24] فتح القدير 3/ 240، وحاشية ابن عابدين 3/ 503.
[25] أحمد 4/ 37، وأبو داود 2213. وأخرجه أيضًا الترمذي 3299، وابن ماجه 2062، والدارمي 2273، وابن خزيمة 2378، من طريق محمد بن إسحاق، عن محمد بن عمرو بن عطاء، عن سليمان بن يسار، عن سلمة بن صخر البياضي، به.
قال الحاكم: حديث صحيح على شرط مسلم. ووافقه الذهبي.
قال الألباني في الإرواء 7/ 188 2091: وفيما قالاه نظر! فإن ابن إسحاق مدلِّسٌ وقد عنعنه عند جميعهم، ثم هو إنما أخرج له مسلم متابعة. وفيه عند البخاري علة أخرى، فقال الترمذي عقبه: هذا حديث حسن، قال محمد [يعني: البخاري]: سليمان بن يسار لم يسمع عندي من سلمة بن صخر.
قلت: وللحديث متابعات، وشاهد من حديث ابن عباس رضي الله عنهما، يتقوى بها الحديث.
انظر: الإرواء 7/ 178 - 179.
[26] 2112.
قال ابن حجر في الفتح 11/ 595: هو من رواية بن عبد الله بن يعلى بن مُرة وهو ضعيف جدًا.
[27] لم أقف عليه في "المسند".
قال الألباني في الإرواء 7/ 181 2096: ضعيف، وإن كنت لم أقف على إسناده؛ فإنه ليس في مسنده، فلينظر في أي كتاب أخرجه، هو ضعيف؛ لأن أبا يزيد المدني تابعي، فحديثه مرسل.
[28] أخرجه أبو داود 2214 وأحمد 6/ 410، من حديث خولة بنت ثعلبة رضي الله عنها.
قال الألباني في الإرواء 7/ 174 2087: فيه معمر بن عبدالله بن حنظلة، وهو مجهول، قال في الميزان: "كان في زمن التابعين، لا يُعرف، وذكره ابن حبان في ثقاته، قلت: ما حدث عنه سوى ابن إسحاق بخبر مظاهرة أوس بن الصامت".
وقال الحافظ في التقريب: "مقبول". يعني عند المتابعة وإلا فلين الحديث كما نص عليه في المقدمة، ومع ذلك فقد حسَّن إسناد حديثه هذا في الفتح 9/ 382.
قلت: ثم ذكر له ثلاثة شواهد وصححه بها.
[29] أبو داود 2216.
[30] شرح منتهى الإرادات 5/ 560، وكشاف القناع 12/ 508.
[31] المدونة 2/ 324، وشرح مختصر خليل 4/ 120، وشرح منح الجليل 2/ 351.
[32] المهذب 2/ 150، وفي تحفة المحتاج، ونهاية المحتاج: قياسًا على منع إخراج القيمة في زكاة الفطر، انظر: تحفة المحتاج 3/ 324، ونهاية المحتاج 3/ 123.
[33] الإشراف 5/ 311 3180.