عرض مشاركة واحدة
  #5  
قديم 22-02-2020, 04:09 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 161,352
الدولة : Egypt
افتراضي رد: رأي الإمام الشاطبي في أقسام تحقيق المناط في الاجتهاد



أما عن موقف الأصوليين من آراء الشَّاطبي في تحقيق المناط، فلا بد من بيانه تباعًا بالنقاط الآتية:
أولًا: حسب تتبعي فإني لم أرَ أحدًا من العلماء قسم تحقيق المناط كهذا التقسيم البديع؛ نعم، قسم بعض الأصوليين تحقيق المناط إلى قسمين:
القسم الأول: أن يكون في قاعدة كلية ثابتة بالنص أو الإجماع، فيجتهد في تحققها في الفرع، والقسم الثاني: ما عرف علة الحكم فيه، فيبين المجتهد وجودها في الفرع باجتهاده[41].
وفيما يظهر أن هذا التقسيم مخالف في منطلقه لتقسيم الشَّاطبي؛ إذ يمكن أن يكون هذا التقسيم تقسيمًا لتحقيق المناط من حيث الأصل، بينما تقسيم الشَّاطبي يعتبر تقسيمًا له من حيث الفرع؛ وتوضيح ذلك أن مبدأ تحقيق المناط إما أن يكون قاعدة أو علة، وإحلال الأصل في الفرع، أما أن يكون على شكل كلي أو جزئي، فإن كان كليًّا فهو تحقيق مناط نوعي، وإن كان جزئيًّا فهو تحقيق مناط شخصي، فوجهة كل من التقسيمين مختلفة.
وبهذا يكون الشَّاطبي متميزًا بهذا التقسيم عن غيره من الأصوليين.

ثانيًا: أما تحقيق المناط الخاص بالأنواع، فلم أرَ مَن ذكره بهذه التسمية، إلا ابن تيمية؛ حيث قال: "كما اتفقوا على تحقيق المناط، وهو أن يعلق الشارعُ الحُكمَ بمعنى كلي، فينظر في ثبوته في بعض الأنواع، أو في بعض الأعيان"[42]، ولكنه لم ينصَّ على تقسيم تحقيق المناط المتعلق بالأنواع إلى نوعين، واكتفى بذكر الأمثلة المشيرة إلى نوعيه، كما فعل الشَّاطبي تمامًا.

ثالثًا: أما تحقيق المناط النوعي الخاص فلم أرَ مَن نص عليه، غير أن ابن تيمية ذكر تحقيق المناط المتعلق بالأنواع، ولم يفصِّل، ثم نقل الاتفاق عليه، فقال: "فإن هذا النوع من الاجتهاد متفق عليه بين المسلمين، بل بين العقلاء فيما يتبعونه من شرائع دينهم، وطاعة ولاة أمورهم، ومصالح دنياهم وآخرتهم"[43]، وعلى هذا فيندرج ضمن الاتفاق تحقيق المناط النوعي الخاص.

وقد ذكر الأصوليون من أمثلة تحقيق المناط ما هو من تحقيق المناط النوعي الخاص، كالنبَّاش هل هو سارق أو لا؟[44]، وهل كل طائف ملحق بالهر؟[45]، والنبيذ هل هو ملحق بالخمر؟[46].

وبعضهم كالغزالي[47]، وابن قدامة[48]، والطوفي[49]، يُتْبعون الأمثلة بنقل الاتفاق على تحقيق المناط بجملته، فيكون هذا النوع من جملة ما هو متفق عليه.

كما أن عمل الأصوليين بخاصة والعلماء بعامة يدل على أخذهم بهذا النوع، بل واتفاقهم عليه؛ كتقسيم الاجتهاد إلى الأحكام التكليفية الخمسة[50]، ومثله النكاح[51]، والجهاد قد يكون واجبًا في حال، ومندوبًا في حال[52]، وهكذا كثير من الأحكام، وبناءً على هذا، فإن هذا النوع من تحقيق المناط النوعي قد وافق فيه الأصوليون الشَّاطبي في الجملة.

ولكن مِن الأصوليين مَن جعل تحقيق المناط النوعي المتعلق بالعلة من باب القياس، وذكر أن تحقيق المناط النوعي المتعلق بالعلة يجري فيه الخلاف من منكري القياس، وبعضهم ذكر أن جماعة من منكري القياس أقروا بهذا النوع؛ لأنه من القياس الجلي[53].

وقد وافقه الأصوليون في إطلاق اسم تحقيق المناط عليه[54].

وبلا شك أن هذا مندرج في مسمى الاجتهاد؛ إذ لا يقوى عليه إلا المجتهد؛ فالشَّاطبي قد أطلق عليه مسمى الاجتهاد، ووافقه غيره[55].

ثالثًا: أما ما ذكره الشَّاطبي من تحقيق المناط النوعي بنوعه العام، فلم أرَ من سماه بهذه التسمية، إلا ما سبق نقله عن ابن تيمية، ولكنه أيضًا لم يصرح بتقسيم تحقيق المناط المتعلق بالأنواع، أما غيره من الأصوليين فلم يذكروا شيئًا من ذلك، غير أنهم يذكرون من أمثلة تحقيق المناط ما هو مثال على تحقيق المناط النوعي العام، مثل: تحقيق المِثل في جزاء الصيد[56]، وتحقيق أروش الجنايات[57]، وتقدير النفقات[58]، كما جوَّز بعضهم التقليد في صور إنما هي من تحقيق المناط النوعي العام؛ كتقليد التاجر في تقويم المتلَفات، والخارص فيما خرص، والقاسم فيما قسم، والقائف في الإلحاق، والجزار في الذكاة، والملاح في القِبلة، والطبيب فيما يخصه[59].

ومِن هذا اجتهاد العامي في المُفْتين عند من يقول به[60]، ولما ذكر بعض الأصوليين هذه الأمثلة نقل الاتفاق على تحقيق المناط، فيكون من جملة ما هو متفق عليه[61]، ونقل ابن تيمية الاتفاق على تحقيق المناط في الأنواع جملة[62]، واتفاقهم على بعض جزئياته - كاتفاقهم على المِثل في جزاء الصيد[63] - شاهد على ذلك.

وقد وافق الشَّاطبي في تسميته اجتهادًا الشافعي؛ حيث قال: "ولم يحتمل المِثلُ من النَّعم القيمة فيما له مثلٌ في البدن من النعم إلا مستكرهًا باطنًا، فكان الظاهر الأعم أولى المَعْنيين بها، وهذا الاجتهاد الذي يطلبه الحاكم بالدلالة على المثل"[64].

فالشافعي سمى الاجتهاد في تحقيق المِثل اجتهادًا، وهو من هذا النوع من تحقيق المناط.

والجصاص؛ حيث قال في أنواع الاجتهاد: "والضرب الآخر من الاجتهاد هو يغلب في الظن من غير علة يجب بها قياس الفرع على الأصل؛ كالاجتهاد في تحري جهة الكعبة لمن كان غائبًا عنها، وكتقويم المستهلكات، وجزاء الصيد، والحُكم بمهر المِثل، ونفقة المرأة، والمتعة، ونحوها، فهذا الضرب من الاجتهاد كلفنا فيه الحكم بما يؤدي إليه غالب الظن من غير علة يقاس بها فرع على أصله"[65].

والغزالي؛ حيث قال: "وفي كل اجتهاد يتعلق بتحقيق مناط الحكم؛ كأروش الجنايات..."[66].

وابن تيمية[67]، والطوفي[68]، وابن السبكي[69].

وخالَف في هذا آخرون، فمنعوا إدراج تقسيم المتلَفات، وأروش الجنايات، ونحوها مما هو من تحقيق المناط النوعي العام ضمن الاجتهاد؛ ولذا اعترض بعضهم على بعض تعريفات الاجتهاد بأنها غير مانعة لاندراج الاجتهاد في قيم المتلَفات، وأروش الجنايات، ونحوها في التعريف، ورأوا إضافة قيود تخرجها من مسمى الاجتهاد، ومنهم القَرافي[70]، والأسنوي[71]، والشوشاوي[72].

والظاهر - والله أعلم - أنه لا خلاف في ذلك؛ لأن الشَّاطبي ومن وافقه حينما أطلقوا على هذا النوع من تحقيق المناط مسمى الاجتهاد إنما أرادوا الاجتهاد بمعناه اللغوي لا الاصطلاحي؛ كيف والعلماء - ومنهم الشَّاطبي - يشترطون في المجتهد شروطًا ليست في صاحب الاجتهاد في تحقيق المناط النوعي العام، فلما لم يشترطوا تلك الشروط في هذا الاجتهاد، وألحقوا هذا النوع بالعامي ومن عداه ممن لا تتوفر فيه شروط الاجتهاد، دلَّ هذا على المفارقة بين الإطلاقين في البابين، والله أعلم.

رابعًا: أما ما ذكره الشَّاطبي من تحقيق المناط الشخصي، فلم أرَ أحدًا أطلق عليه هذا الإطلاق إلا ابن تيمية، فإنه قال: "كما اتفقوا على تحقيق المناط، وهو أن يعلق الشارعُ الحكمَ بمعنًى كلي، فينظر في ثبوته في بعض الأنواع، أو في بعض الأعيان"[73]، ولكنه لم يقسم تحقيق المناط الشخصي، فخالف بذلك صنيع الشَّاطبي.

خامسًا: أما تحقيق المناط الشخصي العام، فقد وافق الأصوليون فيه الشَّاطبي، فإنهم يذكرون في أمثلة تحقيق المناط ما هو مندرج في هذا القسم؛ كالاجتهاد في تحقيق العدالة[74]، والاجتهاد في القِبلة[75]، ونصب الإمام والقضاة والولاة[76]، وتقدير التعزيرات على الأعيان[77]، والحُكم بين الشهود[78]، ونحو ذلك مما يندرج ضمن هذا النوع، وبعض الأصوليين بعد أن يذكر تحقيق المناط للقاعدة الكلية، ويتبع ذلك بالأمثلة، التي منها بعض ما سبق - ينقل عليه الاتفاق، ويجعله مِن ضرورة كل شريعة[79].

وقد نقل ابن تيمية الإجماعَ عليه بخصوصه؛ حيث قال - وهو يعدد أمثلة تحقيق المناط -: "وكما قال تعالى: ï´؟ وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ï´¾ [الإسراء: 34]، ويبقى النظر في تسليمه إلى هذا التاجر بجزء من الربح، هل هو مِن التي هي أحسن أم لا؟ وكذلك قوله: ï´؟ إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ ï´¾ [التوبة: 60]، يبقى هذا الشخص هل هو من الفقراء والمساكين المذكورين في القرآن أم لا؟، وكما حرَّم الله الخمر والربا عمومًا، يبقى الكلام في الشراب المعيَّن هل هو خمر أم لا؟، وهذا النوع مما اتفق عليه المسلمون، بل العقلاء، بأنه لا يمكن أن ينص الشارع على حكم كل شخص، إنما يتكلم بكلام عام"[80].

وقد وافَق الشَّاطبي في إطلاق الاجتهاد على هذا النوع الشافعي؛ حيث قال: "ففرض عليهم الاجتهاد بالتوجه شطر المسجد الحرام"[81].

والشيرازي[82]، والجويني[83]، والآمدى[84]، وابن تيمية[85]، والطوفي[86]، وابن السبكي[87]، وإن كان بعض مَن سبق ساق إطلاق الاجتهاد على تحقيق المناط في القِبلة بما يفيد أن الكلام عن المجتهد، وليس العامي.

ويمكن أن ينسحب قول من خالف في إطلاق الاجتهاد على تحقيق المناط النوعي العام على هذا النوع من تحقيق المناط، لا سيما وأن إطلاق الاجتهاد على المجتهد في هذا النوع مخالف لاصطلاح الأصوليين، وما ذكر هناك مِن أن مراد مَن أطلق عليه مسمى الاجتهاد هو الاجتهاد بالعرف اللغوي، وأن مَن منع مِن ذلك إنما أراد ألا يطلق عليه مسمى الاجتهاد في العرف الأصولي، يقال هنا أيضًا: فمَن أطلق على العامي لفظة الاجتهاد؛ لكونه اجتهد في تحقيق مناط نفسه، فمرادُه الاجتهاد في اللغة، ومن لم يطلق عليه ذلك، فمراده الاجتهاد في الاصطلاح.

سادسًا: أما تحقيق المناط الشخصي الخاص بنوعيه، فلم أرَ أحدًا من الأصوليين ذكره، بل ولا أشار إليه في مبحث تحقيق المناط، لكن لا يخلو الباب من إشارات مطلقة من بعض العلماء في باب ما يلزم المفتي؛ حيث ذكروا مما يلزم المفتي بعض ما هو مرتبط بما ذكره الشَّاطبي؛ فالإمام أحمد ذكر من شروط الانتصاب للفتوى معرفة الناس[88]، وهذا يشترط معرفة المفتي المجتهد لأحوال الناس، وعاداتهم، وطرائقهم، ومكرهم، وخداعهم، كما يلزم منه معرفة حال السائل، ومراده، وداخلة نفسه؛ حتى لا يفتيه بما يفسده، أو بما يتخذه ذريعة إلى المفسدة، وإلا كان ما يفسد أكثر مما يصلح[89].

ومِن ذلك أن بعض العلماء نصُّوا على أن المفتي يلزمه مراعاة حال السائل إذا كان من العامة، فلا يفصل له في علم الكلام؛ حتى لا يوقعه في الزيغ فيَهلِك[90]، ويلزم منه أن يحقق مناط ذلك الشخص فيعلم حاله.
وبهذا يُعلَم أن الشَّاطبي متفرد - بحقٍّ - في هذا الباب، إلا من إشارات يسيرة.



يتبع

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 25.87 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 25.25 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (2.43%)]