عرض مشاركة واحدة
  #4  
قديم 22-02-2020, 04:08 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 161,332
الدولة : Egypt
افتراضي رد: رأي الإمام الشاطبي في أقسام تحقيق المناط في الاجتهاد

رأي الإمام الشَّاطبي في أقسام تحقيق المناط في الاجتهاد (2)
الشيخ وليد بن فهد الودعان


قسم الشَّاطبي تحقيق المناط إلى قسمين:
القسم الأول: تحقيق المناط الخاص بالأنواع.
والقسم الثاني: تحقيق المناط الخاص بالأشخاص أو بالأعيان.
ومما يبين أن الشَّاطبيَّ يقسم تحقيق المناط إلى هذينِ القسمين قوله: "وقد يكون من هذا القسم ما يصح فيه التقليد، وذلك فيما اجتهد فيه الأولون من تحقيق المناط إذا كان متوجهًا على الأنواع، لا على الأشخاص المعيَّنة[1].

وبعد هذا الإجمال نعرض لبيان القسم الثاني بالتفصيل:
وأما القسم الثاني من أقسام تحقيق المناط هو: تحقيق المناط الخاص بالأشخاص أو بالأعيان:
وهذا النوع لم يحظَ أيضًا بتعريف الشَّاطبي، ولكن يمكن من خلال النظر في الأمثلة التي ذكرها الشَّاطبي، ومن خلال مسماه أيضًا، أن نعرِّفَه بأنه: ما يختص بالنظر في أعيان خاصة، تندرج تحت حُكم مطلق أو عام.
وقُيِّد بالأشخاص، أو بالأعيان؛ لأن محل النظر فيه مرتبط بالأعيان والأشخاص، فإذا حقق ارتباط زيد من الناس بهذا الحكم واندراجه فيه، كان ذلك تحقيقًا لمناط متعلق بشخص.

وقد أطلقنا على هذا القسم: تحقيق المناط الخاص بالأعيان أو بالأشخاص؛ لأن الشَّاطبي قد قال - كما سبق نقله عنه -: "إذا كان متوجهًا على الأنواع، لا على الأشخاص المعينة"[2].

ويمكن أن يطلق أيضًا على هذا القسم من تحقيق المناط: تحقيق المناط الخاص بالجزئيات، وهو وإن كان الشَّاطبي لم يطلق عليه ذلك، ولكن يوجهه أن هذا القسم متعلق بالأحكام الجزئية، ووجودها في الخارج، وارتباطها بالأعيان والأشخاص.

وهذا النوع - في الحقيقة - تحقيق مناط متعلق بما تحقق مناط حكمه الكلي، أو الإجمالي[3].
والشَّاطبي يرى أن هذا النوع مندرج تحت مسمى الاجتهاد؛ فهو نوع من الاجتهاد في تحقيق المناط، قال الشَّاطبي: "فأما الأول فهو الاجتهاد المتعلق بتحقيق المناط"[4].

وقد أطال الشَّاطبي النفَس في تحقيق هذا النوع، وتبيينه، وضرب الأمثلة له، وجعله على نوعين:
النوع الأول: تحقيق مناط عام.
والنوع الثاني: تحقيق مناط خاص.

أما الأول - وهو تحقيق المناط الشخصي العام -: فقد عرَّفه الشَّاطبي: بأنه نظر في تحقيق المناط من حيث هو لمكلف ما[5]، ويعني بذلك أنه نظر في تحقيق مدى ارتباط المكلف المعين بالحكم المحقق مناطه، فإذا نص الشارع على حكم وحقق مناطه نظر هل يندرج هذا المعيَّن في ذلك الحكم أو لا؟ فإذا اندرج أُجرِي عليه الحكم، وإلا فلا، من غير نظر إلى دقائق النفس واحتياجاتها؛ ولذا كان هذا الحكم عامًّا على جميع المكلفين؛ فهم في الحكم سواء[6].
ويبين الشَّاطبي أهمية هذا النوع من تحقيق المناط بأنه لما أن كانت الأدلة الشرعية متناهية لا يمكن تنزيلها على الأعيان، لم يكن بد من تحقيق المناط العام؛ لأنه يمكننا عن طريقه إنزال الأحكام الشريعة على الواقع؛ إذ الأحكام الشرعية جاءت مطلقة، فلا يمكن إحلالها في الواقع إلا إذا رُبطت بالأعيان، وهذا إنما يكون عن طريق تحقيق المناط؛ ولذلك كان هذا الاجتهاد في هذا النوع باقيًا لا ينقطع حتى قيام الساعة[7].

وقد مثَّل الشَّاطبي على هذا القسم بأمثلة كثيرة، ومنها:
1- تحقيق من ينطبق عليه مسمى العدالة:
فالشارع الحكيم قال: ﴿ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ ﴾ [الطلاق: 2]، فأمرنا باختيار العدل، وقد تحقق معنى العدل، ولم يبقَ إلا تطبيق هذه الصفة على أعيان الناس، وهذا اجتهاد؛ لأنه بحاجة إلى النظر والتدقيق؛ إذ الناس على طرفين ووسط؛ فمنهم كامل العدالة، ومنهم من هو في منزلة الخروج عن مقتضى العدالة، وبين هذين الوصفين منازل غامضة تحتاج إلى بذل وسع وجهد في تحقيقها، فإذا انطبق الوصف على معين بعينه، أُجريت عليه أحكام العدالة؛ مِن قَبول الشهادة والانتصاب للولاية، ونحو ذلك[8].

2 - تحقيق من ينطبق عليه معنى الفقر:
فمن أوصى بماله للفقراء، فعلى من يحقق وصيته تطبيق هذه الصفة على أعيان الناس، فينظر فيهم؛ فمن انطبقت عليه صفة الفقر أعطاه، وإلا فلا، وهذا بحاجة إلى اجتهاد؛ لأن من الناس من لا شيء معه مطلقًا، فينطبق عليه مسمى الفقر، ومنهم من عنده كفايته، وإن لم يملك نصابًا، فلا يتحقق عليه مسمى الفقر، وبين هاتين المرتبتين مراتب تحتاج إلى جهد ونظر في المعين، هل يندرج في الحكم أو لا؟[9].

3 - تحقيق المقدار الواجب على المعين من النفقة:
فمَن وجبت عليه نفقة لمعين، فهو بحاجة إلى تحقيق مناط الواجب عليه بعينه؛ لأن الواجب مرتبط بالنظر لحال كل منفق ومنفَق عليه، وهذا لا يتساوى فيه الناس؛ ولذا ينظر إلى الواجب عليه بعينه بعد النظر في حاله وحال من ينفق عليه، وهذا تحقيق المناط بالنسبة له[10].

4 - تحقيق ما ينطبق عليه مسمى اليسير والكثير من الزيادة الفعلية في الصلاة:
فإذا سمع العامي أن الزيادة الفعلية في الصلاة، ولو كانت سهوًا، من غير جنس الصلاة أو من جنسها، فإما أن تكون يسيرة مغتفرة أو كثيرة فلا تغتفر، فلا بد له من النظر في الزيادة التي تقع له في صلاته إلى أي القسمين يردها، ومتى تعين أحد القسمين كان قد تحقق له المناط[11].

5 - تحقيق الكثير واليسير عرفًا في الفارق بين الموالاة:
فإذا قلنا بوجوب الفور والموالاة وعدم التراخي في الطهارة، وفرقنا بين أن يكون الفارق يسيرًا أو كثيرًا، فإن العامي إذا وقع له شيء من ذلك، نظر في ذلك حسبما يشهد له قلبه في اليسير أو الكثير، وعلى ذلك النظر ينبني الحكم في بطلان الطهارة من عدمه[12].

6 - تحقيق ما ينطبق عليه وصف التذكية والميتة:
فمن ملك لحم شاة مذكاة، حلَّ له أكلها؛ لعلمه بأن التذكية شرط الحِلِّية، وقد قام به، فهو قد تحقق مناط الحِلِّية عنده.
ومثله ما لو ملك شاة ميتة، فإنه يعلم أن الميتة محرمة، فبذلك يتحقق لديه المناط بأن هذه الشاة لا تحل له؛ لفقدانها شرط الحِلِّية[13].

7 - تحقيق ما ينطبق عليه وصف الخمر:
فمن قيل له: الخمر حرام، فقُدم له مشروب، وجب عليه أن ينظر أهو خمر أم لا؟ فإذا وجد فيه علامة الخمر، وجب عليه الامتناع، وإلا فلا، وهذا بعينه هو تحقيق المناط[14].

8 - تحقيق ما ينطبق عليه وصف الماء:
فمن أرد الوضوء بماء، فلا بد من النظر في هذا الماء هل هو مطلق أو لا؟ فينظر في لون الماء ورائحته وطعمه، وهل هو باقٍ على أصل خِلقته أو لا؟ فإذا تبين له أن الماء باقٍ على إطلاقه توضأ به، وإلا فلا، وبذلك يكون قد حقق المناط في الصورة الحادثة.

9- تحقيق هل ينطبق عليه وصف الحدث؟:
وذلك إذا أراد أن ينظر هل هو مخاطب بالوضوء أو لا؟ فعليه أن ينظر هل هو محدِث أو لا؟، فإن تحقق الحدَثَ، وجب عليه الوضوء، وكان مخاطبًا به، وإلا فلا، وهذا هو تحقيق المناط[15].

10- كما يحتاج المكلف إلى تحقيق المناط في بعض ما أمر به على سبيل الإطلاق؛ كالعدل والإحسان والوفاء بالعهد وإنفاق المال، فهذه الأوامر وأشباهها موكولة إلى نظر المكلف، فيجتهد ليزِنَها بميزان نظره، ويهتدي إلى اللائق فيها في كل تصرف؛ كما في قوله تعالى: ﴿ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ ﴾ [النحل: 90]، فالإحسان مثلًا لم يؤمر به المكلف أمرًا جازمًا في كل شيء، ولا غير جازم في كل شيء، بل ينقسم بحسب المناطات، وقد يكون الإحسان واجبًا في حال، مندوبًا إليه في حالة أخرى، وتفصيل ذلك راجع إلى المجتهد تارة، وإلى المكلف تارة أخرى[16].

ومن خلال ما سبق، يلاحظ أن هذه الأمثلة أمثلة عامة لا تختص بمعين دون آخر؛ ولذا قال الشَّاطبي عن هذا النوع: "فالحاصل أنه لا بد منه بالنسبة إلى كل ناظر وحاكم ومُفْتٍ، بل بالنسبة إلى كل مكلف في نفسه"[17]، وقال: "فلا يشترط فيه بلوغ درجة الاجتهاد، بل لا يشترط فيه العلم، فضلًا عن درجة الاجتهاد"[18].

وهذا النوع من تحقيق مناط الحكم أو الجزئية لما لم يشترط استناده إلى دليل شرعي، بل قد يستند إلى دليل غير شرعي، أو إلى غير دليل أصلًا، فإنه لم يشترط في صاحبه بلوغ درجة الاجتهاد، بل ولا العلم أيضًا؛ ولذا رأى الشَّاطبي أن هذا النوع من الاجتهاد متعلِّق بما يقع في القلب، وبما تطمئن إليه النفس؛ فتحقيق المناط يكون بحسب ذلك، لا بحسب الأمر في نفسه.

ولذا؛ فقد يكون الحكم واحدًا بعينه، ويختلف تحقيق المناط من شخص لآخر، فيرى هذا أن هذا اللحم مُذكًّى وهو حلال، بينما يرى الآخر أنه غير مُذكًّى، فهو في حقه حرام، فكلٌّ عمل بما تحقق عنده من المناط، وإذا أشكل على المعين تحقيق المناط، رجع إلى ما تحرر في نفسه، واطمأن إليه قلبه، ويرى الشَّاطبي أن هذا هو الذي ترمي إليه الأحاديث التي تفيد الرجوع إلى طمأنينة القلب والنفس[19].

وقد يكون هذا النوع من المتشابه، ولكن هذا التشابه ليس راجعًا إلى الأدلة، وإنما هو راجع إلى تحقيق المناط؛ فالنهي عن أكل الميتة - مثلًا - واضح، والإذن في أكل المذكاة واضح أيضًا، فإذا اختلطت الميتة بالمذكاة عدَّ ذلك من الاشتباه، وفي حال الاشتباه يلزم المكلف الاجتناب حتى يتبين له الأمر[20]، وخلاصة القول في تحقيق المناط الشخصي العام أنه الطريق إلى تنزيل الأحكام الشرعية على الواقع، وأنه لا يختص بالمجتهد، بل هو عام لكل مكلف، وأنه مرتبط بكل معين لتحقيق مدى ارتباطه بالحكم الشرعي، وأنه لا يرتبط بدقائق النفس واحتياجاتها.

والنوع الثاني: تحقيق خاص:
وهذا التحقيق ليس كسابقه؛ فهو على مسماه خاص، وليس بعام؛ فالناظر في هذا النوع من الاجتهاد خاص، ونظره خاص أيضًا؛ لأنه ينظر في الأدلة الدالة على الأحكام مع اعتبار التوابع والإضافات والمقارنات الخارجية للحكم[21]، والشَّاطبي قد قسم اقتضاء الأدلة للأحكام بالنسبة إلى محالها إلى قسمين:
القسم الأول: الاقتضاء الأصلي قبل أن تطرأ العوارض، وهو الواقع على المحل مجردًا عن التوابع والإضافات؛ كالحكم بإباحة الصيد، والبيع، وسنِّية النكاح.
والقسم الثاني: الاقتضاء التبعي، وهو الواقع على المحل مع اعتبار التوابع والإضافات؛ كالحكم بإباحة النكاح لمن لا إرب له في النساء، ووجوبه على من خشي العنت، وقد ذكر الشَّاطبي أن الثاني لا بد من النظر إليه إذا أريد إنزال الدليل على الحكم في الواقع.

وهذا النوع من تحقيق المناط الشخصي مرتبط بالقسم الثاني؛ لأنه في حقيقته مراعاة لجانب المعين، ونظر فيما يصلح له، وما فيه مصلحته؛ ولذلك كان أعلى من سابقه منزلة وأدق نظرًا، وقد جعل الشَّاطبي النظر في تحقيق المناط الخاص على نوعين:
النوع الأول: نظر بالنسبة إلى التكليف الإلزامي الحتمي.
النوع الثاني: نظر بالنسبة إلى التكليف غير الإلزامي.

أما النوع الأول، وهو ما كان النظر فيه بالنسبة للتكليف الإلزامي الحتمي، فقد عرفه الشَّاطبي بأنه: نظر في كل مكلف بالنسبة إلى ما وقع عليه من الدلائل التكليفية.

أي إنه إنزال الحكم المطلق على فعل معين مع مراعاة دقائق النفس واحتياجاتها ومدى قوتها من ضعفها، فينظر إلى ذلك المعين وما يمكن أن يكون مفسدًا أو خطرًا على قيامه بذلك الحكم.

فالناظر يتعرف على مواطن الضعف في الشخص، ومداخل الشيطان المتعلقة به، ومداخل الهوى والحظوظ العاجلة فيه، وما يمكن أن يعلق به منها؛ كالرياء والسمعة، أو الاعتماد على العمل، أو العُجْب بالنفس، أو الشدة فيه، أو نحو ذلك مما قد يفسد العمل، أو يوقعه في الحرج والضيق، أو في الفترة وغلَبة الدِّين، أو غير ذلك من العوارض والشوائب.

فإذا تعرف الناظر على مداخل تلك النفس ومراميها، ألقى عليها التكليف مقيدًا بقيود يحترز بها عن تلك المداخل والحظوظ[22].

وعلى هذا، فلا بد لإعمال الدليل في الواقع من النظر في تحقيق مناطه، وملاحظة القرائن التي تحف حول إعماله، ولو لم ينظر العالم في ذلك لكان مخطئًا؛ قال الشَّاطبي: "لا يصح للعالم إذا سئل عن أمر كيف يحصل في الواقع إلا أن يجيب بحسب الواقع، فإن أجاب على غير ذلك أخطأ في عدم اعتبار المناط المسؤول عن حكمه؛ لأنه سئل عن مناط معين فأجاب عن مناط غير معين"[23].

ولا يعترض على هذا بأن المناط المعين مندرج ضمن المناط غير المعين؛ لأنه فرد من أفراد العام، أو مقيد به المطلق؛ وذلك لأن المناط الذي لا بد من النظر فيه إنما هو المناط الخاص المختلف عن العام بسبب متعلقاته وتوابعه التي غيَّرت حكمه العام إلى حكم آخر خاص.

ومثَّل الشَّاطبي على ذلك بقوله: "وما مثل هذا إلا مثل من سأل: هل يجوز بيع الدراهم من سكة[24] كذا بدرهم في وزنه من سكة أخرى أو المسكوك بغير المسكوك وهو في وزنه؟، فأجابه المسؤول بأن الدرهم بالدرهم سواء بسواء، فمن زاد أو ازداد فقد أربى، فإنه لا يحصل له جواب مسألته من ذلك الأصل؛ إذ له أن يقول: فهل ما سألتك عنه من قبيل الربا أم لا؟، أما لو سأله: هل يجوز الدرهم بالدرهم وهو في وزنه وسكته وطيبه؟ فأجابه كذلك، لحصل المقصود لكن بالعرض، لعلم السائل بأن الدرهمين مثلان من كل وجه"[25].

فكذلك العالم إذا لم ينزل الحكم على المكلف مع مراعاة حلِّه، كان كمن لم يجب السائل على مسألته بعينها.

وأما النوع الثاني، وهو ما كان النظر فيه بالنسبة للتكليف غير الإلزامي، فقد عرفه الشَّاطبي: بأنه النظر فيما يصلح لكل مكلف في نفسه بحسب الأوقات والأحوال والأشخاص.

وذلك لأن النفوس البشرية ليست في قبول الأعمال الصالحة على منهج واحد متزن، بل هي مختلفة نتيجة اختلاف الطباع والميول والرغبات؛ فقد يناسب الشخص عمل صالح، ويكون فيه فلاحٌ له، بينما لا يناسب آخر، بل قد يكون وبالًا عليه بحيث يدخل عليه ضررًا وفترة.

كما أن العمل قد يوافق حظًّا نفسيًّا وهوًى باطنًا عند شخص، بينما يكون سليمًا نزيهًا عند آخر، فهذا النظر إنما هو نظر في كل نفس وما يناسبها من الأعمال الصالحة.

وهو بحاجة إلى النظر في ذات الشخص المكلف وطباعه وميوله، وأيضًا بحاجة إلى النظر فيما يناسب المكلف في وقت الحادثة أو السؤال؛ إذ قد يناسبه ذلك في هذا الوقت دون بقية الأوقات، وأيضًا يحتاج إلى النظر في مختلف أحواله؛ فقد يناسبه في حالته الآن ما لا يناسبه في حالة أخرى.

فإذا تعرف الناظر على طباع النفس وميولها وما يقارب ذلك، ألقى على النفس ما يناسبها ويلائم ميولها[26].

وبتأمل صاحب هذا النظر يتبين ما قاله الشَّاطبي من كون هذا النظر أعلى وأدق[27]، وكيف لا يكون كذلك والناظر ينظر إلى دقائق النفوس ومراميها، وتفاوت إدراكها، ومدى قوتها وضعفها، ومدى صبرها وتحملها لِما يلقى عليها من أعباء وتكاليف، وينظر لمواطن ضعفها وتعلقها بالحظوظ العاجلة.

ولذا فهو ينزل على كل نفس ما يليق بها من الأحكام الشرعية، وبالطريقة اللائقة بكل نفس، وهو أيضًا ينظر للمكلف بنظرين؛ بالنظر العام، وبالنظر الخاص؛ وذلك لأنه لا بد من نظر عام لكل نظر خاص، ولا يمكن أن ينظر له بالنظر الخاص حتى ينظر له بالنظر العام.

فهو إذا نظر إلى الشخص نظرًا دقيقًا، وراعى في ذلك النظر حظوظ النفس ومتعلقاتها، فإنه ولا بد أن ينظر بهذا النظر الدقيق حتى يحقق مدى ارتباط المكلف بالحكم المحقق مناطه فينظر هل يندرج فيه أو لا؟

ولا ريب أن هذا النظر أعسر من سابقه؛ ولذا لا يتحقق إلا لمن رزقه الله نورًا في قلبه، وبصيرة في نظره[28].

وقد اعتبر الشَّاطبي هذا القسم من تحقيق المناط الخاص بالأعيان إنما هو: "ناشئ عن نتيجة التقوى المذكورة في قوله تعالى: ﴿ إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا ﴾ [الأنفال: 29]، وقد يعبر عنه بالحكمة ويشير إليها قوله تعالى: ﴿ يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا ﴾ [البقرة: 269]، قال مالك: "مِن شأن ابن آدم ألا يعلَمَ، ثم يعلم، أما سمعتَ قول الله تعالى: ﴿ إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا ﴾ [الأنفال: 29]"[29]، وقال أيضًا: "إن الحكمة مسحة مَلَك على قلب العبد"، وقال: "الحكمة نور يقذفه الله في قلب العبد"[30]، وقال أيضًا: "يقع بقلبي أن الحكمة الفقهُ في دين الله، وأمر يدخله الله القلوبَ من رحمته وفضله"[31]، وقد كره مالك كتابة العلم، يريد ما كان نحو الفتاوى، فسئل: ما الذي نصنع؟ فقال: "تحفظون وتفهمون حتى تستنير قلوبكم، ثم لا تحتاجون إلى الكتاب"[32].

ويلاحظ مما سبق أن لهذا النوع ارتباطًا وثيقًا بالفِراسة الصادقة، والإلهام الصحيح، والكشف الواضح المحاط بسياج الشريعة المتين[33]؛ إذ يستند العالم الرباني في تحقيق المناط لشخص معين إلى الإلهام أو إلى الكشف، كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم مع ابن عمر في رؤياه للملكين، وقوله له: ((نِعم الرجل عبدالله، لو كان يصلي من الليل))؛ فكان بعدُ لا ينام من الليل إلا قليلًا[34].

وكما فعل صلى الله عليه وسلم مع أبي ذر وقوله له: ((يا أبا ذر، إني أراك ضعيفًا، وإني أحب لك ما أحب لنفسي، لا تأمَّرَنَّ على اثنين، ولا تَوَلَّيَنَّ مالَ يتيم))[35]، وكما قال لثعلبة بن حاطب وقد سأله الدعاء له بكثرة المال، فقال: ((قليل تؤدي شكره، خيرٌ مِن كثير لا تطيقه))[36]، وقال لأنس: ((اللهم كثِّرْ مالَه وولدَه))[37]، وكنهي عمر لمن أراد أن يقص على الناس، وقوله له: (أخشى عليك أن تقص فترتفع عليهم في نفسك، ثم تقص فترتفع حتى يخيل إليك أنك فوقهم بمنزلة الثريا، فيضعك الله تحت أقدامهم يوم القيامة بقدر ذلك)[38].

ولكن هذا النظر لا يعتبر إلا بشرط عدم مخالفته لحكم شرعي أو قاعدة دينية؛ إذ ما عارض ذلك فهو باطلٌ ولا شك[39].

وقد أشار الشَّاطبي إلى هذه الحقيقة، وهي أن هذا النوع راجع إلى ما وهبه الله للعالم من الفِراسة الصادقة، والنظر الثاقب المؤيد بالعلم والحكمة، والإلهام الرباني والتوفيق الرحماني، ولكنه لم يصرِّحْ بذلك[40].

وعلى هذا، فلما أن كان هذا النوع دقيقًا وعسيرًا لم يكن بعمومه كالأول، وإنما هو خاص بالعلماء المجتهدين، بل وليس لكل من بلغ هذه المرتبة، وإنما لمن وُفِّق للنظر الثاقب، والوعي التام، والعيش مع وقائع الناس، والحرص على مراعاة مآلات الأمور، وليس ذلك إلا لخاصة الخاصة من المفتين المجتهدين، ولما أن كان هذا النوع ليس لكل أحد، كان عرضةً للانقطاع وعدم الدوام.

ويلاحظ أن الشَّاطبي اعتنى اعتناءً تامًّا بهذا النوع من تحقيق المناط؛ فبين معناه ومنشأه، ودلل عليه بما لا يدع مجالًا للشك فيه، وقد أبان هو بنفسه عن علة ذلك حينما قال: "وإنما وقع التنبيه عليه؛ لأن العلماء قلما نبهوا عليه على الخصوص"، وهذه العلة كانت كافية في إطالة الكلام على هذا النوع.

وخلاصة القول: أن هذا النوع نوع دقيق، وهو خاص بخاصة المجتهدين ممن رُزقوا الحكمة والنظر الثاقب، وأنه من الأهمية بمكان؛ لحاجة المفتي والمستفتي إليه.
يتبع

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 37.97 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 37.34 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (1.65%)]