عرض مشاركة واحدة
  #1  
قديم 21-02-2020, 02:03 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 160,740
الدولة : Egypt
افتراضي التعامل مع غير المسلمين في الإسلام

التعامل مع غير المسلمين في الإسلام


محمد إقبال النائطي الندوي







المقدمة:
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصَحْبه أجمعين، وبعد:
فإن الإسلام دين يدعو إلى كل خير، ويَنهى عن كلِّ شر؛ يدعو إلى الإحسان إلى الناس كافَّة، والتعامل معهم بالحسنى؛ على أساس أن الجميع عيال الله وخَلْقه تعالى، وأن أحبَّ الخَلْق إلى الله أنفعهم وأجداهم لعياله؛ لذا أمر الرب - عز وجل - عبادَه - والناسُ كلهم عباده طوعًا أوكرهًا - أن يقولوا التي هي أحسن وأطيب؛ يقول - عز وجل -: ﴿ وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوًّا مُبِينًا ﴾ [الإسراء: 53]، يريد الربُّ - عز وجل - أن يُبيِّن للناس أن الشيطان يتربَّص بهم الدوائرَ، ويتمنَّى أن يَنزَغ بينهم، ويجعلهم عُرْضة للخِصام والجدال والسِّباب والقتال، فالقول الحسن - الذي هو أصل التعامل وأساسه - يُسبِّب الأُلفة والمحبَّة، ويُعقِب الرحمة والمودة في القلوب والصدور، ويقول - عز وجل -: ﴿ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ ﴾ [البقرة: 83]، فلننظر في هذه الآية الكريمة أن الله تعالى قدَّم القولَ الحَسَن للناس على إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة، ونُدرِك أهميةَ التعامل الحَسَن مع الناس في الإسلام، وفضله على سائر الأحكام الفرائض والواجبات، وعندما ذكر الله تعالى عبادَه الصالحين وما اتَّصفوا به من صفات حسنة وأخلاق طيِّبة، ذكَر في مُقدِّمتها وطليعتها: ﴿ وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا ﴾ [الفرقان: 63]، ﴿ وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا ﴾، يقول ابن كثير - رحمه الله -: إذا سَفِه عليهم الجُهَّال بالسيئ، لم يُقابِلوهم عليه بمِثله، بل يَعفُون ويصفحون ولا يقولون إلا خيرًا، كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تَزيده شدة الجهل عليه إلا حِلمًا، وكما قال - عز وجل -: ﴿ وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ ﴾ [القصص: 55]، والإسلام لا يُفرِّق في التعامل الحَسَن بين المسلم وغير المسلم، سواء كان مشركًا أو يهوديًّا أو نصرانيًّا أو مجوسيًّا؛ حتى قال الرسول صلى الله عليه وسلم: ((الراحمون يرحمهم الرحمن، ارحموا مَن في الأرض يرحمْكم من في السماء... )) الحديثَ[1]، وصيَّة من رحمة الله للعالمين بالغة، ودعوة منه صارمة، إلى التعامل الحَسَن مع سائر الناس على اختلاف أجناسهم وألوانهم، واختلاف مذاهبهم وأديانهم، بالرحمة والألفة، والمودة والرأفة، ويَضمَن صلى الله عليه وسلم للقائمين بهذا التعامل الحسن الرحمةَ من الله - عز وجل - في الدنيا والآخرة، وأخبر صلى الله عليه وسلم أن الله تعالى يُعذِّب الذين يُعذِّبون الناسَ في الدنيا ويؤذونهم في أنفسهم وأموالهم؛ يقول صلى الله عليه وسلم: ((إن الله يُعذِّب الذين يُعذِّبون الناسَ في الدنيا))[2]، ولقد أوصى النبي محمد صلى الله عليه وسلم بالإحسان إلى كلِّ شيء، إنسانًا كان أوحيوانًا، قريبًا كان أو بعيدًا، مسلمًا كان أو كافرًا، فقال صلى الله عليه وسلم: ((إن الله كتَب الإحسانَ على كلِّ شيء؛ فإذا قتلتُم فأحسِنوا القِتْلة، وإذا ذبحتم فأحسِنوا الذِّبحة، وليُحِدَّ أحدكم شفرتَه، وليُرِح ذبيحته))[3]، حتى قال صلى الله عليه وسلم: ((في كل كَبِد رَطْبةٍ أجرٌ))[4]، وجعل صلى الله عليه وسلم كلَّ جُهْد وسَعْي يَبذُله الرجل المسلم فيستفيد منه إنسان أو دابة أو طائر، إلا كان له صدقة؛ يقول صلى الله عليه وسلم: ((ما مِن مسلم غرس غرسًا، فأكل منه إنسان أو دابة، إلا كان له صدقة))[5]، والإسلام لا يسمح لأتباعه بسوء التعامل مع الطير أو الحيوان، فضلاً عن الإنسان، روى ابن مسعود رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى حُمَّرَة - وهي طير صغير - تَفْرُش لما أخذ بعض الصحابة ولدَها، فقال: ((مَن فجَّع هذه بولدها؟! رُدُّوا ولدَها إليها))[6].


ولننظر فيما حكى النبي صلى الله عليه وسلم من قصة امرأة زانية تُعامِل كلبًا معاملة حسنة، فتَستحِقُّ المغفرةَ والرحمة عند الله - عز وجل -: عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: ((غُفِر لامرأة مومسة مرَّت بكلب على رأس رَكِيٍّ يَلهَث، قال: كاد يقتله العطشُ، فنزعت خُفَّها فأوثقته بخمارها، فنزعت له من الماء، فغُفِر لها بذلك))[7].


وأوعد النبي صلى الله عليه وسلم على سوء التعامل حتى مع الحيوان، فضلاً عن الإنسان؛ فعن عبدالله بن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((عُذِّبت امرأة في هرة حبستْها حتى ماتت جوعًا، فدخلت فيها النار))، قال: فقال - والله أعلم -: ((لا أنتِ أطعمْتِها ولا سقيْتِها حين حبستيها، ولا أنت أرسلتِها فأكلتْ من خَشاش الأرض))[8]؛ لذا أوجب الإسلامُ على المسلم حقوقَ الحيوان من الإنفاق عليه والرعاية له بما يحتاج إليه.


فهل يسوغ لإنسان بعد دراسة هذه النصوص الواضحة المشرِقة أن يقول من عند نفسه ظنًّا بغير عِلْم: إن الإسلام دين يُملي على أتباعه الإرهابَ، وسَفْك الدم، وقتْل النفس؟! كلا والله، إنها فِرية افتراها المغرِضون من أعداء الإسلام وأعداء الإنسانية في مختلف العصور والدهور، لقد أقرَّ الإسلامُ لغير المسلمين حقوقًا، وألزم أتباعَه القيام بها على أتمه وأحسنه، ولنا في رسول الله صلى الله عليه وسلم أسوةٌ حسنة بهذا الصدد؛ فهو الرحمة المهداة، والنِّعمة المسداة، لقد تعامَل صلى الله عليه وسلم مع جميع غير المسلمين من المشركين والمجوس وأهل الكتاب من النصارى واليهود المعاملةَ الحسنة، التي تَحار منها العقول؛ فقال صلى الله عليه وسلم: ((لا يَرحم اللهُ مَن لا يَرحَم الناسَ))[9]، وكلمة (الناس) لفظة عامة تشمل كل أحد، دون اعتبار لجنس أو دِين؛ قال ابن بطَّال: "فيه الحضُّ على استعمال الرحمة لجميع الخَلْق، فيدخل المؤمن والكافر والبهائمالمملوك منها وغير المملوك، ويدخل في الرحمة التعاهد بالإطعام والسقي، والتخفيف في الحمل، وتَرْك التعدي بالضرب"[10].



حفظ الكرامة الإنسانية في الإسلام:
الناس في نظر الإسلام سواسية كأسنان المُشْط، وهم أبناء العائلة الإنسانية، ويُوفِّر الإسلامُ لهم جميعًا الحقَّ في العيش والكرامة دون استثناء أو تمييز؛ قال تعالى: ﴿ وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً ﴾ [الإسراء: 70]، والاختلاف الذي يوجد في أفراد العائلة الإنسانية من حيث اللون والجنس واللغة - آيةٌ من آيات الله تعالى؛ كما قال تعالى: ﴿ وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ ﴾ [الروم: 22]، وهذا الاختلاف ليس مَدْعاة للتنافر والتناكُر، بل هو سبب للتعارف والتعاضد والتعاون على الخير والبِرِّ والتقوى؛ كما تَحدَّث عنه القرآن الكريم: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ ﴾ [الحجرات: 13].


لقد أوجب الإسلام على المسلمين أن يُراعوا الكرامةَ الإنسانيَّة التي وهبها الله تعالى للإنسان فضلاً منه ورحمة، ولم يُفرِّق فيها بين المسلم وغير المسلم، وهو يؤكِّد على أن الناس كلهم أبناء أب واحد وأم واحدة، كما نادى به الرسول صلى الله عليه وسلم في خُطْبته لحجة الوداع مُدوِّيًا ومجلجلاً: ((يا أيها الناس، ألا إن ربكم واحد، وإن أباكم واحد، ألا لا فضلَ لعربي على عجمي، ولا لعجمي على عربي، ولا لأحمر على أسود، ولا لأسود على أحمر إلا بالتقوى، أَبلَّغتُ؟))[11].


إن الإنسان في نظر الإسلام مُكرَّم، بصرف النظر عن أصله وفصْله، دينه وعقيدته، مركزه وقِيمته في الهيئة الاجتماعية، فقد خلقه الله مُكرَّمًا، ولا يَملِك أحد أن يُجرِّده من كرامته التي أودعها في جِبلَّته، وجعلها من فِطرته وطبيعته، يستوي في ذلك المسلم الذي يؤمن بالقرآن كتاب الله وبمحمد بن عبدالله رسول الله ونبيه، وغير المسلم من أهل الأديان الأخرى، أو من لا دين له، فالكرامة البشرية حقٌّ مشاع يتمتَّع به الجميع من دون استثناء، وتلك ذِروة التكريم وقمة التشريف.


لقد قامت مبادئ الإسلام وتعاليمه وقِيَمه كلها على احترام الكرامة الإنسانية وصونها وحِفْظها، وعلى تعميق الشعور الإنساني بهذه الكرامة، وما دامت الرسالة الإسلامية تتغيَّا في المقام الأول سعادةَ الإنسان وصلاحه، وتبتغي جلْب المنفعة له ودرء المفسدة عنه، فإن هذه المقاصد الشريفة هي مُنْتهى التكريم للإنسان بكل الدَّلالات الأخلاقية والمعاني القانونية للتكريم[12]، لقد أمر الإسلامُ أتباعَه بالمحافظة على كرامة غير المسلمين ومراعاة مشاعرهم، ونهى عن جَرْح عواطفهم؛ فقال الرب - عز وجل -: ﴿ وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ ﴾ [العنكبوت: 46]، وقال - عز وجل -: ﴿ وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾ [الأنعام: 108]، نهي صريح عن النيل من الآلهة التي يَعبُدها المشركون من الوثنيين والبوذيين، وكل هذا صونًا لكرامة الإنسان، وحِفاظًا على حريَّته، واحترامًا لمشاعره؛ يقول الإمام القرطبي عند تفسير هذه الآية الكريمة: لا يَحِل لمسلم أن يَسُب صُلبانهم، ولا دينهم، ولا كنائسهم، ولا يتعرَّض إلى ما يؤدِّي إلى ذلك؛ لأنه بمنزلة البعث على المعصية[13]، وحِفْظ الكرامة الإنسانية يتجلَّى لنا في التعامل النبوي مع غير المسلمين حتى مع الأموات منهم؛ فعن جابر بن عبدالله رضي الله عنهما، قال: مرَّ بنا جَنازة، فقام لها النبي صلى الله عليه وسلم وقُمْنا به، فقلنا: يا رسول الله، إنها جنازة يهودي؟! قال: ((إذا رأيتم الجنازةَ، فقوموا))[14]، وفي رواية: فقال صلى الله عليه وسلم: ((أليست نفسًا؟!))[15].

أصناف غير المسلمين في المجتمع الإسلامي:
الكفار: إما أهل حرب، وإما أهل عهد، وأهل العَهْد ثلاثة أصناف: أهل ذمة، وأهل هدنة، وأهل أمان، وقد عقد الفقهاءُ لكل صِنف بابًا، فقالوا: باب الهدنة، باب الأمان، باب عقد الذمة، ولفظ (الذمة والعهد) يتناول هؤلاء كلهم في الأصل، وكذلك لفظ (الصلح)، فإن الذمة من جِنس لفظ العَهْد والعقد، وهكذا لفظ (الصلح) عامٌّ في كل صلح، وهو يتناول صُلْح المسلمين بعضهم مع بعض، وصُلْحهم مع الكفار، ولكن صار في اصطلاح كثير من الفقهاء (أهل الذمة): عبارة عمن يؤدِّي الجزية، وهؤلاء لهم ذمة مؤبَّدة، وهؤلاء قد عاهَدوا المسلمين على أن يجري عليهم حُكْم الله ورسوله، إذ هم مقيمون في الدار التي يجري فيها حُكْم الله ورسوله، بخلاف أهل الهدنة، فإنهم صالَحوا المسلمين على أن يكونوا في دارهم، سواء كان الصُّلح على مال، أو غير مال، لا تجري عليهم أحكام الإسلام كما تجري على أهل الذمة، لكن عليهم الكفُّ عن محاربة المسلمين، وهؤلاء يُسمَّون أهل العهد، وأهل الصلح، وأهل الهدنة.


وأما المستأمَن، فهو الذي يَقدَم بلاد المسلمين من غير استيطانها، وهؤلاء أربعة أقسام: رسل، وتجار، ومستجيرون حتى يُعرَض عليهم الإسلام والقرآن، فإن شاؤوا دخلوا فيه، وإن شاؤوا رجعوا إلى بلادهم، وطالبو حاجة من زيارة، أو غيرها، وحُكْم هؤلاء ألا يُهاجِروا، ولا يُقتَلوا، ولا تؤخذ منهم الجزية، وأن يُعرَض على المستجير منهم الإسلامُ والقرآن، فإن دخل فيه فذاك، وإن أَحَب اللَّحاق بمأمنه أُلحِق به، ولم يُعرَض له قبل وصوله إليه، فإذا وصل مأمنه، عاد حربيًّا كما كان[16].


فغير المسلمين يَنقسِمون إلى أربعة أقسام:
1 - أهل الحرب: هو الكافر الذي بين المسلمين وبين دولته حالة حرب، ولا ذمة له ولا عهد، قال الشوكاني: "الحربي: الذي لا ذمة له ولا عهد"[17].


2 - أهل الذمة: الكفار المقيمون تحت ذمة المسلمين بدفع الجزية؛ قال ابن القيم: "أجمع الفقهاء على أن الجزية تؤخذ من أهل الكتاب ومن المجوس"[18]، وحُكْم أهل الذمة المعاهَدين الذين يُساكِنون المسلمين في ديارهم، ويدفعون الجزيةَ - أنهم يخضعون للأحكام الإسلاميَّة في غير ما أُقِرُّوا عليه من أحكام العقائد والعبادات، والزواج والطلاق، والمطعومات والملبوسات، ولهم على المسلمين الكفُّ عنهم وحمايتهم، قال ابن الأثير: "وسُمِّي أهل الذمة؛ لدخولهم في عهد المسلمين وأمانهم"[19].


3 - المعاهَد: هو الكافر الذي بينه وبين المسلمين عهد مهادنة، قال ابن بطال: "والمعاهد: الذي بينه وبين الإمام عهد وهدنة"[20]، وإذا دخل ديارَ المسلمين سمِّي مُستأمَنًا.


4 - أهل الأمان: المستأمَن: هو الحربي المقيم إقامة مؤقَّتة في ديار المسلمين، قال الشيخ محمد بن عثيمين عندما سئل: البعضُ يتأوَّل في مسألة أهل الذمة بدعوى عدم وجود ولي الأمر العام أو الخلافة، أو لعدم وجود أهل الذمة أصلاً بدعاوى عديدة؛ ولذلك لا يَجِدون غضاضةً في دعوة الناس للاعتداء على غير المسلمين من المعاهَدين؟ فأجاب بقوله: أنا أُوافِق على أنه ليس عندنا أهل ذمة؛ لأن أهل الذمة هم الذين يخضعون لأحكام الإسلام، ويؤدُّون الجِزيةَ، وهذا مفقود منذ زمن طويل، لكن لدينا معاهَدون ومستأمَنون، ومعاهدون معاهدة عامة، ومعاهدة خاصة، فمن قَدِم إلى بلادنا من الكفار لعمل أو تِجارة، وسُمِح له بذلك، فهو: إما معاهَد أو مُستأمَن، فلا يجوز الاعتداء عليه؛ وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((مَن قتل معاهَدًا، لم يَرَح رائحة الجنة))، فنحن مسلمون مستسلمون لأمر الله - عز وجل - مُحترِمون لما اقتضى الإسلام احترامه من أهل العهد والأمان، فمَن أخلَّ بذلك فقد أساء للإسلام، وأظهره للناس بمظهر الإرهاب والغدر والخيانة، ومَن التزم أحكام الإسلام واحترم العهود والمواثيق، فهذا هو الذي يُرجى خيره وفلاحه"[21].

حق الحرية في الاعتقاد والعبادة لغير المسلمين:
من الحريات التي كفلها الإسلامُ في حقِّ غير المسلمين: حرية الاعتقاد والعبادة، لم يُجبِر الإسلامُ الناسَ ولم يُكرِههم على الدخول فيه، بل ترك الحبلَ على غاربهم، ووكَل الأمر إلى أنفسهم؛ فقال الرب - عز وجل -: ﴿ لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ ﴾ [البقرة: 256]، وامتثالاً لهذه الآية الكريمة دأب المسلمون على دعوة الناس إلى الإسلام وعَرْضه عليهم من دون إكراه وإجبار، فهذا أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه يَمُر بعجوز نصرانيَّة، ويَعرِض عليها الإسلامَ ويدعوها إليه قائلاً: أَسلِمي أيتها العجوز تسلمي، إن الله بعث محمدًا بالحق، قالت: أنا عجوز كبيرة والموت إليَّ قريب، فقال عمر رضي الله عنه: اللهم اشهد، وتلا قوله تعالى: ﴿ لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ ﴾ [البقرة: 256]، يتحدَّث الأستاذ أحمد الحوفي في كتابه "سماحة الإسلام" عن هذه الحرية في الاعتقاد والعبادة التي أتاحها الإسلامُ لغير المسلمين في المجتمع المسلم، فيقول: "أما الحرية الدينية، فقد كفَلها الإسلامُ لأهل الكتاب، فهم أحرار في عقيدتهم وعبادتهم وإقامة شعائرهم في كنائسهم"[22].


وفي هذا المبدأ يتجلَّى تكريمُ الله للإنسان، واحترام إرادته وفِكْره ومشاعره، وترك أمره لنفسه فيما يَختصُّ بالهدى والضلال في الاعتقاد، وتحميله تَبَعة عمله وحساب نفسه، وهذه هي أخصُّ خصائص التحرُّر الإنساني، التحرر الذي تُنكِره على الإنسان في القرن العشرين مذاهبُ مُعتَسِفة، ونُظُم مُذِلَّة، لا تسمح لهذا الكائن الذي كرَّمه الله - باختياره لعقيدته - أن ينطوي ضميره على تَصوُّر للحياة ونُظُمها، غير ما تُمليه عليه الدولة بشتى أجهزتها التوجيهية، وما تُمليه عليه بعد ذلك بقوانينها وأوضاعها، فإما أن يَعتنِق مذهب الدولة هذا، وهو يحرمه من الإيمان بإله للكون يُصرِّف هذا الكونَ، وإما أن يتعرَّض للموت بشتى الوسائل والأسباب! إن حرية الاعتقاد هي أول حقوق الإنسان التي يَثْبت له بها وصف إنسان، فالذي يَسلُب إنسانًا حرية الاعتقاد، إنما يَسلُبه إنسانيَّته ابتداء، ومع حرية الاعتقاد حرية الدعوة للعقيدة، والأمن من الأذى والفتنة، وإلا فهي حرية بالاسم لا مدلول لها في واقع الحياة.


والإسلام - وهو أرقى تصوُّر للوجود وللحياة، وأقوم منهج للمجتمع الإنساني بلا مِراء - هو الذي ينادي بأن لا إكراه في الدين، وهو الذي يُبيِّن لأصحابه قبل سواهم أنهم ممنوعون من إكراه الناس على هذا الدين[23]، وتاريخ الإسلام الطويل شاهد على أن الشريعة وأهلها قد كفَلوا لأتباع الأديان الذين يعيشون في ظلِّ الإسلام البقاءَ على عقائدهم ودياناتهم، ولم يُرغَم أحد على اعتناق الإسلام، ومعلوم لدى القاصي والداني أن هذا لم يكن موقف ضَعْف من دولة الإسلام، بل كان هذا هو مبدأها، حتى حين كانت في أَوْج قوتها أُمَّة فتيَّة قادرة، ولو أرادت أن تَفرِض على الأفراد عقيدتَها بالقوة القاهرة، لكان ذلك في مقدورها، لكنها لم تفعل[24]، وهناك شهادات من العلماء غير المسلمين ممن يُوثَق بهم أن الإسلام ترك لغير المسلمين حريَّة المعتقد، تقول المستشرقة الإيطالية لورا فيشيا فاغليري في كتابها "دفاع عن الإسلام": "كان المسلمون لا يكادون يَعقِدون الاتفاقات مع الشعوب حتى يتركوا لها حريَّة المعتقد، وحتى يُحجِموا عن إكراه أحد من أبنائها على الدخول في الدين الجديد، والجيوش الإسلامية ما كانت تُتْبع بحشد من المبشرين اللحاحين غير المرغوب فيهم، وما كانت تضع المبشرين في مراكز محاطة بضروب الامتياز لكي ينشروا عقيدتهم، أو يدافعوا عنها، ليس هذا فحسب، بل لقد فرض المسلمون في فترة من الفترات على كل راغب في الدخول في الإسلام أن يَسلُك مسلكًا لا يساعد من غير ريب على تيسير انتشار الإسلام؛ ذلك أنهم طلبوا إلى الراغبين في اعتناق الدين الجديد أن يَمثُلوا أمام القاضي، ويُعلِنوا أن إسلامهم لم يكن نتيجة لأي ضغط، وأنهم لا يهدفون من وراء ذلك إلى كَسْب دنيوي"[25]، لقد كفَل الإسلامُ لغير المسلمين في المجتمع الإسلامي حرية المعتقد وحرية العبادة، وحماية معابدهم وصوامعهم وبِيَعهم، وجعل هذا من أسباب الإذن للمسلمين في القتال: ﴿ أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ * الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ ﴾ [الحج: 39، 40].


وإن الإسلام لم يَقُم على اضطهاد مُخالفيه، أو مصادرة حقوقهم، أو تحويلهم بالكُرْه عن عقائدهم، أو المساس الجائر لأموالهم وأعراضهم ودمائهم، وتاريخ الإسلام في هذا المجال أنصع تاريخ على وجه الأرض[26].


ومن المقرَّر عند الفقهاء أنه لو أُكرِه أحد على الإسلام، فإنه لا يَصِح إسلامه، قال في المغني: "وإذا أُكرِه على الإسلام من لا يجوز إكراهه كالذمي والمستأمن، فأسلم، لم يَثبُت له حُكْم الإسلام، حتى يوجد منه ما يدل على إسلامه طوعًا"[27]، يترك الإسلام لغير المسلم حرية ممارسة العبادات التي تتَّفِق مع عقيدته، ثم يأمر بالمحافظة على بيوت العبادة التي يُمارس فيها شعائره، ويحرم على المسلمين الاعتداء على بيوت العبادة أو هدْمها أو تخريبها، أو الاعتداء على القائمين فيها، سواء في حالتَي السِّلم والحرب، والوثائق التاريخية كثيرة في وصية الخلفاء لقادة الجيوش، وفي المعاهدات التي أُبرِمت في التاريخ الإسلامي، وعند الفتوحات، ومنها الوثيقة العمرية مع أهل بيت المقدس، والدليل المادي الملموس شاهد على ذلك ببقاء أماكن العبادة التاريخية القديمة لليهود والنصارى وغيرهم في معظم ديار الإسلام والمسلمين[28].


إن الفتح الإسلامي اعترف أيضًا بالآخر ولم يُرغِم أي واحد على الدخول في الإسلام، في حين عندما انتصر ملوك شبه الجزيرة النصارى أطبقوا على إبادة المسلمين وإحراق كتبهم وتُراثهم، وتحويل مساجدهم إلى كنائس، إذ لم يبقَ في إسبانيا ولو كتاب واحد من ملايين الكتب التي ألَّفها واقتناها ونسَخها علماء الأندلس وورَّاقوها ونسَّاخوها، أما الكتب التي هي بمكتبة الإسكوريال، فهي مغربية الأصل قرصنها قرصان فرنسي وتَسلَّط عليه الإسبان، فجعلوها في دير الإسكوريال، وقد أُتلِف جُلُّها بالحَرْق وغيره[29].


ومن شواهد التاريخ في هذا أنه لما توسَّعت رُقعة الدولة الإسلامية زمن النبي صلى الله عليه وسلم، كان هناك مجموعة كبيرة من القبائل المسيحية العربية، وبخاصة في نجران، فما كان منه صلى الله عليه وسلم إلا أن أقام معهم المعاهدات التي تتَّسِم باللين والرِّفق والتسامح حيث تؤمِّن لهم حرية المُعتقَد، وممارسة الشعائر، وصون أماكن العبادة، إضافة إلى ضمان حرية الفِكْر والتعلم[30]، فهذا ما ورد في معاهدة النبي صلى الله عليه وسلم لأهل نجران: "ولنجران وحاشيتها جوار الله وذمة محمد النبي رسول الله على أنفسهم ومِلَّتهم وأرضهم وأموالهم، وغائبهم وشاهدهم، وعشيرتهم وبِيَعهم وصلواتهم، وكل ما تحت أيديهم من قليل أو كثير، وألا يغيروا مما كانوا عليه بغير حق من حقوقهم ولا مِلَّتهم، ولا يُغيَّر أسقف عن أسقفيته، ولا راهب من رهبانيته، وليس عليهم دنية ولا دم جاهلية، ولا يحشرون ولا يعشرون ولا يطأ أرضهم جيش، ومن سأل منهم حقًّا، فبينهم النصف، غير ظالمين ولا مظلومين، على ألا يأكلوا الربا، فمَن أكل الرِّبا من ذي قبل، فذمَّتي منه بريئة، ولا يؤخذ رجل منهم بظلم آخر، وعلى ما في هذه الصحيفة جوار الله وذمة النبي محمد رسول الله أبدًا حتى يأتي الله بأمره، ما نصحوا وأصلحوا ما عليهم غير مثقلين بظلم"[31].


فإن عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم مع نصارى نجران قد بلغ الذِّروة فى تَعامُل الدولة الإسلامية مع دور العبادة هذه، إلى الحد الذي نَصَّ فيه على أن مساعدة الدولة الإسلامية لغير المسلمين فى ترميم دور عباداتهم هي جزء من واجبات هذه الدولة؛ ولأن غير المسلمين هم جزء أصيل في الأمة الواحدة، والرعية المتَّحِدة لهذه الدولة، فجاء في هذا الميثاق مع نصارى نجران: ولهم إن احتاجوا فى مَرمَّة بِيَعهم وصوامعهم أو شيء من مصالح أمور دينهم إلى رفد ومساعدة من المسلمين، وتقوية لهم على مرمَّتها - أن يرفدوا على ذلك ويُعاوَنوا، ولا يكون ذلك دَينًا عليهم، بل تقوية لهم على مصلحة دينهم، ووفاء بعهد رسول الله، وموهبة لهم، ومِنَّة لله ورسوله عليهم.


يقول ول ديورانت: "لقد كان أهل الذمة (المسيحيون والزردشتيون واليهود والصابئون) يتمتَّعون في عهد الخلافة الأموية بدرجة من التسامح لا نجد نظيرًا لها في البلاد المسيحية في هذه الأيام، فلقد كانوا أحرارًا في ممارسة شعائر دينهم، واحتفظوا بكنائسهم ومعابدهم، وكانوا يتمتَّعون بحُكْم ذاتي يخضعون فيه لعلمائهم وقضاتهم وقوانينهم"[32]، وهذا خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم أبو بكر رضي الله عنه يُوصِي أسامةَ بن زيد وجيشه: "يا أيها الناس، قفوا؛ أُوصِكم بعشرٍ، فاحفظوها عني: لا تخونوا ولا تَغُلُّوا، ولا تَغدِروا ولا تُمَثِّلوا، ولا تقتلوا طفلاً صغيرًا، ولا شيخًا كبيرًا، ولا امرأة، ولا تَعقِروا نخلاً ولا تحرقوه، ولا تقطعوا شجرة مُثمِرة، ولا تذبحوا شاةً ولا بقرة ولا بعيرًا إلا لمأكلة، وسوف تمرون بأقوام قد فرَّغوا أنفسَهم في الصوامع، فدَعُوهم وما فرَّغوا أنفسهم له"[33].

يتبع

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 44.20 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 43.58 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (1.42%)]