وهذه دعوة صريحةٌ من القرآن للنظر والاستدلال والحث على العلم من أجل المعرفة واليقين، وسوف تظلُّ هذه الآية تُقرَأ بصيغة المستقبل؛ ليُدرِك العباد عظمةَ ربهم وخالقهم وحكمته وقدرته، والمتأمِّل للكثير من آيات القرآن يجد نفس الوتيرة في مخاطبة العقل والفكر والتدبر والحث على الفهم، ولا فهم إلا عن علم وإدراك، ولا علم إلا بالإيمان بالله ورسالته الخاتمة التي أشاحت بنورِها ظلمات الجاهلية والكفر، وأطاحت بطغيان الجبابرة والأكاسرة، وزادت من قيمة الإنسان وسعادته في الدنيا والآخرة.
والإنسان الذي يبتغي الحقَّ ويُدرِك قيمةَ العقل والعلم إنْ أدرك حقيقة المنهج الرباني للإسلام والغاية من الوجود، فسوف تتجلى له عظمة هذا الدين، وأنه رسالة الله للعالمين.
• قال تعالى: ﴿ أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا ﴾ [محمد: 24].
قال السعدي - رحمه الله - في بيانها ما نصه:
"أي: فهلاَّ يتدبَّر هؤلاء المُعرِضون لكتاب الله، ويتأمَّلونه حق التأمل، فإنهم لو تدبَّروه، لدلَّهم على كل خير، ولحذَّرهم من كل شر، ولملأ قلوبهم من الإيمان، وأفئدتهم من الإيقان، ولأوصلهم إلى المطالب العالية، والمواهب الغالية، ولبيَّن لهم الطريق الموصلة إلى الله وإلى جنته، ومكملاتها ومفسداتها، والطريق الموصلة إلى العذاب، وبأي شيء تحذر، ولعرَّفهم بربهم وأسمائه وصفاته وإحسانه، ولشوَّقهم إلى الثواب الجزيل، ورهَّبهم من العقاب الوبيل.
﴿ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا ﴾؛ أي: قد أغلق على ما فيها من الشر وأقفلت، فلا يدخلها خير أبدًا، هذا هو الواقع"؛ اهـ[10].
ولا نُعِيد ما سبق وبينَّاه سلفًا عن علماء المسلمين، الذين كان علمُهم الشرارةَ الأولى التي مهَّدت لنهضة أوروبا الحديثة؛ وإنما مرادنا هنا أن نُبيِّن أن العلوم الشرعية بصفة خاصة وغيرها من العلوم النافعة التي تندمج في إطارها وتعاليمها، ولا تخرج عن حدودها إلى ما حرم الله تعالى، وتساهم في خدمة العباد، وتترقى بهم إلى الأفضل والأسمى، وتساهم في سلوك طريق الحق والرشاد - هما منهج حياة الأمة وسبب قوتها وعزتها بين الأمم، دون أن يطغى هذا على ذاك ليحدثَ التوازن بين غرور العلم المادي الصِّرف وانطلاقاته التي لا يحدُّها حد، وبين الإيمان بمنهج الله تعالى وما أوحى به لرسوله صلى الله عليه وسلم؛ ليحدث التجانس والجمع بين عبادة الله وطاعته وسعادة الإنسان دينًا ودنيا.
المحور الثالث
بيان أن حياة الأمة في الاهتمام بالعلم والعلماء
لا أغالي إن قلتُ: ما من دينٍ أجلَّ العلمَ وأهله كدينِ الإسلام، ويكفي أن أول آية نزلت منه على النبي الأمين صلى الله عليه وسلم هي قوله تعالى: ﴿ اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ ﴾ [العلق: 1 - 5].
قال البغوي - رحمه الله -:
أكثر المفسرين على أن هذه السورة أول سورةٍ نزلت من القرآن، وأول ما نزل خمس آيات من أولها إلى قوله: {مَا لَمْ يَعْلَمْ}؛ اهـ[11].
بل إن الله تعالى مدح أهل العلم ووصفهم بالخشية منه، وهي صفة جليلة، فقال تعالى: ﴿ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ ﴾ [فاطر: 28].
قال ابن العثيمين - رحمه الله -:
والخشية هي الخوفُ المَقْرونُ بالتعظيم، فهي أخص من الخوف، فكل خشية خوف، وليس كل خوف خشية؛ ولهذا يخاف الإنسان من الأسد ولكنه لا يخشاه، أما الله عز وجل، فإن الإنسان يخاف منه ويخشاه، قال الله تعالى: ﴿ فَلَا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ ﴾ [المائدة: 44]، ولكن مَن هم أهل الخشية حقًّا؟
أهل الخشية حقًّا هم العلماء، العلماء بالله وأسمائه وصفاته وأفعاله وأحكامه، الذين يعرفون ما لله - عز وجل - من الحِكَم والأسرار في مقدوراته ومشروعاته جل وعلا، وأنه - سبحانه وتعالى - كامل من كل الوجوه ليس في أفعاله نقصٌ، ولا في أحكامه نقص؛ فلهذا يخشَون الله عز وجل، وفي هذا دليلٌ على فضيلةِ العلم، وأنه من أسباب خشية الله، والإنسان إذا وُفِّق للخشية عُصِم من الذنوب، وإن أذنب استغفر وتاب إلى الله عز وجل؛ لأنه يخشى الله، يخافه، يُعظِّمه"؛ اهـ[12].
قلت: والمتأمِّل في القرآن والسنة يجدُ آيات بيِّنات، وأحاديث جَمَّة، تدل على أهمية العلم وكرامة العلماء في دين الإسلام؛ منها على سبيل المثال: قوله تعالى: ﴿ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ ﴾ [الزمر: 9]، والآية واضحةٌ لا تحتاج لبيانٍ أو شرح، وهي تمدح أهل العلم وتضعُهم في المكانة اللائقة بهم.
وقال تعالى: ﴿ يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ﴾ [المجادلة: 11].
قال الشوكاني في بيانها ما مختصره:
في الدنيا والآخرة بتوفير نصيبهم فيهما، ﴿ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ ﴾؛ أي: ويرفع الذين أوتوا العلم منكم درجات عالية في الكرامة في الدنيا، والثواب في الآخرة، ومعنى الآية: أنه يرفع الذين آمنوا على مَن لم يؤمن درجات، ويرفع الذين أوتوا العلم على الذين آمنوا درجات، فمن جمع بين الإيمان والعلم، رفعه الله بإيمانه درجات، ثم رفعه بعلمه درجات"؛ اهـ.
ومن السنة الصحيحة الكثير من الأدلة، وذكرنا بعضها، ونكتفي هنا بحديث: ((مَن سلك طريقًا يطلب فيه علمًا، سلك الله به طريقًا من طرق الجنة، وإن الملائكة لتضعُ أجنحتها لطالب العلم رضًا بما يصنع، وإن العالِم ليستغفرُ له من في السموات ومَن في الأرض والحيتان في جوف الماء، وإن فضل العالِم على العابد كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب، وإن العلماء ورثةُ الأنبياء، وإن الأنبياء لم يُورِّثوا دينارًا ولا درهمًا؛ إنما ورَّثوا العلم؛ فمن أخذه، أخذ بحظ وافر))[13].
ومن هذه الأدلة الشرعية من القرآن والسنة ينبغي أن نُنبِّه على مسألتين في غاية الأهمية والخطورة على حياة الأمة وتراثها الفكري والروحي.
المسألة الأولى: خطورة كتمِ العلم ومحاربة أهله:
خطورة كتم العلم وتهديد العلماء أو محاربتهم، ومنعهم من بيانِ أحكام الشريعة، والجهر بالحق من أهل الحل والعقد القائمين على أمر الأمة - عظيمٌ جدًّا، ولا تقوم أمةٌ على عقول وأهواء سفهائِها الذين ينشرون أفكارهم الضحلة دفاعًا عن عقيدةٍ أو فكر بشري شاذٍّ يُعادِي دين الله تعالى، ويلحد في صفاته وأسمائه، ويشرع للناس أحكامًا ما أنزل الله بها من سلطان، ولا أوحى بها إلى نبي من الأنبياء؛ وإنما حياة الأمم بالعلماء وأُولي الألباب منهم الذين يبينون ويستنبطون أحكام الشرع وما يُرضِي الله ورسوله صلى الله عليه وسلم في كل جديد مستحدث في دنيا الناس من نصوص الوحيَيْن، وفيهما الخير والكمال كله.
قال تعالى محذِّرًا العلماءَ والأمراء على السواء من كتم العلم، سواء كان كتمه من السلطان بترهيب علماء الأمة الثقات، ووضع العراقيل أمامهم لكتم شهادتهم وعلمهم، أو لخوف العلماء أنفسهم على حياتهم من السلطان، بعد أن أنعم عليهم بالعلم وأخذ منهم الميثاق، كما فعل أهل الكتاب فضلُّوا وأضلُّوا قومهم، فخسروا الدنيا والآخرة، قال تعالى: ﴿ وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ ﴾ [آل عمران: 187].
قال السعدي - رحمه الله -:
الميثاق هو العهد الثقيل المؤكد، وهذا الميثاق أخذه الله تعالى على كل مَن أعطاه الله الكتبَ وعلَّمه العلم، أن يُبيِّن للناس ما يحتاجون إليه مما علمه الله، ولا يكتمهم ذلك، ويبخل عليهم به، خصوصًا إذا سألوه، أو وقع ما يوجب ذلك، فإن كل مَن عنده علم يجب عليه في تلك الحال أن يُبيِّنه، ويوضح الحق من الباطل.
فأما الموفَّقون، فقاموا بهذا أتم القيام، وعلَّموا الناس مما علمهم الله، ابتغاءَ مرضاة ربهم، وشفقةً على الخلق، وخوفًا من إثم الكتمان.
وأما الذين أوتوا الكتاب، من اليهود والنصارى ومن شابههم، فنبذوا هذه العهود والمواثيق وراء ظهورهم، فلم يعبؤوا بها، فكتموا الحق، وأظهَروا الباطل، تجرَّؤا على محارم الله، وتهاونوا بحقوق الله وحقوق الخلق، واشترَوا بذلك الكتمان ثمنًا قليلاً، وهو ما يحصل لهم - إن حصل - من بعض الرياسات والأموال الحقيرة من سفلتهم المتَّبِعين أهواءهم، المقدِّمين شهواتِهم على الحق، ﴿ فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ ﴾؛ لأنه أخس العِوَض، والذي رغبوا عنه - وهو بيان الحق، الذي فيه السعادة الأبدية، والمصالح الدينية والدنيوية - أعظم المطالب وأجلُّها، فلم يختاروا الدنيء الخسيس ويتركوا الغالي النفيس، إلا لسوءِ حظِّهم وهوانِهم، وكونهم لا يصلحون لغير ما خلقوا له"؛ اهـ[14].
قلت: ولقد منَّ الله تعالى بفضله على العلماء من دون الخلق وجمعهم معه وملائكته المكرَّمين في الذَّود عن دينه بشهادة الحق وبيان سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ولولا كرامتهم عنده - جل في علاه - ما شرَّفهم بالشهادة، قال تعالى: ﴿ شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ﴾ [آل عمران: 18].
قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -:
"وإذا كانت شهادة الله تتضمَّن بيانه للعباد ودلالته لهم وتعريفهم بما شهد به لنفسه، فلا بد أن يُعرِّفهم أنه شهد، فإن هذه الشهادة أعظم الشهادات، وإلا فلو شهد شهادةً لم يتمكَّن من العلم بها، لم ينتفع بذلك، ولم تقم عليهم حُجَّة بتلك الشهادة، كما أن المخلوق إذا كانت عنده شهادةٌ لم يُبيِّنها بل كتمها، لم ينتفع أحد بها ولم تقم بها حجة؛ ولهذا ذمَّ سبحانه مَن كتم العلم الذي أنزله وما فيه من الشهادة، كما قال تعالى: ﴿ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ ﴾ [البقرة: 140]؛ أي: عنده شهادة من الله وكتمها، وهو العلم الذي بيَّنه الله، فإنه خبر من الله وشهادة منه بما فيه.
وقد ذم مَن كتمه كما كتم بعضُ أهل الكتاب ما عندهم من الخبر والشهادة لإبراهيم وأهل بيته، وكتموا إسلامهم وما عندهم من الأخبار بمثل ما أخبر به محمد صلى الله عليه وسلم، وبصفته، وغير ذلك، قال تعالى: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ ﴾ [البقرة: 159].
وقال تعالى: ﴿ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ﴾ [البقرة: 146]، والشهادة لا بدَّ فيها من علم الشاهد وصدقه وبيانه، لا يحصل مقصود الشهادة إلا بهذه الأمور؛ ولهذا ذمَّ مَن يكتمُ ويُحرِّفُ، فقال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا ﴾ [النساء: 135]"؛ اهـ[15].
المسألة الثانية: مصيبة موت العلماء الثقات:
الموت حق ولا بد منه، فلم يكتب الله لأحدٍ الخلود حتى لمن اصطفاهم بالرسالة والنبوة، كما قال تعالى: ﴿ كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ ﴾ [العنكبوت: 57].
والعلماء خلقٌ من خلق الله لا بد أن يذوقوا سكرات الموت، ولكن موتهم يُؤدِّي لمصائب جَمَّة، من أعظمها ضياع العلم، ولا يخفى أن الناس في حاجة لبيان الحكم الشرعي الصحيح في الأمور المستجدَّة من العلماء العاملين أصحاب القلوب النيِّرة التقية، وقد أمرهم ربهم بسؤالهم، فقال - جل في علاه -: ﴿ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ ﴾ [النحل: 43].
وبموتهم يضيع العلم، وينتشر الجهل والشرك، وتضيع السنن، وتكثر البدع والخرافات، ولن يجد الناس مَن يُبيِّن لهم الحق بعدهم إلا أشباه العلماء، وهم أهل هوى ودنيا، الذين يفتون الناس حسب أهوائهم واتجاهاتِهم، وما في هذا من فساد وإفساد، ولقد بيَّن ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ((إن الله لا يَنْزِعُ العلم بعد أن أعطاكموه انتزاعًا، ولكن ينتزعُه منهم مع قبض العلماء بعلمهم، فيبقى ناس جهَّال، يُستفتون فيُفتون برأيهم، فيَضلُّون ويُضِلُّون))[16].
وليعلم كل عالِم دنيا أن الله - جل جلاله - لم يخلُقِ الخلق عبثًا، ويدل على ذلك قولُه تعالى: ﴿ أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ * فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ ﴾ [المؤمنون: 115، 116].
قال السعدي - رحمه الله -:
أي: ﴿ أَفَحَسِبْتُمْ ﴾ أيها الخلق ﴿ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا ﴾؛ أي: سُدى وباطلاً، تأكلون وتشربون وتمرحون وتتمتعون بلذَّات الدنيا، ونتركُكم لا نأمركم ولا ننهاكم، ولا نثيبكم ولا نعاقبكم؟ ولهذا قال: ﴿ وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ ﴾ لا يخطر هذا ببالكم، ﴿ فَتَعَالَى اللَّهُ ﴾؛ أي: تعاظم وارتفع عن هذا الظن الباطل، الذي يرجع إلى القدح في حكمته، ﴿ الْمَلِكُ الْحَقُّ لا إِلَهَ إِلا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ ﴾، فكونه ملكًا للخلق كلهم حقًّا في صدقه ووعده ووعيده، مألوهًا معبودًا، لِما له من الكمال، ﴿ رَبُّ الْعَرْشِ الكريم ﴾ فما دونه من باب أولى، يمنع أن يخلقكم عبثًا"؛ اهـ[17].
وختامًا لهذا المبحث نقولها واضحةً مما بيناه من أدلة شرعية:
إن الإسلام ليس دينَ عبادة فقط، ولا يدعو لترك الدنيا والزهد فيها، وإهمال ما تستقيم به حياة الناس من علوم دنيوية نافعة، ومتطلبات فطرية ضرورية لا غنى للإنسان عنها، كما يفهم المتنطعون، فنكون عالةً على غيرنا، بل ينبغي الجمع بين الدين والدنيا، والسعي للأخذ بالأسباب في إطار تعاليم شريعتنا وسنة نبينا صلى الله عليه وسلم.
وكفى بيانًا ودليلاً قاطعًا لكل مَن يريد عزل الدين عن الدنيا؛ لأنها دار بلاء وفتن، ويذم مَن يبتغي الإصلاح فيها والاستفادة منها مما أباحه الشرع من الطيبات والعلوم التي لا تستقيم حياةُ الإنسان إلا بها - قولُ الله تعالى: ﴿ وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ ﴾ [القصص: 77]، وللحديث بقية إن شاء الله.
والحمد لله رب العالمين
والصلاة والسلام على النبي الآمين
وعلى آله وصحبه أجمعين.
[1] تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان؛ لعبدالرحمن بن ناصر السعدي - الناشر: مؤسسة الرسالة (1/ 59).
[2] تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان؛ لعبدالرحمن بن ناصر السعدي - الناشر: مؤسسة الرسالة (1/ 40).
[3] تفسير العلامة محمد العثيمين - مصدر الكتاب: موقع العلامة العثيمين (3/ 167).
[4] انظر: الفوائد؛ لابن قيم الجوزية ص103.
[5] تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان؛ لعبدالرحمن بن ناصر السعدي - الناشر: مؤسسة الرسالة (1/ 687).
[6] أخرجه أبو داود (4297)، وصحح الألباني إسناده في الصحيحة برقم 958، والمشكاة برقم 5369.
[7] تفسير العلامة محمد العثيمين - مصدر الكتاب: موقع العلامة العثيمين (4/113).
[8] انظر: مجموع فتاوى ورسائل فضيلة الشيخ محمد بن صالح العثيمين - جمع وترتيب/ فهد بن ناصر بن إبراهيم السليمان، (26/53) سؤال رقم 17.
[9] أخرجه مسلم برقم 4358 - باب وجوب امتثال ما قاله شرعًا دون ما ذكره من معايش الدنيا.
[10] تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان؛ لعبدالرحمن بن ناصر السعدي - الناشر: مؤسسة الرسالة (1/ 788 - 789).
[11] انظر: تفسير معالم التنزيل؛ للإمام البغوي (8/474).
[12] شرح رياض الصالحين؛ لمحمد بن صالح بن محمد العثيمين (1/1579)، باب فضل السماحة في البيع.
[13] انظر: حديث رقم: 6297 في صحيح الجامع.
[14] تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان؛ لعبدالرحمن بن ناصر السعدي - الناشر: مؤسسة الرسالة (1/160).
[15] مجموع الفتاوى؛ لابن تيمية (14/ 186)، فصل: وإذا كانت شهادة الله.
[16] أخرجاه في الصحيحين؛ البخاري برقم 6763- باب ما يذكر من ذم الرأي وتكلف القياس، ومسلم برقم 4829 - باب رفع العلم وقبضه وظهور الجهل والفتن في آخر الزمان.
[17] تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان؛ لعبدالرحمن بن ناصر السعدي - الناشر: مؤسسة الرسالة (1/ 560).