الوظائف الدعوية لمقاصد الأحكام الفقهية
د. وصفي عاشور أبو زيد
تمثل مقاصد الشريعة الإسلامية مرجعية معتبرة للتجديد في الفكر الإسلامي بشكل عام، وفي الفقه والأصول بشكل خاص، وتتميز هذه المرجعية بأنها قادرة على تقديم الإجابات المناسبة لما ينزل بالأمة من نوازل، سواء كانت نوازل عامة في جوانب حياتها الثقافية والسياسية والاجتماعية والحضارية، أم نوازل فقهية تمس حياة الناس من الناحية الشرعية المباشرة.
وتحت هذه المظلة الواسعة تنطلق حركة الاجتهاد والتجديد انطلاقة رحيبة تأخذ مداها، لتحتضن كل جديد، وتستوعب كل حادث، ولا تقف مكتوفة الأيدي أمام أي نازلة، إنما تقوم بتوصيف واقعها، وتستنزل حكمها في ضوء هذه المظلة مع مراعاة النصوص الجزئية الخاصة والعامة.
وما مِن شك في أن هذه المظلة الكبرى التي تمثل ساحة واسعة للمجتهد المعاصر تتكون - بداية تكوينها - من المقاصد الجزئية التي تعتبر مهادًا لتكوين المقاصد الخاصة، وتكونان - بدورهما - المقاصد الكلية والمفاهيم التأسيسية والمقاصد العالية التي ترتكز عليها عملية التجديد الفكري في النسق الإسلامي العام.
إن نظرية المقاصد هي الرؤية الكلية التي تندرج في إطارها كل الرؤى الفكرية والقواعد الفقهية، ولا تتعلق باستنباط الأحكام الشرعية فحسب، "بل إنها تشكل المفهوم الكلي الذي يحكم طريقة التفكير الإسلامية، والتي توائم موائمة فريدة بين هداية النقل ودراية العقل؛ فهي منهج لتجديد الفكر الإسلامي على هديِ سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ومنهج صحابته عليهم الرضوان في النظر المقاصدي... الذي يوفر منهجًا للأحكام العقلية كما هي منهج للأحكام العملية"[1]، وهذا يقتضي كون النظر المقاصدي صالحًا لإحداث الفاعلية والتجديد، ومرتكزًا أساسيًّا في صناعة تنمية دائمة، ونهضة إسلامية شاملة.
وهذا التجديد لا بد أن يصدر من أهله وفي محله: من أهله الذين سبروا أغوار الشريعة بمقاصدها ونصوصها، بمواردها ومصادرها، بكلياتها وجزئياتها، ثم آتاهم الله فهمًا وبصيرة لتوصيف الواقع وفهمه فهمًا دقيقًا وتوصيفًا صحيحًا يطابق الواقع، ثم تكون عندهم قدرة فائقة على ممارسة عملية التنزيل بكل أبعادها المعقدة في واقعنا المعاصر، وفي محله الذي يقتضي أن يكون في مساحات الاجتهاد المشروعة.
المطلب الثاني: الرد على المتشككين وتفنيد الشبهات:
إن الشبهات التي يلقيها المتشككون والمبتدعة[2] على العقيدة والشريعة تتردد بين الحين والآخر منذ أول يوم نزلت فيه الرسالة، وقد أورد القرآن الكريم العديد من هذه الشبهات حول الرسول والرسالة التي يثيرها غير المسلمين من ملاحدة وأهل كتاب، ثم يورد الرد عليها ويفندها، وهو في القرآن أكثر من أن يحصى.
وهذه الشبهات تتطلب علماء على قدر كبير من الوعي بأهداف وغايات ومقاصد الرسالة، ولديهم تفنن في بيان فلسفة الأحكام ومقاصدها؛ إذ لا يبلِّغ الدعوةَ ويقيم الحجة ويرد الشبهة ويكشف زيفها إلا المتعمقون في مقاصد الشريعة، المستوعبون لأهداف الرسالة وغاياتها.
ولأن أهداف الرسالة أهداف إنسانية نبيلة[3]، ومقاصد إسلامية شريفة، فإنها تمثل قاسمًا مشتركًا بين البشر، ولا يختلف عليها أحد.
وحسبنا قول الله تعالى مبينًا أهداف إرسال الرسول: ﴿ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ ﴾ [الأعراف: 157].
وقول جعفر بن أبي طالب - رضي الله عنه - حينما قال له النجاشي: "ما هذا الدين الذي فارقتم فيه قومكم، ولم تدخلوا في ديني، ولا في دين أحد من الملل؟!"، قال جعفر - رضي الله عنه -: "أيها الملِك، كنا قومًا أهل جاهلية؛ نعبد الأصنام، ونأكل الميتة، ونأتي الفواحش، ونقطع الأرحام، ونُسيء الجوار، ويأكل القوي الضعيف، فكنا على ذلك حتى بعَث الله لنا رسولًا كما بعث الرسل إلى مَن قبلنا، وذلك الرسول منا، نعرف نسَبَه وصدقه، وأمانته وعفافه، فدعانا إلى الله تعالى لنوحِّده ونعبده، ونخلع - أي نترك - ما كان يعبد آباؤنا من دونه من الحجارة والأوثان، وأمرنا أن نعبد الله تعالى وحده، وأمَرنا بالصلاة - أي ركعتين بالغداة وركعتين بالعشي - والزكاة - أي مطلق الصدقة - والصيام - أي ثلاثة أيام من كل شهر؛ أي: وهي البِيض، أو أي ثلاثة على الخلاف في ذلك - وأمرنا بصدق الحديث، وأداء الأمانة، وصلة الأرحام، وحسن الجوار، والكف عن المحارم والدماء، ونهانا عن الفواحش، وقول الزور، وأكل مال اليتيم، وقذف المحصنة، فصدَّقناه، وآمنَّا به، واتبعناه على ما جاء به، فعدا علينا قومنا؛ ليردُّونا إلى عبادة الأصنام، واستحلال الخبائث، فلما قهرونا وظلمونا وضيَّقوا علينا، وحالُوا بيننا وبين ديننا، خرجنا إلى بلادك، واخترناك على مَن سواك، ورجوناك ألا نظلم عندك يا أيها الملك، فقال النجاشي لجعفر: هل عندك مما جاء به شيء؟ قلت: نعم، قال: فقرأت عليه صدرًا من "كهيعص"، فبكى والله النجاشي حتى أخضل - أي بلَّ لحيته - وبكت أساقفته"[4].
ففي هذه الآيات الكريمة، وفي قول جعفر لا نجد أجمع للخير وأوعب لصالح الإنسانية من هذه المقاصد التي ذكرتها الآيات، وبيَّنها جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه.
بل إن للفكر المقاصدي دورًا كبيرًا في المناظرات والحِجاج الشرعي والعقلي، الأصولي والفقهي، والمتأمل لمناظرات الإمام مالك الأصولية والفقهية - سواء كانت شفهية أم تحريرية - مع فقهاء عصره يقف على أهمية المقاصد في هذا المجال[5].
وإذا كان الوعي بالمقاصد بكل مراتبها من الضروريات لتبليغ الدعوة وتفنيد الشبهات في كل عصر؛ فإن ذلك أوجبُ في عصرنا الذي أضحى من أهم خصائصه: ثقافة العولمة وعولمة الثقافة، وفي ظل هذا الانفتاح "العنكبوتي والفضائي" غير المحدود يصبح لزامًا على كل ناطق باسم الإسلام أن يكون له أوفى نصيب من الغايات التي جاءت في الآيات الكريمة، وفصلها جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه.
ولذلك كان هذا هو منهجَ الراسخين في العلم؛ يقول شيخنا د.يوسف القرضاوي: إن من منهجه ذكر "الحكم مقرونًا بحكمته وعلته، مربوطًا بالفلسفة العامة للإسلام، وهذا ما التزمته في فتاواي وكتاباتي بصفة عامة؛ وذلك لأمرين:
الأول: أن هذه هي طريقة القرآن والسنة...الثاني: أن الشاكين والمشككين في عصرنا كثيرون، ولم يعد أغلب الناس يقبلون الحكم دون أن يعرفوا مأخذه ومغزاه، ويعُوا حكمته وهدفه، وخاصة فيما لم يكن من التعبدات المحضة، ولا بد أن نعرف طبيعة عصرنا، وطبيعة الناس فيه، ونزيل الحرج من صدورهم ببيان حكمة الله فيما شرع، وبذلك يتقبَّلون الحكم راضين منشرحين، فمن كان مرتابًا ذهب رَيبُه، ومن كان مؤمنًا ازداد إيمانًا"[6].
وقال عن إحدى الخطوات المنهجية التي سلكها في بحثه "فقه الزكاة" من قبل: "لم أكتفِ ببيان الحكم الشرعي مجردًا في كل مسألة، بل عنيت بتفسير الحكمة من وراء تشريعه، والسر فيما أوجبه الشارع أو استحبه، أو نهى عنه أو أذن فيه، وهذا اقتداء بالشارع نفسه الذي عُني بتعليل الأحكام، وبيان مقاصدها ومنافعها للبشر أفرادًا وجماعات، ولم يكتفِ بالتكليف المجرد، والإلزام الصارم، اعتمادًا على التزام المكلفين - بحكم إيمانهم - بامتثال كل ما يصدر عن الشارع، عقَلوا حكمته أو لم يعقلوها، وإذا كان بيان الحكمة من التشريع أمرًا محمودًا على كل حال، فهو في عصرنا أمر لازم؛ لغلبة الأفكار المفسدة، والتيارات المضللة، والوافدة من الشرق والغرب، فلم يعد يكفي إصدار الحكم المجرد، وانتظار صيحات المكلفين بعده: ﴿ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا ﴾ [البقرة: 285]"[7].
ويقول د.الريسوني - بحق -: "إننا اليوم في ظل التحديات الفكرية والثقافية والإعلامية التي تواجهنا وتحاصرنا أصبحنا أكثر اضطرارًا إلى أن نعرض على الناس ونشرح لهم مقاصد شريعتنا ومحاسن ديننا؛ فهذا هو الكفيل بإنصاف ديننا المفترى عليه، وإبرازه بما هو عليه، وما هو أهله، وهو الكفيل بدفع الشبهات، ورفع الإشكالات، وإقامة الحجة كاملة ناصعة؛ ليَهلِك من هلك عن بينة، ويحيا من حَيَّ عن بينة"[8].
إن معرفة مقاصد الشريعة "تعطي المسلم القناعة التامة والمناعة الكافية ضد الحرب الضروس التي تقام اليوم ضد الإسلام عن طريق الغزو الفكري والعقدي والتيارات المنحرفة، والدعوات البراقة، والأفكار الهدامة التي تطلق من هنا وهناك عبر وسائل الإعلام التي تنوعت وتعددت في عصرنا الحاضر، وأصبحت السلامة منها أمرًا متعذرًا، وليس هناك من وسيلة لمواجهتها إلا عبر تحصين المسلم عن طريق القناعة بهذا الدِّين، وبيان مقاصده، مما يعطي المسلم هذه الحصانة"[9].
ولقد بينا في فصل التأريخ أنه لا يخلو مجدِّد أو مصلِح من الاهتمام بالفكر المقاصدي، وأن الاهتمام بهذا الفكر يبرز في حالات الرغبة في النهضة والتجديد والحفاظ على الهوية ونشر الدعوة والإصلاح، وفي ضوء هذه الحقيقة نفهم ما رواه البيهقي عن إبراهيم بن عبدالرحمن العذري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يرِثُ هذا العلم من كل خلَف عدولُه؛ ينفُون عنه تأويل الجاهلين، وانتحال المبطِلين، وتحريف الغالين))[10].
قال المناوي: "وهذا إخبار منه بصيانة العلم وحفظه وعدالة ناقليه، وأنه تعالى يوفق له في كل عصر خلقًا من العدول يحملونه، وينفون عنه التحريف، وهذا تصريح بعدالة حامليه في كل عصر"[11].
ولا يتصور أن يكون هؤلاء الفضلاء الأخيار عدولًا ثم يخلون من فقه مقاصد الشريعة وإدراك غايات الرسالة؛ لأنهم لا يستطيعون رد تأويل الجاهلين، وتحريف الغالين، وانتحال المبطلين إلا بالتمكن من غايات الشريعة ومقاصد الرسالة، وهذا من وظائف المقاصد بكل مراتبها.
وحين يقول الله تعالى: ﴿ قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي ﴾ [يوسف: 108]، فمن معاني البصيرة في هذا السياق - والله أعلم بمراده - أن يكون متبصرًا بمقاصد الشريعة وغايات الرسالة، فيكون قوي الحجة ظاهر البرهان، فينقاد إليه الناس بما معه من حقائق ورسوخ وتبصر بما يدعو إليه، وهذا لا ينفك عن مقاصد الشريعة.
ولهذا يقرر العلامة ولي الله الدهلوي: أن علم الأسرار والحكم المقاصد "أحق العلوم بأن يصرف فيه من طاقة نفائس الأوقات، ويتخذه عدة لمعاده بعدما فرض عليه من الطاعات؛ إذ به يصير الإنسان على بصيرة فيما جاء به الشرع"[12].
وحين يقول أيضًا: ﴿ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ ﴾ [الرعد: 17]، فإن الزَّبَد هو ما يطفو فوق سطح الماء، وهو إشارة إلى عدم الثبات والقوة والعمق، وهذا شبيه بالظاهرية في فهم النصوص التي ترفض التقصيد والتعليل، وتقف عند ظاهر النص دون سبر أغواره والوقوف على مقاصده وغاياته؛ ولهذا قال الدهلوي: "ومن عجز أن يعرف أن الأعمال معتبرة بالنيات...فإنه لم يمسه من العلم إلا كما يمس الإبرة من الماء حين تغمس في البحر وتخرج، وهو بأن يبكي على نفسه أحق من أن يعتد بقوله"[13].
لكن الراسخين في العلم المتعمقين في فهم الدين والفقه فيه فلا شك أن فقههم هو الذي ينفع الناس، ويمكث في الأرض، والآخر هو الذي يذهب جُفاءً كما يذهب زَبَد السيل.
وإذا كان كثير من الأصوليين احتجوا لمشروعية القياس بقوله تعالى: ﴿ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ ﴾ [الحشر: 2]، والله تعالى يقول: ﴿ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ ﴾ [آل عمران: 13]، ويقول: ﴿ إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ ﴾ [آل عمران: 190]، ويقول: ﴿ لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ ﴾ [يوسف: 111]، ويقول: ﴿ وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْهُدَى وَأَوْرَثْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ * هُدًى وَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ ﴾ [غافر: 53، 54]- فإنه يعني - والله أعلم بمراده - أن العبرة - وهي ما يعبر به الإنسان من الماضي إلى الحاضر والمستقبل - والآيات والهدى والذكرى لا تكون ولا ينتفع بها إلا أولو الأبصار والألباب، ولا يمكن أن نتصور أولي الألباب والأبصار إلا والفكر المقاصدي في القلب من تكوينهم وفكرهم ومنهجهم.
المطلب الثالث: الترشيد في مجال العمل الإسلامي:
من الوظائف العامة الهامة للمقاصد الجزئية أنها ترشِّدُ الحركة الإسلامية، وتعمل - إلى حد كبير - على وَحدة الأمة[14]، فضلًا عن العاملين في ساحة العمل الإسلامي، وتجعل جميع العاملين متفاهمين متفقين متعاونين، يعذِر بعضهم بعضًا في الفروع، ما كانت قائمة على أدلة معتبرة من الشرع.
وإذا كانت المقاصد عمومًا لعبت دورًا مشكورًا ومقدورًا في ساحة الاجتهاد الفقهي المعاصر، تأصيلًا وتنزيلًا، فإننا ندعو إلى أن تلعب دورًا أكبر في التقريب بين الدعوات المعاصرة ومناهجها المتنوعة؛ إذ إن هذا الدور لم يأخذ مداه حتى الآن، ولم تصدر نداءات تدعو إلى تفعيل المقاصد في التقريب والتوحيد بين الدعاة إلى الله تعالى.
إن معرفة مقاصد الشريعة تظهر أهميتها كذلك في "ترتيب الأولويات بالنسبة للداعية في الدعوة إلى الله تعالى؛ فيقدم الضروريات على الحاجيات، والحاجيات على التحسينيات، ويقدم ما فيه مصلحة عامة على ما فيه مصلحة خاصة، ويقدم الأهم على المهم، كما يحذر الناس من الضرر الأكثر خطورة قبل تحذيره لهم من الضرر الأقل خطورة، كما يخاطب كل أناس على حسب عقولهم، وبالخطاب الذي يناسب أفهامهم"[15].
ولا يخفى أن معظم الخلاف بين العاملين للإسلام يكون في فروع الدين وجزئياته؛ أي في الأحكام الفقهية العملية، ولو تفقه هؤلاء بمقاصد الأحكام الفرعية، وعلموا أنه متى اتضح المقصد فلا بأس من تعدد الصور وتنوعها - لزالت إشكالات كبيرة، وتوفرت طاقات هائلة، ونقلنا معاركنا إلى ساحاتها الحقيقية.
وإذا كانت المقاصد تقرب بين الفقهاء، وتقلل مساحات الخلاف، فلا يستغرب أن يكون لها دور فاعل في تقليل الخلاف بين العاملين والدعاة، والقضاء على الشغب في ساحة العمل للإسلام، وكما قال ابن عاشور: "إن أعظم ما يهم المتفقهين إيجاد ثلة من المقاصد القطعية؛ ليجعلوها أصلًا يصار إليه في الفقه والجدل"[16].
وسيظل العمل الإسلامي - رموزه وقواعده - في محنة كبيرة ما لم نتدارك هذا الأمر بنشر ثقافة المقاصد، وتمكين الوعي المقاصدي بينهم؛ لأن هذا ضمانة كبيرة لسلامة البدن الإسلامي، واستعادة العافية للدعوة الإسلامية بكل شرائحها وفصائلها، وأرجى لأن يحقق العمل الإسلامي مقاصده، ويصل لغاياته.
المطلب الرابع: التصحيح والمعيارية والتقييم:
ومن أهم الوظائف التي تثمرها رعاية المقاصد: وظائف التصحيح والمعيارية والتقييم والتقويم، وإذا كان المطلب الأول والثاني أقرب إلى إفادة المكلف، فإن هذا الفرع أقربُ إلى حسن التعامل مع التكليف نفسه.
فالمعرفة بمقاصد الأحكام الفرعية العملية هي صلب الفقه والفهم والاستيعاب والوضوح، وهذا الفهم والوضوح هو الذي يمكن المكلف من كل ما سبق.
يتبع