الملحد ودعواه أن الإسلام يبيح الكذب
د. ربيع أحمد
مثال 5: ماذا لو كنت طبيبًا وتعلم أن مريضًا معينًا في حالة خطرة، ولو علم المريضُ بخطورة حالته ستَسوء صحته، وربما لا يتحمل هذا الخبر فيموت، وسألك هذا المريض: هل حالتي خطرة يا دكتور؟ اصدقني يا دكتور؟
وهنا نحن أمام مفسدتين: مفسدة الكذب، وهي صغرى بالنسبة لمفسَدة ازدياد سوء صحة المريض، فهل من العقل والمنطق والأخلاق أن تقول له: نعم حالتك خطرة، وبذلك تكون ساعدتَ في ازدياد سوء صحته، أو ساعدت في موته أم ستكذب وتخبره أن حالته جيدة وتتحسن؟!
مثال 6: ضابط يريد القبض على تجار مخدرات متلبسين بالجريمة، فاضطر للكذب وادِّعاء أنه يريد العمل معهم؛ حتى يتمكَّن من مُراقبتهم والقبض عليهم، فهل العقل والمنطق يُجيز مثل هذا العمل أم لا؟
مثال 7: رجل تهيَّأَت له زوجته، وتصنَّعَت وتعطرَت، وأعدَّت له أحسن الطعام والشراب، ولبست له أحسن الثياب، إلا أن الزوج رأى في تصنُّعها شيئًا يكرهه، ثم سألته الزوجة: ما رأيك هل ترى شيئًا تكرهه؟ فهل من الذوق والأدب أن يقول لها: نعم أرى منك كذا أكرهه، أم يُداريها ويقول لها: لا أرى منك إلا الخير والجمال! ما شاء الله، تبارك الخلاق... وكلمات من هذا القبيل؟
والصدق مع المرأة في بعض الحالات قد يؤدِّي إلى إيذاء العلاقة بين الزوجين، والإضرار بها؛ كاعتراف الزوج بأمور تجرح مشاعر المرأة، وتجعلها حزينة وغير قادرة على استمرار العلاقة معه في الكثير من الأحيان، مع أن الزوج إذا تأمل ما في زوجته من الأخلاق الجميلة، والمحاسن التي يحبها، غضَّ الطرف عن صفاتها التي لا تعجبه، وبذلك تدوم العشرة والألفة بين الزوجين.
نظرات في استدلالات الملاحدة
استدل الملاحدة - هداهم الله - بقوله تعالى: ï´؟ مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ï´¾ [النحل: 106].
وقالوا: الآية تجيز الكذب من أجل الحفاظ على الحياة، فإذا اضطروك للكذب وإنكار الإيمان فافعل.
وإباحة الكذب عند الاضطرار للحفاظ على النفس من الهلاك من محاسن الشريعة، ودليلٌ على مراعاتها الأحوال المختلفة للناس، فلا تعامِلُ المضطر معاملةَ غيره.
والأمور التي يكذب فيها الإنسان لدفع ضرر محقق عن نفسه أو عِرضه لا يُدفع إلا بالكذب - هي في أصلها ممنوعة، ولكن الله أباحها للضرورة؛ إذ الضرورات تبيح المحظورات، ويجوز دفعُ أعلى المفسدتين بارتكاب أخفِّهما، وما يدل على ذلك قوله تعالى: ï´؟ إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ï´¾ [البقرة: 173].
ودفعُ الإنسانِ الضررَ عن نفسه من باب المحافظة على النفس، ولا يجوز للإنسان أن يُضرَّ بنفسه؛ قال تعالى: ï´؟ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ ï´¾ [البقرة: 195].
واقتضَت حكمة الله رفْعَ الضَّرر عن المكلَّفين ما أمكَن؛ فإن لم يُمكِن رفعُه إلا بضررٍ أعظمَ منه، بقَّاه على حاله، وإن أمكن رفعُه بالتزام ضررٍ دونه رفَعه به[14].
واستدل الملاحدة - هداهم الله - بقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((ليس الكذَّاب الَّذي يصلح بين النَّاس، ويقول خيرًا وينمي خيرًا))؛ قال ابن شهابٍ: ولم أسمع يرخَّص في شيءٍ ممَّا يقول النَّاس كذبٌ إلا في ثلاثٍ: الحرب، والإصلاح بين الناس، وحديث الرَّجلِ امرأتَه وحديث المرأة زوجها[15]، وقال القاضي: لا خلاف في جواز الكذب في هذه الصُّور[16]، وترخيص الكذب في هذه الحالات من سماحة وعدالة الشريعة، ودليل على مرونة الشريعة ومراعاتها لأحوال الناس المختلفة.
ومفسدة الكذب تعتبر مفسدةً صغرى إذا قورنت بمفسدة فَساد ذات البين ومفسدة العَداوة بين الناس، ومفسدة الكذب تعتبر مفسدة صغرى إذا قورنت بمفسدة إفشاء أسرار الدولة وخيانة الدولة.
ومفسدة الكذب بين الزوجين تعتبر مفسدةً صغرى إذا كان الغرَضُ المحافظةَ على الحياة الزوجية، ومنع هدمها، ولحصول الألفة بين الزوجين؛ بشرط ألاَّ يترتَّب على هذا الكذب إضاعةُ حق، فإذا سأل الزوج زوجته: هل تحبه؟ فعليها أن تجيبه بنعم، وإن كانت تكرهه؛ محافظة على بقاء الأسرة واستمرارية الحياة الزوجية، وإذا سألت الزوجةُ زوجها: هل تحبني؟ فعليه أن يجيبها بنعم وإن كان يكرهها؛ محافظة على بقاء الأسرة واستمرارية الحياة الزوجية، وهذا من باب الملاطفة والمؤانسة وحسن العشرة.
واستدل الملاحدة بقصة قتل كعب ابن الأشرف، ومن المعلوم أن كعبًا كان شاعرًا، فهَجا رسولَ الله صلى الله عليه وسلم وأصحابَه، وشبَّب بنسائهم، وبكى على قتلى بدر، وحرَّض المشركين بالشعر على رسول الله صلى الله عليه وسلم[17].
وهذه الأسباب استحقَّ بسببها القتل جزاءً وفاقًا؛ فقد هجا نبي الأمة صلى الله عليه وسلم، وهجا أصحابه، وتغزَّل بنساء المسلمين ووصَف جمالهن، وحرَّض المشركين على قتال نبي الأمة صلى الله عليه وسلم، ولو أن رجلاً سبَّ رئيس دولة وأهلَ دولة معينة فقتَلوه لما تكلم أحد، ولو أن رجلاً حرَّض على حرب دولة فأمسَك أهلها به وقتلوه لما تكلم أحد، وما فعله محمد بن مسلمة ما هو إلا حيلةٌ لقتل مَن يستحق القتل بأمرٍ من حاكم الدولة الإسلامية.
وهل يريد الملحد أن يترك من يهين دولته ويسبُّ أهلها ويحرض على حربها؟!
واستدلوا بقصة قتل خالد بن سفيان الهذليِّ، وخالد بن سفيان الهذليُّ كان يجمِّع العرب في بطن عرنة لقتال النبي صلى الله عليه وسلم[18]، فاستحقَّ بسبب ذلك القتلَ جزاءً وفاقًا، ولو أن رجلاً جمع بعض الناس لقتال قريةٍ من القرى فأمسك أهلُها به وقتلوه لما تكلَّم أحد، وما فعله عبدالله بن أُنيس ما هو إلا حيلة لقتلِ مَن يستحق القتل بأمرٍ من حاكم الدولة الإسلامية.
وهل يريد الملحد أن يترك من يحرض على حرب بلاده، ويجمع الناس لتدمير بلاده؟!
أيها الإخوة، إن الملحد يمدح كذِبَ أحد رجال الشرطة على سفَّاح أو مجرم؛ ليتمكَّن منه ويقتله، أو يُسلِمَه للدولة فتعدمه؛ ليستريح منه الناس، لكن عندما يفعل مثلَ هذا أحدُ المسلمين بأمر من حاكم الدولة الإسلامية يشنِّع الأمر، وهذا تناقض.
وقال البعض: لا يصح أن يُبيح الإسلامُ بعضَ الكذب؛ لأن الكذب في أمرٍ يؤدِّي إلى الكذب في باقي الأمور، ومن يكذب في أمر لا يمكن تصديقه بعد ذلك ولا مصداقية له.
والجواب: حقًّا من يكذب في أمر يكذب في باقي الأمور، ومن يكذب في أمر لا يمكن تصديقه بعد ذلك، لكن هذا في حق غيرِ المضطرِّ وغير المجبَر وغير المكرَه؛ فمَن كذب لينجو من بطش ظالم - وليس له سبيل للنجاة إلا الكذب - لا يقال: إنه كذاب، أو سيكذب في باقي الأمور، أو لا يمكن تصديقه بعد ذلك، ومَن كذب لأخذ حقِّه، وليس له سبيل لأخذ حقه إلا بالكذب لا يقال: إنه كذاب، أو سيكذب في باقي الأمور، أو لا يمكن تصديقه بعد ذلك.
وقال البعض: أنتم أيها المسلمون تدَّعون كمال ربِّكم، فكيف يكون كاملاً ويُجيز لكم الكذب؟ وإن قلتم: الكذب حرام فكيف يجيز الكذب ويحرمه في نفس الوقت؟
والجواب: أن ترخيص الكذب في بعض الحالات من كمال عدل الله، ومِن كمال علمه؛ فهو يَعلم أن المضطرَّ والمكرَه والمجبر لا يَقدر على الصِّدق في هذه الحالات، فأجاز له الكذب حتى تَزول ضرورته؛ رحمة به ولعلمه بحاله.
أما قولهم: إن قلتم: الكذب حرام فكيف يجيز الكذب ويحرمه في نفس الوقت؟
فالجواب: مَوردُ النهي ليس مورد الإباحة؛ فالجهة منفكَّة، فالنهي في حالة عدم الاضطرار وفي حالة حرية الاختيار، أما الإباحة فهي في حالة الاضطرار وعدم الاختيار.
هذا، والحمد لله الذى بنعمته تتم الصالحات.
مراجع المقال:
1- المنتظم في تاريخ الأمم والملوك؛ لابن الجوزي.
2- المنهاج شرح صحيح مسلم بن الحجاج؛ للنووي.
3- الأذكار؛ للنووي.
4- إعلام الموقعين عن رب العالمين؛ لابن القيم.
5- سنن أبي داود.
6- سنن الترمذي.
7- سنن الدارمي.
8- صحيح البخاري.
9- صحيح مسلم.
10- رياض الصالحين؛ للنووي.
11- مراتب الإجماع؛ لابن حزم.
12- مستدرك الحاكم.
13- فتح الباري؛ لابن حجر.
[1] رواه البخاري في صحيحه حديث رقم 2692، ورواه مسلم في صحيحه حديث رقم 2605 واللفظ لمسلم.
[2] المنهاج شرح صحيح مسلم بن الحجاج للنووي 16/ 158.
[3] رواه البخاري في صحيحه حديث رقم 4037 ورواه مسلم في صحيحه حديث رقم 1801 واللفظ لمسلم.
[4] رواه أبو داود في سننه حديث رقم 1249 والحديث سكت عنه أبو داود فهو صالح للاحتجاج، لكن الألباني ضعفه في صحيح وضعيف سنن أبي داود، ثم تراجع عن ذلك وصححه في السلسلة الصحيحة حديث رقم 2981.
[5] المنهاج شرح صحيح مسلم بن الحجاج للنووي 1/ 94.
[6] الأذكار للنووي ص 582.
[7] فتح الباري لابن حجر 1/ 201.
[8] رواه مسلم في صحيحه حديث رقم 2607.
[9] رواه البخاري في صحيحه حديث رقم 33 ورواه مسلم في صحيحه حديث رقم 59.
[10] رواه أبو داود في سننه حديث رقم 4990، ورواه النسائي في سننه حديث رقم 11061، ورواه الحاكم في المستدرك حديث رقم 142، ورواه الدارمي في سننه حديث رقم 2744، ورواه الطبراني في المعجم الكبير حديث رقم 951، ورواه البيهقي في السنن الكبرى حديث رقم 20825، وحسنه الألباني في صحيح وضعيف سنن أبي داود، وقال الترمذي في سننه: هذا حديث حسن 4/ 135 حديث رقم 2315.
[11] الأذكار للنووي ص 377.
[12] مراتب الإجماع لابن حزم ص 157.
[13] رياض الصالحين للنووي ص 439.
[14] إعلام الموقعين عن رب العالمين لابن القيم 2/ 92.
[15] رواه البخاري في صحيحه حديث رقم 2692،ورواه مسلم في صحيحه حديث رقم 2605 واللفظ لمسلم.
[16] المنهاج شرح صحيح مسلم بن الحجاج للنووي 16/ 158.
[17] المنتظم في تاريخ الأمم والملوك لابن الجوزي 3/ 158.
[18] انظر تاريخ الإسلام للذهبي 2/ 198، والبداية والنهاية لابن كثير 4/ 160.