التوبة والاستغفار في القرآن الكريم
أ. د. محمد أحمد محمود
شروط التوبة
التوبة إلى الله - تعالى - من أعظم مقامات الدين وأجلِّها؛ لأنها تزيل العوائق التي تقوم بين العبد وبين ربه، تلك العوائق الكامنة في النفس من شهواتها ونزواتها، ولا تكون التوبة صحيحةً مقبولة، حتى تتحقق فيها شروطٌ تثبت صدق التائب في توبته، وإنابته إلى ربه - عز وجل.
ومن هذه الشروط:
1- الإخلاص:
وذلك بأن يكون الباعثُ للتوبة حبَّ الله وتعظيمه، والطمعَ في ثوابه، والخوفَ من عقابه، لا قصدًا في عَرَض من أعراض الدنيا الزائلة؛ فإن الله - سبحانه وتعالى- لا يَقبَل من العمل إلا ما كان خالصًا لوجهه - جل وعلا - كما أخبر بذلك في كتابه الكريم، في قوله - عز وجل -: ï´؟ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ ï´¾ [البينة: 5].
فإخلاص العبادة لله - عز وجل - وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، هو دين الملة المستقيمة.
2- الندم:
الندم على ما سلف منه في الماضي، فلا تكون التوبة صحيحة، حتى يكون التائب نادمًا على ما سلف منه من المعاصي، ندمًا يوجب الانكسار بين يدي الله - عز وجل - والذلة له - سبحانه.
3- العزم الجازم على عدم معاودة الذنب:
فيتوب من الذنب، وهو يحدِّث نفسه ألاَّ يعود في المستقبل.
4- أن تكون التوبة في زمن قبولها:
وهو ما قبل حضور الأجل، وطلوع الشمس من مغربها.
فالذين يعملون السيئات، ويصرُّون على المعاصي، ويسوِّفون في التوبة، حتى إذا حضر أحدَهم الموتُ قال: إني تبت الآن - هؤلاء توبتُهم غيرُ صحيحة؛ بل هي مردودة؛ لأنها لم تنشأ عن خوف الله - عز وجل - وإنما هي توبة اضطرار حين حضر الأجل، ولم يَعُد هناك متَّسَع لارتكاب الذنوب، ومما يدل على عدم قبولها قولُه - عز وجل -: ï´؟ إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا * وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآَنَ وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا ï´¾ [النساء: 17، 18].
والمعنى: أن الله - سبحانه وتعالى - إنما يَقبَل التوبةَ ممَّن عمل السوء بجهالة - وكل مَن عصى ربَّه فهو جاهل، حتى ينزع عن الذنب - ثم يتوب قبل الغرغرة.
وأما متى خرجت الروح في الحلق، وضاق بها الصدر، وبلغَتِ الحلقومَ، وغرغرتِ النفسُ، وصار في حين اليأس - كما كان فرعون حين صار في غمرة الماء والغرق - فلم ينفعه ما أظهَرَ من الإيمان[22].
فإن التوبة في ذلك الوقت لا تنفع؛ كما أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((إِنَّ اللَّهَ يَقْبَلُ تَوْبَةَ العَبْدِ مَا لَمْ يُغَرْغِرْ))[23].
قال السعدي - رحمه الله - في تفسيره: توبة الله على عباده نوعان: توفيق منه للتوبة، وقبول لها بعد وجودها من العبد.
فأخبر هنا أن التوبة المستحَقة على الله حقٌّ أحقه على نفسه؛ كرمًا منه وجودًا، لمن عمل السوء؛ أي: المعاصي، {بجهالة}؛ أي: جهالة منه لعاقبتها، وإيجابها لسخط الله وعقابه، وجهل منه لنظر الله ومراقبته له، وجهل منه بما تؤول إليه من نقص الإيمان أو إعدامه، فكل عاصٍ لله فهو جاهل بهذا الاعتبار، وإن كان عالمًا بالتحريم؛ بل العلم بالتحريم شرط لكونها معصية معاقبًا عليها.
ï´؟ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ ï´¾: يحتمل أن يكون المعنى: ثم يتوبون قبل معاينة الموت، فإن الله يقبل توبة العبد، إذا تاب قبل معاينة الموت والعذاب قطعًا، وأما بعد حضور الموت، فلا يُقبَل من العاصين توبةٌ، ولا من الكفار رجوعٌ؛ كما قال - تعالى - عن فرعون: ï´؟ وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْيًا وَعَدْوًا حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آَمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آَمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ ï´¾ [يونس: 90]، وقال - تعالى -: ï´؟ فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آَمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ ï´¾ [غافر: 84].
وقال هنا: ï´؟ وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآَنَ وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا ï´¾ [النساء: 18]، وذلك أن التوبة في هذه الحال توبة اضطرار، لا تنفع صاحبها، إنما تنفع توبة الاختيار.
ويحتمل أن يكون قوله: {مِنْ قَرِيبٍ}؛ أي: قريب من فعل الذنب، الموجب للتوبة، فيكون المعنى: مَن بادر إلى الإقلاع مِن حين صدور الذنب، وأناب إلى الله، وندم عليه، فإن الله يتوب عليه، بخلاف مَن استمر على ذنبه، وأصر على عيوبه، حتى صارت فيه صفات راسخة، فإنه يعسر عليه إيجاد التوبة التامة، والغالب أنه لا يوفَّق للتوبة، ولا ييسَّر لأسبابها، كالذي يعمل السوء على علم ويقين، متهاونًا بنظر الله إليه، فإنه يسد على نفسه باب الرحمة.
نعم, قد يوفِّق اللهُ عبدَه المصرَّ على الذنوب عن عمد للتوبة النافعة، التي يمحو بها ما سلف من سيئاته، وما تقدَّم من جناياته، ولكن الرحمة والتوفيق للأول أقرب؛ ولهذا ختم الآيةَ الأولى بقوله: ï´؟ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا ï´¾.
فمِن عِلمه: أنه يعلم صادق التوبة وكاذبها، فيجازي كلاًّ منهما بحسب ما استحق بحكمته.
ومِن حكمته: أن يوفِّق مَن اقتضتْ حكمتُه ورحمته، توفيقَه للتوبة، ويخذل مَن اقتضت حكمتُه وعدله، عدمَ توفيقه، والله أعلم[24].
5- ومن شروط التوبة:
أن التوبة إذا كانت متضمنة لحق آدمي، فلا بد أن يخرج منه، إما بأدائه، وإما باستحلاله منه بعد إعلامه به، سواء كان حقًّا ماليًّا، أو جناية على بدنه أو عِرْضه؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((مَنْ كَانَتْ لَهُ مَظْلَمَةٌ لأَخِيهِ، مِنْ عِرْضِهِ أَوْ شَيْءٍ، فَلْيَتَحَلَّلْهُ مِنْهُ اليَوْمَ، قَبْلَ أَنْ لاَ يَكُونَ دِينَارٌ وَلاَ دِرْهَمٌ، إِنْ كَانَ لَهُ عَمَلٌ صَالِحٌ أُخِذَ مِنْهُ بِقَدْرِ مَظْلَمَتِهِ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ لَهُ حَسَنَاتٌ أُخِذَ مِنْ سَيِّئَاتِ صَاحِبِهِ، فَحُمِلَ عَلَيْهِ))[25].
ومما ينبغي الإشارة إليه: أن المظلمة إن كانت قدحًا بغِيبة أو قذفًا، ولم يغلب على ظن القادح حصولُ مفسدة بإعلام المقدوح فيه - فإن مِن شروط التوبة إعلامَه بذلك، وأما إن غلب على ظنه حصولُ مفسدة، فإنه يكفي في ذلك توبتُه بينه وبين الله - عز وجل - وأن يَذكُر المقدوحَ فيه في مواضع غيبته وقذفه بضد ما ذَكَره من الغيبة، فيبدل غيبته بمدحه، والثناء عليه، وذكر محاسنه[26].
وليس في هذا معارضة للحديث السابق؛ لأنه موافق لمقاصد الشارع من تأليف القلوب، والتراحم والتعاطف، والتحابب، ولا يتم ذلك إلا بإزالة أسباب العداوات، التي قد يكون منها إعلام المقدوح فيه بما قيل عنه من غيبة أو قذف.
فضائل التوبة
ذُكِرت التوبة في القرآن الكريم بين دعوةٍ إليها، وترغيبٍ فيها، وثناءٍ على أهلها، في سبعة وثمانين موضعًا، وقد بيَّن - سبحانه - أن التوبة خير من المواظبة على الذنب: ï´؟ فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُ خَيْرًا لَهُمْ وَإِنْ يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ عَذَابًا أَلِيمًا فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَمَا لَهُمْ فِي الْأَرْضِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ ï´¾ [التوبة: 74].
فأخبر الله - سبحانه - في هذه الآية أن التوبة خير لصاحبها؛ لما يترتب عليها من السعادة في الدنيا والآخرة، ولما لها من منزلة في الدين، تظهر من خلال فضائلها الواردة في القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة، ومن تلك الفضائل:
1- أن التوبة سبب لمحبة الله - عز وجل -:
فالتوبة تثمر للعبد محبةً من الله خاصة، لا تحصل بدون التوبة؛ بل التوبة شرط في حصولها، والمحبة الحاصلة للعبد بالتوبة لا تُنال بغيرها؛ لأن التائب يكون في حال من الخوف والخشية، والانكسار والتذلل لله، والتضرع إليه بأن يقبل توبته، ويغفر زلَّته، ويتجاوز عن جرمه وخطيئته، وهذه الأحوال هي من أفضل أحوال العبد التي يُحبها الله - عز وجل - ولهذا قال - تعالى -: ï´؟ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ ï´¾ [البقرة: 222]، فالله - سبحانه وتعالى - يحب عبادَه الذين كلما وقعت منهم زلةٌ، أحدثوا لها توبةً؛ لأن ذلك من أسباب إظهاره - سبحانه - صفةَ الحلم والعفو، والجود والرحمة والكرم، وإذا أحب مَن يتكرر منه التوبة بتكرار المعاصي، فهو في التائب الذي لم يقع منه بعد توبته زلةٌ - إن كان ذلك يوجد - أحبُّ، وفيه أرغب، وبه أرحم[27]، وقد ثبت في الصحيح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((كَيْفَ تَقُولُونَ بِفَرَحِ رَجُلٍ، انْفَلَتَتْ مِنْهُ رَاحِلَتُهُ تَجُرُّ زِمَامَهَا، بِأَرْضٍ قَفْرٍ، لَيْسَ بِهَا طَعَامٌ وَلاَ شَرَابٌ، وَعَلَيْهَا لَهُ طَعَامٌ وَشَرَابٌ، فَطَلَبَهَا حَتَّى شَقَّ عَلَيْهِ، ثُمَّ مَرَّتْ بِجِذْلِ شَجَرَةٍ فَتَعَلَّقَ زِمَامُهَا، فَوَجَدَهَا مُتَعَلِّقَةً بِهِ؟))، قُلْنَا: "شَدِيدًا يَا رَسُولَ اللَّهِ"، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((أَمَا وَاللَّهِ لَلَّهُ أَشَدُّ فَرَحًا بِتَوْبَةِ عَبْدِهِ، مِنْ الرَّجُلِ بِرَاحِلَتِهِ))، قَالَ جَعْفَرٌ: حَدَّثَنَا عُبَيْدُاللَّهِ بْنُ إِيَادٍ عَنْ أَبِيهِ"[28].
وهذا المثل ضربَه النبي - صلى الله عليه وسلم - لبيان فرح الرب - عز وجل - بتوبة العبد، فصاحب هذه الراحلة كان في أرض فلاة خالية، لا أنيس بها ولا مُعين، ثم إنها مهلكة؛ لا ماء بها ولا طعام، فنام فاستيقظ فلم يجد راحلتَه، التي عليها مادةُ حياته من طعام وشراب، فأخذ يبحث عنها، حتى أدركه العطشُ، وآيس من العثور عليها، فرجع إلى مكانه، وجلس ينتظر الموت، فنام في مكانه، فلما استيقظ وجدها عنده وعليها طعامُه وشرابه، فلا فرحة تعدل هذه الفرحةَ، ومع هذا ففرحُ الله - عز وجل - بتوبة عبده إذا تاب، أعظمُ من فرح هذا براحلته.
قال ابن تيمية - رحمه الله -: "والفرح إنما يكون بحصول المحبوب، والمذنب كالعبد الآبق من مولاه الفارِّ منه، فإذا تاب فهو كالعائد إلى مولاه وإلى طاعته، وهذا المَثل الذي ضربه النبي - صلى الله عليه وسلم - يبيِّن من محبةِ الله وفرحه بتوبة العبد، ومن كراهته لمعاصيه، ما يبين أنَّ ذلك أعظم من التمثيل بالعبد الآبق؛ فإن الإنسان إذا فقَدَ الدابةَ التي عليها طعامُه وشرابه في الأرض المهلكة، فإنه يحصل عنده ما الله به عليم من التأذِّي، من جهة فقْد الطعام والشراب والمركب، وكون الأرضِ مفازةً لا يمكنه الخلاصُ منها، وإذا طلبها فلم يجدها، يئس واطمأن إلى الموت، وإذا استيقظ فوجدها كان عنده من الفرح ما لا يمكن التعبير عنه، بوجود ما يحبه ويرضاه، بعد الفقد المنافي لذلك، وهذا يبيِّن من محبة الله للتوبة المتضمنة للإيمان والعمل..."[29].
والمقصود أن هذا الفرحَ من الله - عز وجل - بتوبة عبده، دليلٌ على عظم قدر التوبة، وأنها من أجلِّ الطاعات وأوجبها على المؤمنين، وهو فرح محسن، بَرٍّ، لطيف، جواد، غني، لا فرح محتاج إلى حصول متكمل به، مستقبل له من غيره، فهو عين الكمال[30].
2- ومن فضائل التوبة:
أنها سبب لتبديل السيئات حسنات؛ قال - تعالى -:ï´؟ وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آَخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا * يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا * إِلَّا مَنْ تَابَ وَآَمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا ï´¾ [الفرقان: 68 - 70].
المعنى: مَدَح اللهُ - عز وجل - عبادَه بما ذَكَره في هذه الآياتِ من الصفات، وأخبر أن مَن اتَّصف بأضدادها، فإنه يضاعف له العذاب، واستثنى - تعالى - مَن تاب مِن ظلمه، ورجع إلى ربه، فإنه يبدل سيِّئاتِه حسناتٍ.
واختلف المفسرون في التبديل المذكور على قولين:
القول الأول: أن الله - سبحانه وتعالى - يبدل سيئاتِ التائب حسناتٍ يوم القيامة؛ وذلك لأن هذا المسيءَ التائب كلما تذكَّر ما مضى، ندم واسترجع واستغفر، فينقلب الذنبُ طاعةً بهذا الاعتبار، فيوم القيامة وإن وجده مكتوبًا عليه، فإنه لا يضره، وينقلب حسنة في صحيفته، كما ثبت في السُّنة، وصحَّت به الآثار المروية عن السلف - رضي الله عنهم[31].
قال الشوكاني - رحمه الله -: وبه قال جماعة من الصحابة ومَن بعدهم[32].
واستدل القائلون بذلك بما يلي:
1- ما ثبت في "صحيح مسلم" - رحمه الله - من حديث أَبِي ذَرٍّ- قَالَ: "قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: ((إِنِّي لأَعْلَمُ آخِرَ أَهْلِ الجَنَّةِ دُخُولاً الجَنَّةَ، وَآخِرَ أَهْلِ النَّارِ خُرُوجًا مِنْهَا، رَجُلٌ يُؤْتَى بِهِ يَوْمَ القِيَامَةِ، فَيُقَالُ: اعْرِضُوا عَلَيْهِ صِغَارَ ذُنُوبِهِ، وَارْفَعُوا عَنْهُ كِبَارَهَا، فَتُعْرَضُ عَلَيْهِ صِغَارُ ذُنُوبِهِ، فَيُقَالُ عَمِلْتَ يَوْمَ كَذَا وَكَذَا: كَذَا وَكَذَا، وَعَمِلْتَ يَوْمَ كَذَا وَكَذَا: كَذَا وَكَذَا، فَيَقُولُ: نَعَمْ، لاَ يَسْتَطِيعُ أَنْ يُنْكِرَ، وَهُوَ مُشْفِقٌ مِنْ كِبَارِ ذُنُوبِهِ أَنْ تُعْرَضَ عَلَيْهِ، فَيُقَالُ لَهُ: فَإِنَّ لَكَ مَكَانَ كُلِّ سَيِّئَةٍ حَسَنَةً، فَيَقُولُ: رَبِّ قَدْ عَمِلْتُ أَشْيَاءَ لاَ أَرَاهَا هَاهُنَا))، فَلَقَدْ رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ضَحِكَ حَتَّى بَدَتْ نَوَاجِذُهُ"[33].
2- واستدلُّوا أيضًا بأن الجزاء من جنس العمل، فكما أنهم بَدَّلوا أعمالَهم السيئة حسناتٍ، يبدِّلها الله في صحف الحفظة حسناتٍ جزاء وفاقًا[34].
القول الثاني: أنهم بدلوا مكانَ عملِ السيئات عملَ الحسنات في الدنيا[35]، فهو تبديل الأعمال القبيحة والإرادات الفاسدة، بأضدادها من الأعمال الصالحة، وهي حسنات.
وعللوا ذلك: بأنه إذا انقلبَتِ السيِّئاتُ حسناتٍ في حق التائب، لكان أحسن حالاً مِن الذي لم يرتكب منها شيئًا، وأكثر حسنات منه؛ لأنه إذا أساء، شارَكَه في حسناته التي فعلها، وامتاز عنه بتلك السيئات التي انقلبت حسنات[36].
واختار هذا القولَ ابنُ جرير - رحمه الله - وقال: وإنما قلنا ذلك أولى بتأويل الآية؛ لأن الأعمال السيئة قد كانت مضتْ على ما كانت عليه من القبح، وغير جائز تحويل عَينٍ قد مضت بصفة، إلى خلاف ما كانت عليه، إلا بتغييرها عما كانت عليه من صفتها في حال أخرى[37].
واستدل هؤلاء على ما ذهبوا إليه بما يلي:
أولاً: من القرآن:
قوله - تعالى -: ï´؟ رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا ï´¾ [آل عمران: 193]، وقوله - تعالى -: {ï´؟ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا ï´¾ [الزمر: 53].
فدلَّ ذلك على أن السيئة لا تنقلب حسنة؛ بل غايتها أن تُمحى وتُكفَّر ويَذهب أثرُها، فإنها لم تكن طاعة، وإنما كانت مكروهة للرب، فكيف تنقلب محبوبة مَرْضِيَّة؟![38].
ثانيًا: استدلوا من السنة:
بحديث ابن عمر - رضي الله عنه - أنه قال له رجل: كيف سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول في النجوى؟ قَالَ سَمِعْتُهُ يَقُولُ: ((يُدْنَى المُؤْمِنُ يَوْمَ القِيَامَةِ مِنْ رَبِّهِ - عَزَّ وَجَلَّ - حَتَّى يَضَعَ عَلَيْهِ كَنَفَهُ، فَيُقَرِّرُهُ بِذُنُوبِهِ، فَيَقُولُ: هَلْ تَعْرِفُ؟ فَيَقُولُ: أَيْ رَبِّ أَعْرِفُ، قَالَ: فَإِنِّي قَدْ سَتَرْتُهَا عَلَيْكَ فِي الدُّنْيَا، وَإِنِّي أَغْفِرُهَا لَكَ اليَوْمَ، فَيُعْطَى صَحِيفَةَ حَسَنَاتِهِ))[39].
فهذا الحديث: الذي تضمن العناية بهذا العبد، إنما فيه ستر ذنوبه عليه في الدنيا، ومغفرتها له يوم القيامة، ولم يقل: وأعطيتك بكل سيئة منها حسنةً، فدل على أن غاية السيئات مغفرتُها، وتجاوُزُ الله عنها[40].
والراجح - والله أعلم - أن التبديل المذكور في الآية على حقيقته، وأنه يكون في الدنيا بتبديل الأعمال السيئة أعمالاً حسنة، وفي الآخرة بتبديل السيئات في صحائف الأعمال حسناتٍ.
وأما ما ذهب إليه الفريق الثاني مِن منعِ ذلك في الآخرة، فإنه لا مانع من ذلك حقيقة، لا مِن الكتاب، ولا من السنة، ولا من العقل؛ وذلك لأن القرآن والسنة دلاَّ على وقوع ذلك، وهو ما وَعَد الله - عز وجل - به، وهو - سبحانه - لا يخلف الميعاد، كما أنه - سبحانه - لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء، فلا يصح لنا أن نقول: أنه يجوز على الله كذا وكذا، ولا يجوز عليه كذا وكذا، وبخاصة فيما أخبر - سبحانه وتعالى - أنه يفعله.
وتعليلهم ذلك: بأنه لو انقلبت السيئات حسنات في حق التائب، لكان أحسن حالاً ممن لم يرتكب منها شيئًا، هذا على فرض وجود مَن لم يرتكب سيئات، وهذا محال، إلا في حق مَن عصمه الله - عز وجل - وأيضًا فإنه على فرض صحة وجود مَن لا سيئات له، فإن ما عمله من الحسنات، أخبر - سبحانه وتعالى - أنه يضاعفها؛ قال - تعالى -: {ï´؟ إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا ï´¾ [النساء: 40]، فكيف يقارن حال مَن ضوعفت حسناتُه بمَن بُدِّل مكانَ كل سيئةٍ حسنةً واحدة؟!
وأما استدلالهم بقوله - تعالى -: ï´؟ ربَّنَا اغْفِرْ... ï´¾ الآية [آل عمران: 193]، وقوله - تعالى -: ï´؟ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ ï´¾ [الزمر: 53]، وحديث ابن عمر[41] - فلا دلالةَ فيه على قولهم؛ لأنه وإن دل على مغفرة الذنوب، فلا دلالة فيه على المنع من تبديل السيئات حسناتٍ يوم القيامة.
3- ومن فضائل التوبة:
أنها سبب لمغفرة الذنوب، وتكفير السيئات؛ قال - تعالى -: ï´؟ وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآَمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى ï´¾ [طه: 82].
المعنى: في هذه الآية فتح الله - عز وجل - لعباده التائبين بابَ الرجاء، فالتوبة معروضة، ولو عمل العبد ما عمل من المعاصي؛ ولهذا قال - تعالى -: {وَإِنِّي لَغَفَّارٌ}، فأتى بصيغة المبالغة؛ أي: كثير المغفرة والرحمة، {لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ} بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، {وَعَمِلَ صَالِحًا} مما ندب إليه الشرع وحسَّنه من أعمال القلب والجوارح وأقوال اللسان، ثم لزم الصراط المستقيم والمنهاج القويم؛ أي: استقام على السنة والجماعة، وثبت على ذلك حتى الممات، فهذا يَقبل الله توبتَه، ويقيل عثرته؛ لأنه أتى بأسباب المغفرة.
وقال - تعالى -: ï´؟ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ... ï´¾ [التحريم: 8].
المعنى: أمر الله - عز وجل - عبادَه بالتوبة من الذنوب إذا تلبَّسوا بها؛ لأن ذلك من إصلاح أنفسهم، ولأنهم قد يذهلون عما فرط منهم، فهداهم إلى السبيل الذي تمحى به سيئاتُهم، وهو التوبة النصوح.
والنصوح إما على وزن "فَعُول"، المعدول به عن فاعل؛ قصدًا للمبالغة، وأصله من خلوص الشيء من الغش والشوائب، يقال: هذا عسل ناصح: إذا خلص من الشمع، فهذه التوبة نصح فيها التائب، فلم يشنها بغش، وإما على وزن فاعل: أي ناصحة خالصة صادقة[42].
وهذه التوبة تتضمن ثلاثة أمور:
الأول: ويتعلق بما يتوب منه، بأن تكون التوبة كاملة، تعُم جميع الذنوب وتستغرقها، بحيث لا تدع ذنبًا إلا تناولتْه، ولا معصيةً إلا دخلتْ في عمومها.
الثاني: ويتعلق بالتائب نفسه، بأن يجمع همَّه وإرادته بالمبادرة بالتوبة، عازمًا على المضي فيها إلى آخر العمر.
الثالث: ويتعلق بمَن يتوب إليه، وذلك بأن يُخلِّص التوبة مما يَقدح فيها، فلا يكون الباعث لها حفظ شيء من أمور دنياه، من جاه، أو مال، أو رئاسة، وإنما يكون ذلك لخوفه من الله، ورغبته فيما وعد به التائبين[43].
فإذا تضمنت التوبة هذه الأمورَ، كان صاحبها داخلاً في وعده - عز وجل - بمحو السيئات، ودخول الجنات التي فيها النعيم المقيم، في ذلك اليوم الذي يكرم الله فيه أولياءه، بما يعطيهم من أنواع الكرامة، ومنها النور المنتشر بين أيديهم وبأيمانهم.
4- ومن فضائل التوبة:
أنها سبب لدخول الجنة؛ قال - تعالى -: ï´؟ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ... ï´¾ إلى قوله: ï´؟ فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا * إِلَّا مَنْ تَابَ وَآَمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ شَيْئًا ï´¾ [مريم: 58 - 60].
المعنى: لما ذَكَر - سبحانه وتعالى - حزبَ السعداء، وهم الأنبياء، ومَن تبعهم بإحسان، ممن قاموا بحدود الدين، فاتبعوا أوامره، وأدَّوا فرائضه، وتركوا نواهيَه - أردف هذا بذِكر مَن خالفهم ممن جاء بعدهم، ووصفهم بوصفين: إضاعة الصلاة، واتِّباع الشهوات، وهذان وصفان جامعان لأصناف الكفر والفسق، فمَن ضيَّع الصلاة فهو لما سواها من الواجبات أضيعُ؛ لأنها عماد الدين وقوامه، وخير أعمال العباد، وإضاعة الصلاة يدخل فيها مَن أخَّر الصلاة عن وقتها، أو ترك فرضًا من فروضها، أو شرطًا من شروطها، أو ركنًا من أركانها، ويدخل تحت إضاعتها أيضًا: مَن تركها بالمرة أو أحدها دخولاً أوليًّا.
والسبب الذي ضيع مِن أجله هؤلاء الصلاةَ: اتباعُهم شهواتِ النفس، ودواعيَ الهوى، فصارت هممهم منصرفةً إلى تحصيلها على أي وجه كان، فقطعهم ذلك وشغلهم عن فرائض الله - عز وجل - فتوعَّدهم - سبحانه - بالوعيد الشديد المضاعف، ولما أخبر - سبحانه وتعالى- عن حالهم وجزائهم، فتح لهم بابَ التوبة، وحَدَاهم إلى غسل الواضح في عالم الوجدان والحس، بتوبة تُنجي من العذاب الأليم، ومَن جمع بين التوبة والإيمان والعمل الصالح، فإنه يكون ممن يدخل الجنة، من غير أن ينقص من عمله شيء.
يتبع