وفي الصحيح عنه - صلَّى الله عليه وسلَّم - أنَّه كان يدْعو في صلاته: ((اللهمَّ اغفر لي خطيئتي وجهلي، وإسرافي في أمْري، وما أنت أعلمُ به مني، اللهمَّ اغفر لي جَدِّي وهَزْلي، وخطئي وعمْدي، وكل ذلك عِندي، اللهمَّ اغفرْ لي ما قدَّمتُ وما أخرتُ، وما أسررتُ وما أعلنت، وما أنت أعلمُ به مني، أنتَ إلهي لا إله إلا أنت))، وفي الحديثِ الآخَر: ((اللهمَّ اغفر لي ذنبي كله؛ دِقَّه وجلَّه، خطأه وعمده، سرَّه وعلانيته، أوَّلَه وآخِره))، فهذا التعميم وهذا الشمول؛ لتأتي التوبة على ما علِمه العبد من ذنوبه وما لم يعلمْه.
واعلمْ أنَّه ممَّا يزيل موجبَ الذنوب المصايب المكفِّرة مِن ألَم وهمّ، وغم وأذًى، في مال أو عِرض أو جَسد، أو غير ذلك، لكن هذا ليس مِن فعل العبد، وليمتثل في هذه الحال لقولِ النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((ما أصاب عبدًا همٌّ ولا حزن، فقال: اللهمَّ إني عبدُك ابنُ عبدك ابن أَمَتك، ناصيتي بيدك، ماضٍ فيَّ حُكمك، عدلٌ فيَّ قضاؤك، أسألُك بكلِّ اسم هو لك، سميتَ به نفْسَك، أو أنزلتَه في كتابك، أو علمتَه أحدًا مِن خلقك، أو استأثرتَ به في عِلم الغيب عندَك، أن تجعلَ القرآن ربيعَ قلْبي، ونُورَ صدري، وجلاءَ حُزني، وذَهاب همِّي وغمِّي، إلا أذهب الله همَّه وغمَّه، وأبدله مكانه فرحًا))، قالوا: يا رسول الله، أفلا نتعلمهن؟، قال: ((بلى، يَنبغي لمَن سمعهنَّ أن يتعلمهن)).
وللعبد فيما قُدِّر عليه مما يكره مشاهِد: فيشهد أنَّ الله هو الذي قدَّره وشاءه، وأنه ما شاء الله كان وما لم يشأْ لم يكن، وأنه ماضٍ فيه حُكمه، عدلٌ فيه قضاؤه، وأنَّ رحمته غالبةٌ لغضبه وانتقامه، وأن يشهد أنَّ الله لم يُقدِّر عليه ذلك المكروه سُدًى ولا قضاه عبثًا، وأنَّ لله فيه حكمةً بالغة، وأن يحمده - سبحانه وتعالى - على ذلك مِن جميع الوجوه، وأن يشهد أنه عبدٌ محض مِن كُلِّ وجه.
وأمَّا قوله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((وخالِق الناس بخُلُق حسَن))، فهذا هو حقُّ الناس، وجِماعه: أن تَصِلَ مَن قطعك بالسلام والإكرام، والدعاء له والاستغفار، والثناء عليه والزيارة له، وتُعطيَ مَن حرَمك من المنفعة والعِلم والمال، وتعفوَ عمَّن ظلَمَك في دمٍ أو مال أو عِرْض، وبعض هذا واجبٌ وبعضه مستحَبٌّ.
واعلمْ أنَّ حُسن الخُلُق قد ذَهب بخير الدنيا والآخِرة؛ فعن أبي هريرة - رضي الله عنه - أنَّ رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - سُئِل عن أكثر ما يُدخِل الناس الجنة، فقال: ((تَقْوى الله وحُسن الخُلُق))، وسُئل عن أكثر ما يُدخِل الناس النار فقال: ((الفَمُ والفَرْج))، وفي الصحيح عن عبدالله بن عمر - رضي الله عنهما - قال: قال رسولُ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((أكملُ المؤمنين إيمانًا أحسنُهم خُلُقًا))، فجعل كمال الإيمان في كمال حُسْن الخُلُق، وقال القاضي عياض: حسن الخُلق مخالقةُ الناس بالجميل والبِشر والتودُّد لهم، والإشفاق والحِلم عنهم، والصبر عليهم في المكارِه، وترْك الكبر والاستطالة عليهم، ومجانبة الغِلظة والغَضب والمؤاخَذة.
ومدار حُسْن الخُلُق مع الحقِّ ومع الخلْق على حرفين ذَكَرهما عبدُالقادر الكيلاني، فقال: "كن مع الحقِّ بلا خلْق، ومع الخلْق بلا نفْس"، فتأمل ما أجلَّ هاتين الكلمتين مع اختصارهما! وما أجمعهما لقواعِد السلوك، ولكلِّ خُلُق جميل! وفساد الخلق إنما ينشأ مِن توسُّط الخَلْق بينك وبيْن الله تعالى، وتوسُّط النفس بينك وبين خَلْقه.
والمقصود أنَّ اسم التقوى يجمَع كلَّ ما أمر الله به مِن واجب ومستحب، وكلَّ ما نهى الله عنه نهيَ تحريم أو نهي تنزيه، سواء كان ذلك باطنًا أو ظاهرًا، وقد قال الشيخ أبو محمد عبدالقادر الكيلاني في كتاب "فتوح الغيب": "لا بدَّ لكلِّ مؤمن في سائرِ أحواله مِن ثلاثة أشياء: أمر يمتثله، ونهي يجتنبه، وقَدَر يرْضَى به".
وهذا كلامٌ جامع شريف، مطابق لقوله تعالى: ï´؟ إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ ï´¾ [يوسف: 90]، ولقوله تعالى: ï´؟ وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا ï´¾ [آل عمران: 120]، فالتقْوى تتضمَّن فعْل المأمور وترْك المحظور، والصبر على المقدور - مرض أو فقر أو خوف أو غيرها من المصايب - والثلاثة ترجِع إلى طاعةِ الله ورسوله.
وينبوع الخير وأصله: إخلاصُ العبد لربه، عبادة واستعانة، كما في قوله تعالى: ï´؟ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ï´¾ [الفاتحة: 5]، فعلى العبد أن يقطَع تعلق قلْبه من المخلوقين انتفاعًا بهم أو عملاً لأجْلهم، ويجعل همَّته ربَّه تعالى، وذلك بملازمة الدعاء له في كلِّ مطلوب مرجو أو مخوف، والعمل له بكلِّ محبوب، وليعلم أنَّ ما يملك مِن أمره مِن ناصيته بيدِ الله، وأنَّ نفْسه بيدِ الله، وأنَّ قَلْبَه بيْن إصبعين مِن أصابع الله يُقلِّبه كيف يشاء، وحياته بيده، وموته بيدِه، وسعادته بيدِه، وشقاوته بيده، وحرَكاته وسكناته، وأقواله وأفعاله بإذنِه ومشيئته، إنْ وكله إلى نفْسه وكَله إلى عجْز وضيْعة وتفريط، وذنب وخطيئة، وإنْ وكله إلى غيرِه وكله إلى مَن لا يملك له ضرًّا ولا نفعًا ولا موتًا ولا حياةً ولا نشورًا، وإن تخلَّى عليه استولَى عليه عدوُّه وجعَلَه له أسيرًا، هذا، وقد أجمع العارفون بالله على أنَّ الخذلان أن يكلك الله إلى نفسِك، ويخلي بينك وبينها، والتوفيق ألاَّ يكلك الله إلى نفسك.
واعلم أنَّ أفضل ما شَغَل العبد به نفسه في الجُملة، وعليه دلَّ حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - في صحيح مسلم: ((سَبَق المفرِّدون)) قالوا: يا رسولَ الله ومن المفرِّدون؟ قال: ((الذَّاكرون الله كثيرًا والذاكرات))، وقال أُبيُّ بن كعب - رضي الله عنه -: "عليكم بالسبيل والسُّنة، فإنَّه ما مِن عبد على السبيل والسُّنة ذَكَر الله فاقشعرَّ جلدُه مِن مخافة الله إلا تحاتَّتْ عنه خطاياه، كما يتحاتُّ الورق اليابس عن الشجرة، وما مِن عبد على السبيل والسُّنة ذَكَر الله خاليًا ففاضتْ عيناه من خشية الله، إلا لم تمسَّه النار أبدًا، وإنَّ اقتصادًا في سبيل وسُنة خيرٌ مِن اجتهاد في خلاف سبيل وسُنة، فاحْرِصوا أن تكون أعمالُكم اقتصادًا واجتهادًا على منهاجِ الأنبياء وسُنتهم".
واعلم أنَّه مَن أُعطي الذِّكر اتصل بالله، ومَن مُنعه عُزِل وأُبعد عنه سبحانه، وهو قوتُ القلوب الذي متَى فارقها صارتِ الأجساد لها قبورًا، وعمارة ديارهم التي إذا تعطَّلتْ عنه صارت بورًا، وهو سلاحٌ ضدَّ قطاع الطريق، وماء لإطفاء الحريق، ودواء لشفاء المريض.
واعلم أنَّه في كلِّ جارحة من الجوارح عبوديةٌ مؤقَّتة، لكن الذِّكر عبودية القلْب واللسان وهي غير مؤقَّتة، فهي في كلِّ حال قيامًا وقعودًا وعلى جنوبهم، وكلما ازداد الذاكِر في ذكْره استغراقًا، ازداد المذكور محبَّة إلى لِقائه واشتياقًا، واللسان الغافل كالعين العمياء، والأُذن الصمَّاء، واليد الشلاَّء.
واعلم أنَّ الذِّكر هو باب الله الأعظم المفتوح بيْنه وبين عبده ما لم يُغلقْه العبد بغفلته، قال الحسنُ البصري - رحمه الله -: "تفقَّدوا الحلاوةَ في ثلاثة أشياء: في الصلاة وفي الذِّكْر وقراءة القرآن، فإنْ وجدتم، وإلاَّ فاعْلموا أنَّ الباب مغلَق"، وقال بعضُ السلف: إذا تمكَّن الذِّكرُ من القلب، فإن دنا منه الشيطان صرَعه كما يصرَع الإنسان إذا دنا منه الشيطان، فيجتمع عليه الشياطين فيقولون: ما لهذا؟ فيقال: قدْ مسَّه الإنسي.
وأقل ذلك أن يُلازم العبدُ الأذكارَ المأثورة، كأذكار الصباح والمساء، وعندَ أخْذ المضجع، وعند الاستيقاظ من المنام، وأدبار الصلوات، والأذكار المقيَّدة عند الأكْل والشرب، واللباس والجماع، ودخول المنزل والمسجد والخلاء والخروج مِن ذلك، وعندَ المطر والرعد والرِّيح، وأذكار الصوم والأعياد، وغيرها كثيرٌ ممَّا هو موجودٌ في الكتب المسمَّاة بعمل اليوم والليلة.
واعلم أنَّ أفضل الذكر: (لا إله إلا الله)، وقد تَعرِض أحوال يكون بقية الذِّكر مثل (سبحان الله، والحمد لله، والله أكبر، ولا حول ولا قُوَّةَ إلا بالله) أفضل منه.
واعلم أنَّ الاشتغال بالعِلم النافع بعدَ أداء الفرائض هو أيضًا من أفضل الذِّكْر، ثم إنَّ العلم علمان: علم القلب وهو النافِع، وعلم اللسان وهو حُجَّة الله على عباده، والأوَّل أصلُ الثاني، والعِلم ما قام عليه الدليلُ والنافع منه ما جاء به الرسولُ - صلَّى الله عليه وسلَّم - وهو النقل المصدَّق والبحْث المحقَّق، وما سوى ذلك فخزف مزوَّق، وإلا فباطِل مطلق.
وجماع الخير أن يَستعين العبدُ بالله - سبحانه - في تلقِّي العلم الموروث عن النبيِّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - فإنَّه هو الذي يستحقُّ أن يسمَّى علمًا، وما سواه إما أن يكون علمًا فلا يكون نافعًا، وإما ألا يكون علمًا وإن سُمِّي به.
وليصرف العبد همَّتَه إلى فَهم مقاصد الرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - في أمره ونهيه وسائرِ كلامه، فإذا اطمأنَّ قلبه أنَّ هذا هو مرادُ الرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - فلا يعدل عنه فيما بيْنه وبيْن الله تعالى، ولا مع الناس إذا أمْكَنه ذلك، وليجتهد وليتحرَّ الاعتصامَ بأصل مأثور عن النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - في كلِّ ما يَعرِض له، وفي كل بابٍ مِن أبواب العلم، فإذا استعصَى عليه أمرٌ فليتذكَّر قوله تعالى فيما رواه عنه رسوله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((يا عبادي، كلُّكم ضالٌّ إلا من هديتُه، فاستهدوني أهدِكم))، وليدع بما رواه مسلمٌ عن عائشة - رضي الله عنها - أنَّ رسولَ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - كان يقول إذا قام يُصلِّي مِن الليل: ((اللهمَّ ربَّ جبريل وميكائيل وإسرافيل، فاطر السماوات والأرض، عالِمَ الغيب والشهادة، أنت تحكُم بين عبادِك فيما كانوا فيه يختلفون، اهْدِني لما اختُلِف فيه من الحق بإذنك، إنَّك تَهدي مَن تشاء إلى صراط مستقيم)).
والهُدى إلى الصِّراط المستقيم يتناول التعريفَ بما جاء به الرسولُ - صلَّى الله عليه وسلَّم - مفصَّلاً، ويتناول التعريفَ بما يدخُل في أوامره الكليات، ويَتناول إلهام العمل بعِلْمه، فإن مجرَّد العِلم بالحقِّ لا يحصل به الاهتداء؛ ولهذا قال - تعالى - لنبيه - صلَّى الله عليه وسلَّم - بعدَ صُلح الحديبية:ï´؟ إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا * لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا ï´¾ [الفتح: 1 - 2]، وقال في حقِّ موسى وهارون - عليهما الصلاة والسلام -: ï´؟ وَآتَيْنَاهُمَا الْكِتَابَ الْمُسْتَبِينَ ï´¾ [الصافات: 117].
والمسلمون قدْ تنازعوا فيما شاء الله مِن الأمور الخبريَّة والعِلمية والاعتقاديَّة والعمليَّة، مع أنهم كلهم متَّفقون أنَّ محمدًا حق، والقرآن حق، فلو حصَل لكل منهم الهُدى إلى الصراط المستقيم فيما اختلفوا فيه، لم يختلفوا، ثم الذين عَلِموا ما أمر الله به أكثرُهم يعصونه ولا يحتذون حذوَ نبيه - صلَّى الله عليه وسلَّم - ولو هُدوا إلى الصراط المستقيم في تلك الأعمال لفَعَلوا ما أُمروا به، وتَرَكوا ما نُهُوا عنه؛ ولهذا كان افتقار العبد ودعاؤه في كلِّ صلاة بقوله: ï´؟ اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ ï´¾ [الفاتحة: 6] مِن أعظمِ الأسباب التي يَصير بها العبدُ مِن أولياء الله المتَّقين؛ قال سهلُ بنُ عبدالله التُّستريُّ: ليس بيْن العبد وبيْن ربِّه طريقٌ أقرَب إليه مِن الافتقار، وما حصَل فيه الهُدى في الماضي فهو محتاجٌ إلى حصول الهُدى فيه في المستقبل؛ وهذا حقيقةُ قول مَن يقول: ثبِّتْنا واهدِنا لزوم الصراط.
وكذلك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكَر على ما تُوجِبه الشريعة، وهو الذي أنزل الله به كتبَه، وأرْسل به رُسلَه؛ فإنَّ رسالة الله: إما إخبار وإما إنشاء؛ فالإخبار عن نفْسه وعن خَلْقه: مثل التوحيد والقصص الذي يندرج فيه الوعد والوعيد؛ والإنشاء: الأمر والنهي والإباحَة.
والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يتلخَّص في: تحصيل المصالِح وتكثيرها، ودَرْء المفاسِد وتقليلها، ولما كان واجبًا من واجبات الدِّين، بل مِن أعظمها، فلا بدَّ أن يكون صالحًا، ولا يكون كذلك إن لم يكن بعِلم وفِقه، وكما قال عمر بن عبدالعزيز: "مَن عبد الله بغير عِلم، كان ما يُفسِد أكثر مما يصلح"؛ لأنَّ القصد والعمل إن لم يكن بعِلم، كان جهلاً وضلالاً واتِّباعًا للهوى، فلا بدَّ مِن العلم بالمعروف والمنكر والتمييز بينهما، وهذا أمرٌ عزيز في يومِنا هذا، فهو مفقودٌ حتى عندَ كثير من المتديِّنين، فضلاً عن غيرهم مِن الغافلين.
وقدْ قال الله - تعالى - في صِفة نبيِّنا - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ï´؟ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ ï´¾ [الأعراف: 157]، وكذلك وصَف الأُمَّة بما وصَف بها نبيَّها حيث قال: ï´؟ كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ ï´¾ [آل عمران: 110]؛ ولهذا قال أبو هريرة: "كنتم خيرَ الناس للناس تأتون بهم في الأقيادِ والسلاسل حتى تُدخلوهم الجنة"، فبيَّن أنَّ هذه الأمة خيرُ الأمم للناس، وأنفعُهم لهم، وأعظمُهم إحسانًا لهم.
واعلم أنَّه ما ندِم مَن استخار الله تعالى، وليكثرْ مِن ذلك ومِن الدعاء، فقدْ قال أمير المؤمنين عمر بن الخطَّاب - رضي الله عنه -: "إني لا أحمِل همَّ الإجابة، ولكن همَّ الدعاء، فإذا ألهمت الدعاءَ فإنَّ الإجابة معه".
ولفظ الدعاء والدعوة في القُرآن يتناول معنييْن: دعاء العبادة ودعاء المسألة؛ قال الله تعالى: ï´؟ فَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ ï´¾ [الشعراء: 213]، وقال - تعالى -: ï´؟ وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ ï´¾ [المؤمنون: 117]، وقال - تعالى -: ï´؟ وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ ï´¾ [الفرقان: 68]، وقال - تعالى -: ï´؟ وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ ï´¾ [البقرة: 186].
ولفظ الصلاة في اللُّغة أصلُه الدعاء، وسُمِّيت الصلاة دعاءً لتضمنها معنَى الدعاء، وهو العبادة والمسألة، وكلُّ سائل راغبٌ راهب، فهو عابدٌ للمسؤول، وكلُّ عابدٌ له فهو أيضًا راغبٌ راهب؛ يرجو رحمتَه ويخاف عذابَه، والسائل الذي يطلب جلْبَ المنفعة، ودفْع المضرَّة بصِيغ السؤال والطلب، والعابِد مَن يطلب ذلك بامتثال الأمر، وإنْ لم يكن في ذلك صِيغ سؤال.
وقال - تعالى -: ï´؟ وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ï´¾ [يونس: 10]، وفي الحديث: ((أفضلُ الذِّكر لا إله إلا الله، وأفضلُ الدعاء الحمدُ لله))، وقال النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((دعوةُ أخي ذي النون: ï´؟ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ ï´¾ [الأنبياء: 87]، ما دعا بها مكروبٌ إلا فرَّج الله بها كربتَه))، فقد سمَّاها النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - دعوة؛ لأنَّها تتضمن نوعي الدعاء؛ فقوله: ï´؟ لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنْتَ ï´¾ اعترافٌ بتوحيد الإلهيَّة؛ وهذا التوحيد يتضمَّن أحد نوعي الدعاء، فإنَّ الإله هو المستحق لأنْ يُدعى دعاءَ عبادة ودعاء مسألة، وهو الله لا إله إلا هو.
وأما قوله: ï´؟ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ ï´¾ فهو اعترافٌ بالذنب، وهو يتضمَّن طلب المغفرة؛ فإنَّ الطالب السائل تارةً يسأل بصيغة الطلَب، وتارةً يسأل بصيغة الخبر، وتارةً بوصف حاله، أو بوصْف حال المسؤول، أو بهما، كما قال نوح - عليه السلام -: ï´؟ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ ï´¾ [هود: 47].
والمقصود أنَّ نوْعي الدعاء؛ دعاء العِبادة ودعاء المسألة، لا يصلُح إلا لله، فمَن جعَل مع الله إلهًا آخر قعد مذمومًا مخذولاً، وبحسب تحقيق التوحيد تكمل طاعة العبدِ لله - عزَّ وجلَّ.
ثم إنَّ أفضل المكاسِب التوكُّل على الله والثِّقة بكفايته وحُسْن الظن به، فإنَّه مَن كان توكُّله على الله ودعاؤه له هو في حصولِ مباحات، فهو من عوام المسلمين، وإنْ كان في حصول مستحبَّات وواجبات فهو مِن خواصِّهم، كما أنَّ مَن دعاه وتوكَّل عليه في حصول محرَّمات فهو ظالِمٌ لنفسه، ومَن أعرض عن التوكُّل على الله فهو عاصٍ لله ورسوله، بل خارج عن حقيقةِ الإيمان، قال - تعالى -: ï´؟ وَقَالَ مُوسَى يَا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ ï´¾ [يونس: 84]، وقال - تعالى -: ï´؟ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ ï´¾ [آل عمران: 122]، وفي الترمذيِّ أنَّ النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - قال: ((ليسأل أحدُكم ربه حاجتَه كلها، حتى شِسْع نعله إذا انقطع، فإنَّه إن لم ييسره له لم يتيسر))، وعن أبي ذر - رضي الله عنه - أنَّ النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - قال: ((يقول الله تعالى: يا عبادي، إني حرمتُ الظلم على نفْسي، وجعلتُه بينكم محرَّمًا فلا تظالموا، يا عبادي، كلُّكم ضالٌّ إلا من هديتُه، فاستهدوني أهدِكم، يا عبادي، كلُّكم جائعٌ إلا من أطعمته، فاستطعموني أطعمكم، يا عبادي، كلُّكم عار إلا مَن كسوته، فاستكسوني أكسُكم، يا عبادي، إنَّكم تذنبون بالليل والنهار وأنا أغفِر الذنوب ولا أُبالي، فاستغفروني أغفرْ لكم، يا عبادي، إنكم لن تبلغوا ضُرِّي فتضرُّوني، ولن تبلغوا نفْعي فتنفعوني، يا عبادي، لو أنَّ أوَّلكم وآخِركم وإنسكم وجنَّكم، كانوا على أتْقى قلب رجلٍ واحد منكم، ما زاد ذلك في ملكي شيئًا، يا عبادي، لو أنَّ أوَّلكم وآخِرَكم وإنسَكم وجنَّكم، كانوا على أفجرِ قلب رجل واحد منكم، ما نَقَص ذلك من ملكي شيئًا، يا عبادي، لو أنَّ أوَّلكم وآخركم وإنسكم وجنكم اجتمعوا في صعيدٍ واحد فسألوني فأعطيتُ كلَّ واحد منهم مسألته ما نقص ذلك من ملكي شيئًا إلا كما يَنقُص المخيط إذا غُمس في البحر، يا عبادي، إنَّما هي أعمالُكم أُحصيها لكم ثم أُوفِّيكم إيَّاها، فمَن وجد خيرًا فليحمدِ الله، ومَن وجد غيرَ ذلك فلا يلومنَّ إلا نفسه)).
وقال - تعالى - في كتابه: ï´؟ وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ ï´¾ [النساء: 32]، وقال الخليل - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ï´؟ فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ ï´¾ [العنكبوت: 17]، وهذا أمر، والأمر يقتضي الإيجاب، فالاستعانةُ بالله واللجَأ إليه في أمر الرزق وغيرِه أصلٌ عظيم.
ثم إنَّه يَنبغي للعبد أن يكونَ المال عندَه بمنزلة الخَلاء الذي يحتاج إليه دون أن يكونَ له في القلْب مكانةٌ، فلا يأخذ العبدُ المال بإشرافٍ وهَلَع، ولكن بسخاوة نفْس ليبارك له فيه.
وفي الحديث المرفوع: ((مَن أصْبَح والدنيا أكبرُ همِّه، شتَّت الله شملَه وفرَّق عليه ضيعتَه، ولم يأتِه من الدنيا إلا ما كُتِب له، ومَن أصبح والآخِرة أكبر همِّه، جمع الله عليه شملَه وجعَل غِناه في قلْبه وأتتْه الدنيا وهي راغِمة))، وقال بعض السَّلَف: أنت محتاجٌ إلى الدنيا وأنت إلى نصيبِك مِن الآخرة أحوج، فإنْ بدأت بنصيبك من الآخرة مرَّ على نصيبك مِن الدنيا فانتظمه انتظامًا، قال - تعالى -: ï´؟ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ * مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ * إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ ï´¾ [الذاريات: 56 - 58].
وقد جمَع النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - في قوله: ((فاتَّقوا الله وأجْمِلوا في الطلب))؛ (ابن ماجه في باب الاقتصاد في طلب المعيشة) بيْن مصالح الدنيا والآخِرة، ونعيمها ولذَّاتها إنَّما يُنال بتقوى الله وراحة القَلْب والبدَن وترْك الاهتمام والحِرْص الشديد، والتَّعب والعناء والكدِّ والشقاء في طلَب الدُّنيا إنَّما يُنال بالإسراف في الطَّلَب.
وممَّا يُبيِّن أنَّ أصل الدِّين في الحقيقة هو الأُمور الباطنة مِن العلوم والأعمال قول النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((الحلال بيِّن والحرام بيِّن، وبيْن ذلك أمور مشتبهات لا يعلمهنَّ كثيرٌ مِن الناس، فمَن اتَّقى الشبهات فقدِ استبرأ لعِرْضه ودِينه ومَن وقَع في الشبهات وقَع في الحرام، كالراعي يرْعَى حول الحِمى يوشك أن يقَع فيه، ألاَ وإنَّ لكل ملِك حِمًى، ألا وإن حِمَى الله محارمه، ألاَ وإنَّ في الجسد مضغةً إذا صلَحَتْ صلَح لها سائرُ الجسد، وإذا فسدتْ فسد لها سائرُ الجسد، ألا وهي القلب))، وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: "القلْب ملِك، والأعضاء جنودُه، فإذا طابَ الملِك طابتْ جنوده، وإذا خبُث الملِك خبثتْ جنودُه".
والقلوب ثلاثة: الأوَّل حيٌّ مُخبِت ليِّن واع، والثاني يابِس ميِّت، والثالث مريضٌ معلول، فإمَّا إلى السلامة وإمَّا إلى الموت، وقدْ قال - تعالى -: جامعًا بين هذه القلوب: ï´؟ وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ * لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ * وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ï´¾ [الحج: 52 - 54].
فالقلْبُ الصحيح السليم ليس بيْنه وبيْن قَبول الحق ومحبَّته وإيثاره سوى إدراكِه، فهو صحيحُ الإدراك للحقِّ، تام الانقياد والقَبول له، وهذا هو الحقُّ الذي خُلِق مِن أجْله القلْب؛ إذ يراد له أن يكون صحيحًا سليمًا لا آفةَ به، فيأتي منه ما هُيِّئ له وخُلِق لأجله مِن عبادة الله وَحْده لا شريكَ له، متبعًا في ذلك سُنَّة نبيه - صلَّى الله عليه وسلَّم - ï´؟ يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ ï´¾ [الشعراء: 88 - 89]، وإلا كان خروجُه وحيْدَته عن الاستقامة إما ليبسه وقسوته وموته، فيكون كاليدِ المشلولة، واللِّسان الأخْرس، والعين التي لا تُبصر شيئًا، وإما لمرضٍ وآفة فيه تمنعه مِن كمال هذه الأعمال، ووقوعها على السَّداد والصواب، كالرِّجل العرجاء، والعين التي فيها عشًى، قد تُبصر شيئًا مبهمًا فلا تستطيع تحديدَه وتمييزَه.
فالقلْب يمرَض كما يمرَض البدنُ وشفاؤه في التوبة والحمية، ويصدَأ كما تصدأ المِرْآة وجلاؤه بالذِّكْر، ويَعْرَى كما يعرى الجِسم وزينته التقوى، ويجوع ويظمأ كما يجوع البدنُ، وطعامُه وشرابه المعرفةُ والمحبَّة والتوكُّل والإنابة والخِدمة، والله أعلم.
اللهمَّ أنت ربي لا إله إلا أنت، خلقْتَني وأنا عبدُك، وأنا على عهدِكَ ووعدك ما استطعتُ، أعوذ بك مِن شرِّ ما صنعتُ، أبوء لك بنعمتكَ عليَّ، وأبوء بذَنْبي، فاغفرْ لي، فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت، اللهمَّ اغفرْ لي ذنبي كلَّه؛ دِقَّه وجلَّه، خطأَه وعمدَه، سرَّه وعلانيته، أوَّله وآخِره، لا إله إلا أنت.
والحمد لله ربِّ العالمين، وصلِّ اللهمَّ وسلِّم على نبيِّنا الكريم، وعلى آله وصحْبه وتابعيهم إلى يوم الدِّين.