تعريف السنة بين المحدثين والأصوليين والفقهاء
د. أيمن محمود مهدي
أولًا: تعريفها في اللغة: هي الطريقة المتَّبعة، والسيرة المستمرَّة، سواء كانت حسنة أم سيئة[1]، وقد استُخْدِمَت بهذا المعنى في القرآن والسُّنة، قال تعالى:﴿ سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنَا وَلَا تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلًا ﴾ [الإسراء: 77].
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((مَن سنَّ في الإسلام سُنةً حسنة، فله أجرها وأجر مَن عمِل بها بعده مِن غير أن ينقص من أجورهم شيء، ومَن سنَّ في الإسلام سُنةً سيِّئة، كان عليه وزرها ووِزْر مَن عمل بها بعده من غير أن ينقص من أوزارهم شيء))[2].
فإذا أُطْلِقت كلمة (السُّنة) مفردةً ومعرَّفةً بالألف واللام في لغةِ الصحابة والسلف، فالمراد بها: سُنة النبي صلى الله عليه وسلم، وهي: الطريقة التي كان النبي صلى الله عليه وسلم يتحرَّاها في تنفيذ ما بعثه الله عز وجل به من الهُدى ودين الحق.
فالسُّنة هي الطريقة والعادة المتَّبعة، والطريقة المبتدَأة، حسنة كانت أو سيئة، ولكن علماء اللغة اتَّفقوا على أن كلمة (السُّنة) إذا أُطلقت انصرفت إلى الطريقة أو السيرة الحسنة فقط، ولا تستعمل في السيئة إلا مُقَيَّدة[3].
ثانيًا: تعريفها في الاصطلاح:
اختلف العلماء في تعريف السُّنة على حسب اختلاف أغراضهم واختصاصاتهم، فلكل طائفة من العلماء غرضٌ خاص مِن بحثهم.
فغرض المحدِّثين: البحث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم القدوة، الذي أمر الله عز وجل بالاقتداءِ به في كل شيء؛ ولذلك عُنُوا بنقل كل ما نُسب إلى النبي صلى الله عليه وسلم من أقوال وأفعال، وسيرة وشمائل، سواء أثْبَت المنقولُ حكمًا شرعيًّا أم لا، مع بيان درجته من حيث القبول والرد.
وغرض الأصوليين: البحث عن المصادر الشرعية التي تُؤْخَذ منها الأحكام الفقهية من قرآن وسنة وإجماع وقياس؛ ولذلك اعتَنَوا بما يُثْبِت الأحكام الشرعية من قولٍ وفعلٍ وتقرير فقط.
وغرض علماء الفقه: البحث عن حكم الشرع على أفعال العباد مِن فرض وواجب ومندوب، وحرام ومكروه، ومباح.
وغرض علماء الوعظ: الاعتناء بأوامر الشرع ونواهيه، فأوامره سنة، ونواهيه بدعة.
وإذا ورد لفظ (السُّنة) مطلقًا في كلام النبي صلى الله عليه وسلم أو الصحابة والتابعين رضي الله عنهم، فالمراد به: الطريقة المشروعة المتبعة في الدين، والمنهج النبوي الحنيف[4].
السُّنة في اصطلاح المحدِّثين:
عرَّف المحدِّثون السُّنة بأنها: أقوال النبي صلى الله عليه وسلم وأفعاله وتقريراته وصفاته الخِلْقِية والخُلُقية، وسائر أخباره، سواءٌ أكان ذلك قبل البعثة أم بعدها.
فالسُّنة مرادِفة للحديث المرفوع، ولا تشمل الموقوف ولا المقطوع، واستدلُّوا لذلك بأن النبي صلى الله عليه وسلم سمَّى ما جاء على لسانه غير القرآن سُنةً، فقال: ((يا أيها الناس، إني قد تركت فيكم ما إن اعتصمتم به فلن تضلوا أبدًا: كتاب الله، وسُنتي))[5].
وعلى هذا القول يُحمل تسمية كثير من المحدِّثين لكتبهم الخاصة بالحديث المرفوع - باسم السنن؛ مثل: سنن أبي داود، وسنن الترمذي، وسنن النَّسائي، وسنن ابن ماجه، وسنن الدارقطني، وغيرها.
وقال بعض العلماء: السُّنة هي أقوال النبي صلى الله عليه وسلم وأفعاله وتقريراته وصفاته، وسائر أخباره، قبل البعثة أو بعدها، وكذلك أقوال الصحابة وأفعالهم، واستدلُّوا على ذلك: بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((عليكم بسُنتي، وسُنة الخلفاء الراشدين المهديين، عَضُّوا عليها بالنواجذ))[6].
وقال بعض العلماء: السُّنة هي ما كان عليه العمل في الصدر الأول للإسلام، وعلى هذا يُحمل قول عبدالرحمن بن مهدي: لم أرَ أحدًا قط أعلم بالسُّنة ولا بالحديث الذي يدخل في السنة من حماد بن زيد.
وقوله عندما سُئِل عن سفيان الثوري والأوزاعي ومالك، فقال: سفيان الثوري إمامٌ في الحديث وليس بإمامٍ في السنة، والأوزاعي إمامٌ في السنة وليس بإمامٍ في الحديث، ومالك إمامٌ فيهما[7].
وأرى أن هذا القول يتطابق مع القول الذي يليه.
وهو أن السُّنة هي أقوال النبي صلى الله عليه وسلم وأفعاله وتقريراته وصفاته وسائر أخباره قبل البعثة وبعدها، وكذلك أقوال الصحابة والتابعين وأفعالهم، وهذا قول جمهور المحدِّثين، وهي عندهم مرادفة للحديث؛ ولذلك سمَّى الحافظ البيهقي كتابه "السنن الكبرى"، مع أنه ضمنه فتاوى الصحابة والتابعين وأقوالهم، واستدلُّوا لذلك بأن الصحابة رضوان الله عليهمخالَطوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وشاهدوا نزول الوحي، ثم خالط التابعون الصحابةَ وجالسوهم، وسمِعوا منهم، مع حبهم الشديد للسنة، وحرصِهم التامِّ على الاقتداء بالرسول صلى الله عليه وسلموأصحابه، مع ما كانوا عليه من فقهٍ وعلم وذكاء؛ ولذلك دخلت أقوالهم وأفعالهم في مفهوم السنة[8]، وهذا هو أرجح الأقوال وأقواها، وهو ما جرى عليه العمل عند المحدِّثين[9].
السنة في اصطلاح الأصوليين:
عرَّف علماء أصول الفقه السُّنة بأنها: أقوال النبي صلى الله عليه وسلم، وأفعاله، وتقريراته، التي يُسْتدَلُّ بها على الأحكام الشرعية[10]، فهم يبحثون عن السُّنة بصفتها مصدرًا للتشريع، وتالية للقرآن الكريم، وهذه الثلاثة هي التي تُثبت الأحكام وتقرِّرها، فهي تدل على طريقته في فهم دين الله عز وجل والعمل به، أما أقواله وأفعاله وتقريراته التي تُعَدُّ من خصائصه صلى الله عليه وسلم، فليست داخلةً في مفهوم السنة عند الأصوليين، وكذلك صفاته؛ لأنها لا تُفِيدُ حكمًا شرعيًّا يتعبَّدُ الناس به.
السنة في اصطلاح الفقهاء:
السنة عند الفقهاء هي: ما ثبَت طلبه بدليلٍ شرعي، من غير افتراض ولا وجوب؛ مثل: تقديم اليمنى على اليسرى في الطهارة، ومثل الركعتينقبل الظهر[11]، فهي بمعنى المندوب والمستحبِّ، فيثاب المسلم على فعلها، ولا يعاقب على تركها، فهي أحد الأحكام الشرعية الخمسة عند الفقهاء.
السنة عند علماء الوعظ والإرشاد:
علماء الوعظ يريدون بالسنة ما يقابل البدعة، فيقال عندهم: فلانٌ على سُنة، إذا عمِل بما يوافق الشرع، وفلانٌ على بدعة، إذا عمِل على خلاف ذلك.
قال ابن مسعود رضي الله عنه: الاقتصاد في السنة خيرٌ من الاجتهاد في البدعة.
وفي بعض الآثار: ما أحدث قومٌ بدعة إلا أضاعوا مثلها من السُّنة.
ولذلك اشتهر على الألسنة: طلاق السُّنة؛ لموافقته للسنة، وطلاق البدعة؛ لمخالفته لها.
شرح تعريف السنة عند المحدثين:
السنة هي: أقوال النبي صلى الله عليه وسلم وأفعاله وتقريراته وصفاته، وسائر أخباره قبل البعثة وبعدها.
والمقصود بأقواله: كلُّ ما تلفَّظ به رسول الله صلى الله عليه وسلم في مختلف الظروف والمناسبات، ويطلِق عليه العلماء السنةَ القولية، ويُجمع فيُقال: سنن الأقوال، وهي تمثِّل جمهرة السُّنة، وعليها مدار التوجيه والتشريع، وفيها يتجلَّى البيان النبوي، وتتمثَّل البلاغة المحمدية بأجلى صورها.
ومثاله: قول النبي صلى الله عليه وسلم:((مَن سأل الله الشهادةَ بصدق، بلَّغه الله منازل الشهداء وإن مات على فراشه))[12].
والأقوال النبوية الصحيحة تمثِّلُ ذروةَ البيان البشري والبلاغة الإنسانية، مبنًى ومعنى، مضمونًا وشكلًا، فكرةً وأسلوبًا، فقد حوت من جوامع العلم، وجواهر الحِكَم، وحقائق المعرفة، وروائع التشريع، وبدائع التوجيه، وغرائب الأمثال، ونوادر التشبيه - ما لم يَحْوِه كلام بليغ ولا حكيم، مع سهولةٍ فائقة، وعذوبةٍ رائعة، وحيويةٍ بالغة، جعَلَت في الكلمات روحًا يسري كما تسري العصارة في الأغصان الحية، وهي أجدر أن توصف بأنها تنزيلٌ من التنزيل، وقبسٌ من نور الذكر الحكيم، وهذا ما نوَّه به كبار الأدباء والبلغاء في مختلف العصور[13].
والمقصود بأفعال النبي صلى الله عليه وسلم: سلوكُه وتطبيقه العملي للوحي المنزَّل عليه.
فقد نُقِل عن النبي صلى الله عليه وسلم كلُّ تفاصيل حياته البيتية وعلاقاته الزوجية، وإذا كان لبعض العظماء جوانب مستورة في حياتهم الخاصة بما فيها من هَنَاتٍ أو ثغرات لا يعرفها إلا أصفياؤهم، ولا يُحِبُّون أن تُحْكَى عنهم - فإن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه حكوا عنه كلَّ تفاصيل نومِه ويقظته، وخلوته وجلوته، ومدخله ومخرجه، ومأكله ومشربه، وملبسه ومركبه، وضحكه وبكائه، وسفره وحضره، وسِلْمِه وحربه... إلخ؛ لأن حياة النبي صلى الله عليه وسلم كلها موضعُ اقتداءٍ، وهَدْيه في ذلك خير الهَدْي وأكمله، ويلحق بفعل النبي صلى الله عليه وسلم تركُه؛ لأن ما ترَكه النبي صلى الله عليه وسلم مع قيام الدواعي على فعله، وانتفاء الموانع منه، كان من السنة تركهُ؛ وذلك مثل تركه صلاة العيد في المسجد؛ ولذلك حرَص الصحابةُ رضوان الله عليهمعلى نقل تركِ النبي صلى الله عليه وسلم للفعل إذا ظهر قصده إليه، كما حرَصوا على نقل فعله.
ومثاله:
1- ما رواه جابر بن عبدالله رضي الله عنهما قال: شهِدتُ مع رسول الله صلى الله عليه وسلم الصلاة يوم العيد، فبدأ بالصلاة قبل الخطبة بغير أذانٍ ولا إقامة...؛ الحديث[14].
2- ما رواه المُغيرة بن شُعْبة رضي الله عنه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أنه خرج لحاجته، فاتَّبعه المغيرة بإداوةٍ فيها ماء، فصب عليه حين فرغ من حاجته، فتوضأ ومسح على الخفَّينِ[15].
والمقصود بتقريرات النبي صلى الله عليه وسلم: كلُّ ما صدر عن بعض الصحابة رضوان الله عليهممن أقوال أو أفعال، وأقرَّهم النبي صلى الله عليه وسلم عليها بسكوته وعدم إنكاره، أو بموافقته وإظهار استحسانه وتأييده، فيُعْتَبر ما صدر عنهم بهذا الإقرار والموافقةِ عليه صادرًا عن الرسول صلى الله عليه وسلم ذاته؛ لأنه صلى الله عليه وسلم لا يُقِرُّ باطلًا، ولا يسكت على منكر، فما أقرَّه دلَّ على أنه لا حرج فيه[16].
وقد يكون إقرارُ النبي صلى الله عليه وسلم بمجرد السكوت فقط، وقد يكون بشيء أكثر من السكوت؛ كالتبسُّم، وإظهار البِشْرِ، والرضا، ونحو ذلك.
ومثاله: ما رواه عمرو بن العاص رضي الله عنهقال: احتلمتُ في ليلةٍ باردةٍ في غزوة ذات السلاسل، فأشفقتُ إنِ اغتسلتُ أن أَهلِكَ، فتيمَّمتُ، ثم صلَّيتُ بأصحابي الصبح، فذكروا ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم، فقال: ((يا عمرو، صليتَ بأصحابك وأنت جُنُبٌ؟))، فأخبرتُه بالذي منعني من الاغتسال، وقلتُ: إني سمعتُ الله عز وجل يقول:﴿ وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا ﴾ [النساء: 29]، فضحِك رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يقل شيئًا[17].
وقد يكون إقرار النبي صلى الله عليه وسلم بأكثر من ذلك.
ومثاله: ما روَتْه السيدة عائشة رضي الله عنها قالت: لقد رأيتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يومًا على باب حُجرتي والحبشة يلعبون في المسجد، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يسترني بردائه أنظر إلى لَعِبهم[18].
فالحبشة يلعبون في المسجد بالسلاح تمرينًا على الحرب، واستعدادًا للقتال،فلا يُنْكِر عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيصير ذلك مباحًا، ولا يُعَدُّ مخالفًا للسنة.
والمقصود بصفاته الخِلقية - بكسر الخاء -: ما يتعلق بذاته وتكوينه.
ومثاله:حديث البراء بن عازب رضي الله عنهماقال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أحسن الناس وجهًا، وأحسنهم خَلْقًا، ليس بالطويل البائن، ولا بالقصير[19].
يتبع