• الفائدة العاشرة: الحديث دليل على قاعدة [سد الذرائع]، ووجهه أن الرجل الآخر حين سأل النبي صلى الله عليه وسلم أن يجعله منهم، قال النبي صلى الله عليه وسلم "سَبَقَكَ بِهَا عُكَّاشَةُ " واختلف العلماء في سبب قول النبي صلى الله عليه وسلم له ذلك:
فقيل: لأنه كان منافقاً، وفي هذا نظر من وجهين:
الأول: أن الأصل في الصحابة عدم النفاق، فلا يثبت ما يخالف ذلك إلا بنقل صحيح.
الثاني: أنه قلّ أن يصدر مثل هذا الطلب إلا عن قصد صحيح وتصديق بالرسول صلى الله عليه وسلم فلا يصدر من منافق.
وقيل: إن النبي صلى الله عليه وسلم قال ذلك سداً للذريعة لئلا يقوم من ليس من أهلها فيطلبها ويتسلسل الأمر وهذا هو الأقرب واختاره القرطبي رحمه الله، واختاره شيخنا ابن عثيمين كما تقدم. [انظر المفهم (1/ 469)].
• الفائدة الحادية عشر: حديث سهل بن سعد فيه دلالة على سعة أبواب الجنة، ووجه ذلك أنه يدخل منها سبعون أو سبعمائة ألف صفاً واحداً لا يدخل أولهم حتى يدخل آخرهم.
قال النووي رحمه الله:" وهذا تصريح بعظم سعة باب الجنة" [شرح مسلم (3/ 87)].
وفيه حسن وجوههم إذا أنهم على صورة القمر ليلة البدر وان أهل الجنة يختلف جمالهم وبهاؤهم كما تختلف درجاتهم- نسأل الله تعالى من واسع فضله وكرمه-.
• الفائدة الثانية عشر: في ذكر السبعين ألفاً يدخلون الجنة بلا حساب ولا عذاب وصفاتهم عدة فوائد ومسائل وهي كما يلي:
♦ قوله صلى الله عليه وسلم:" وَمَعَهُمْ سَبْعُونَ أَلْفاً يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ بِغَيْرِ حِسَابٍ وَلاَ عَذَابٍ"
♦ فيه إثبات الجنة، والحساب، والعذاب
♦ فيه فضل الله تعالى الواسع بإدخال السبعين ألفاً الجنة بلا حساب، ولا عذاب، وجاء في حديث سهل بن سعد رضي الله عنه في الباب قوله صلى الله عليه وسلم" ليدخلن الجنة من أمتي سَبْعُونَ أَلْفاً أو سبعمائة ألف" والشك هنا من الراوي أبي حازم، لكنه جاء في مسند الإمام أحمد و سنن الترمذي وحسنه وسنن ابن ماجه حديث أبي أمامة رضي الله عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:" وعدني ربي أن يدخل الجنة من أمتي سبعين ألفا لا حساب عليهم ولا عذاب مع كل ألف سبعون ألفاً وثلاث حثيات من حثياته" وفي مسند الإمام أحمد عن أبي هريرة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" وسألت ربي عزوجل فوعدني أن يدخل الجنة من أمتي سبعين ألفاً على صورة القمر ليلة البدرن فاستزدت فزادني مع كل ألف سبعين ألفاً" قال ابن حجر رحمه الله:" سنده جيد" [الفتح (11/ 410)].
♦ قوله صلى الله عليه وسلم:" هُمُ الَّذِينَ لاَ يَرْقُونَ": أي لا يقرأون على غيرهم بالرقية
تقدم أنها رواية شاذة انفرد بها مسلم عن البخاري، وذلك لما يلي:
1- أن الرقية هدي النبي صلى الله عليه وسلم، فقد كان يرقي كما في الصحيحين من حديث عائشة، ورقاه جبريل كما في حديث عائشة عند مسلم ورقته عائشة رضي الله عنها كما في الصحيحين من حديث عائشة.
2- أن الصحابة رضي الله عنهم كانوا يرقون، فقد رقت عائشة رضي الله عنها النبي صلى الله عليه وسلم، ورقى الصحابة غيرهم كما في حديث أبي سعيد رضي الله عنه المتفق عليه في قصة الصحابي الذي رقى سيد الحي بفاتحة الكتاب فقال النبي صلى الله عليه وسلم:" وما أدراك أنها رقية".
3- أن الراقي محسن إلى غيره فكيف يمنع هذا الفضل، وقد سأل رجل النبي صلى الله عليه وسلم فقال:" يا رسول الله أرقي؟ قال صلى الله عليه وسلم:" من استطاع منكم أن ينفع أخاه فليفعل" رواه مسلم
4- أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في آخر الحديث "وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ" وعمل الراقي لا منافاة بينه وبين التوكل بخلاف المسترقي والمكتوي والمتطير.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله عند رواية " لاَ يَرْقُونَ": وهذه الزيادة وهم من الراوي، والراقي محسن إلى أخيه وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم وقد سئل عن الرقى فقال:" من استطاع منكم أن ينفع أخاه فليفعل"، وقال صلى الله عليه وسلم:" لابأس بالرقى ما لم تكن شركاً" [انظر المستدرك على الفتاوى (1/ 27)].
♦ قوله صلى الله عليه وسلم " وَلاَ يَسْتَرْقُونَ" أي لا يطلبون الرقية من غيرهم.
♦ فيه أن من أراد نيل فضل السبعين ألفاً بدخول الجنة بلا حساب ولا عذاب ألا يطلب الرقية، لقوله صلى الله عليه وسلم" وَلاَ يَسْتَرْقُونَ" والسين والتاء تدلان على الطلب، ومفهومه أنه إذا لم يطلب الرقية لم يكن ذلك مانعاً في تحقيق الفضل، والحكمة من تميزهم بهذه الصفة هو تمام توكلهم واعتمادهم على الله تعالى وعدم تعلقهم بغيره.
♦ مفهوم الحديث أن الإستجابة للرقية من غير طلب لا تمنع تحقيق الفضل، ويشهد لهذا ما تقدم من رقية جبريل للنبي صلى الله عليه وسلم ورقية عائشة رضي الله عنها له صلى الله عليه وسلم، وعليه يقال الإنسان مع الرقية على ثلاث مراتب:
الأولى: أن يطلب الرقية، فهذا يفوته الفضل ويدخل في حديث الباب "ولا يسترقون".
الثانية: ألا يمنع الرقية إذا عرضت عليه، فهذا لا يفوته الفضل لأنه لم يطلبها وإنما عترضت عليه
الثالثة: أن يمنع الرقية إذا عرضت عليه، فهذا خلاف السنة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يمنع عائشة رضي الله عنها حين رقته وكذا الصحابة كان يرقي بعضهم بعضاً.
• في الحديث مشروعية الرقية لاسيما من العين ولدغة ذوات السم من عقرب ونحوها لقوله صلى الله عليه وسلم:" لا رقية إلا من عين وحمة " وفيه إثبات الإصابة بالعين وأنها حق، وللرقية المشروعة شروط ثلاثة:
الأول: أن تكون الرقية بكلام الله تعالى أو بأسمائه أو بصفاته أو بما أُثر عن النبي صلى الله عليه وسلم.
الثاني: أن تكون باللسان العربي أو بما يعرف معناه من غيره.
الثالث: الاعتقاد بأن الرقى لا تؤثر بذاتها بل التأثير من الله تعالى.
بهذه الشروط تكون الرقية صحيحة، أما عن تأثير الرقية فإنه أدعى في تأثيرها إذا توفر شرطين إضافة لما سبق:
الأول: يتعلق بالراقي بأن يكون صاحب إيمان وصلاح وحضور قلب لما يقرأ.
الثاني: يتعلق بالمرقي بأن يكون معتمداً على الله تعالى موقناً بشفائه ونفع آياته، لا يأتي للرقية للتجربة أو لمجرد طرق هذا الباب فإن مثل هذا لا ينتفع.
ذكر شيخنا ابن عثيمين رحمه الله هذين الشرطين ثم قال" فلو كان الذي يُقرأ عليه الفاتحة يشك في هذا ويقول والله لا أدري، لكن نجرب، فإنه لا ينفعه إذ لابد من قبول تام" [التعليق على مسلم (1/ 752)].
♦ قوله صلى الله عليه وسلم " وَلاَ يَتَطَيَّرُونَ "
♦ فيه ذم التطير، والتطير مأخوذ من الطير وأصله التشاؤم بالطير الذي كان منتشراً عند العرب، فإذا ذهب الطير ناحية الشمال أو رجع إلى الخلف تشاءموا، وإذا ذهب ناحية اليمين تفاءلوا، لذا سمي تطيرا، ولا يلزم أن يكون التشاؤم بالطير وإنما يعم كل تشاؤم سواءاً كان بمرئي كرؤية الطير، أو مسموع كأن يسمع صوتاً يكرهه فيعلق عليه مصيره الذي صار إليه أو ينتظره، أو بمعلوم كأن ينتشر عند الناس معلومة لا حقيقة لها ويصدقونها فيتشاءمون بها كما تشاءم العرب بشهر شوال وأن أي نكاح به لن يكون موفقا، وكانت عائشة رضي الله عنها تقول كما في صحيح مسلم:" تزوجني رسول الله صلى الله عليه وسلم في شوال، وبنى بي في شوال، فأيكن كانت أحظى عنده مني"، ومثله التشاؤم بأيام معينة، فكل تشاؤمٍ بمرئي أو مسموع أو معلوم فهو منهي عنه.
والتشاؤم حكمه محرم ولذا نهى عنه الإسلام ودعى إلى ضده وهو التفاؤل، ومما يدل على تحريمه ما جاء في الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال النبي صلى الله عليه وسلم:" لا عدوى ولا طيرة" وعن أنس رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" لا عدوى ولا طيرة ويعجبني الفأل" قالوا وما الفأل؟ قال صلى الله عليه وسلم: الكلمة الطيبة" متفق عليه.
واعلم أن التطير ينافي التوحيد من وجهين:
الأول: أن المتطير قطع توكله على الله واعتمد على غيره.
الثاني: أن المتطير تعلق بأمر لا حقيقة له.
♦ قوله صلى الله عليه وسلم" وَلاَ يَكْتَوُونَ "
♦ فيه أن الاعتماد على الكي والاستشفاء به مانع من تحقيق فضل السبعين ألف، ووردت في الكي أدلة كثيرة منها ما يدل على ذمه ومنها ما يدل على إباحته، ففي الصحيحين من حديث ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:" الشفاء في ثلاث: في شرطة محجم، أو شربة عسل، أو كيٍ بنار، وأنا أنهى أمتي عن الكي"، وفي حديث جابر رضي الله عنه المتفق عليه:"وما أحب أن أكتوي" وفي الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم كوى سعد بن معاذ رضي الله عنه لما رمي في أكحله، ولهذه الأحاديث اختلف العلماء في حكمه، والأظهر والله أعلم جوازه لاسيما عند الحاجة والأولى تركه، أما ما فعله قبل إصابة الداء فالأظهر كراهته وعليه يحمل النهي.
وجمع ابن القيم رحمه الله بين الأدلة بكلام جميل حيث قال:" تضمنت أحاديث الكي أربعة أنواع: أحدها بفعله، والثاني: عدم محبته له، والثالث: الثناء على من تركه، والرابع: النهي عنه، ولا تعارض بينها بحمد الله تعالى فإن فعله صلى الله عليه وسلم يدل على جوازه، وعدم محبته لا يدل على المنع منه، وأما الثناء على تاركه فيدل على أن تركه أولى وأفضل، وأما النهي عنه فعلى سبيل الاختيار والكراهة، أو عن النوع الذي لا يحتاج إليه بل يفعل خوفاً من الداء" [زاد المعاد (2/ 65)]
♦ فيه أن الكي من غير طلب غير داخل في حرمان الفضل، لأن المراد في حديث الباب طلب الاكتواء، أما من دون طلب فلا بأس به كأن يقول شخص لآخر أريد أن أكويك ففعل فلا بأس واختاره شيخنا ابن عثيمين رحمه الله. [انظر التعليق على مسلم (1/ 741)].
♦ قوله صلى الله عليه وسلم" وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ "
♦ فيه فضيلة التوكل وعظم منزلته، وأنه هو الجامع للأوصاف التي سبقته" وَلاَ يَسْتَرْقُونَ. وَلاَ يَتَطَيَّرُونَ. وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ" فإنهم امتنعوا عن ذلك لتمام توكلهم على الله تعالى.
والتوكل هو: صدق الاعتماد على الله عز وجل، مع الثقة به، وفعل السبب.
( صدق الاعتماد): أن يفوض أمره إلى الله تفويضاً كاملاً، (والثقة بالله) أن يكون واثقاً بأن الله سيكفيه ويكون حسبه كما قال تعالى: ï´؟ وَمَن يَتَوَكَّل عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسبُهُ ï´¾ [سورة الطلاق:3]، (وفعل السبب) أي فعل السبب الحسي المأذون به شرعاً، فالتوكل لابد له من " اعتقاد" و " اعتماد" وذلك بالثقة بالله، " وعمل بالأسباب".
وعليه نقول التوكل لا بد له من أمرين:
1- تفويض الأمر لله جل وعلا واعتماد القلب عليه مع صحة الإيمان والمعتقد.
2- فعل الأسباب التي أمر الله بها سواء كانت دينية كأداء الفرائض والبعد عن النواهي، أو كانت دنيوية كالحرث والزراعة والتجارة ونحوها لأن النصوص كثيرة في الأمر بالتوكل ولابد من فعل السبب، وأما أن يقول الإنسان لن أفعل السبب لأنني متوكلٌ على الله جل وعلا فهذا فهم خاطئ فهذا يسمى تواكل لا توكل.
ودلَّ على مشروعية فعل الأسباب بعد التوكل على الله الكتاب والسنة والإجماع والعقل:
فمن الكتاب: قول الله عز وجل: ï´؟ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اَللَّهِ ï´¾ [آل عمران: ظ،ظ¥ظ©]، فالعزيمة سبب لابد منه مع التوكل.
ومن السنة: أفعال النبي صلى الله عليه وسلمتدل على فعله للسبب مع توكله وهو إمام المتوكلين فقد كان يُعدُّ العدّة قبل خوضه للمعارك ويهيء أسبابها ويرفع يديه للسماء يدعو " اللهم منزل الكتاب، ومجري السحاب، وهازم الأحزاب، اهزمهم وانصرنا عليهم " رواه مسلم من حديث عبدالله بن أبي أوفى، وأرشد في طلب الرزق من الله عز وجل التوكل عليه وفعل السبب فقال صلى الله عليه وسلم:" لأن يأخذ أحدكم حبله ثم يغدو فيحتطب فيبع فيأكل ويتصدق خير له من أن يسأل الناس " رواه البخاري من حديث أبي هريرة والنصوص الدالة على ذلك كثيرة.
والإجماع، قال ابن القيم: " وَأَجْمَعَ الْقَوْمُ عَلَى أَنَّ التَّوَكُّلَ لَا يُنَافِي الْقِيَامَ بِالْأَسْبَابِ. فَلَا يَصِحُّ التَّوَكُّلُ إِلَّا مَعَ الْقِيَامِ بِهَا، وَإِلَّا فَهُوَ بَطَالَةٌ وَتَوَكُّلٌ فَاسِدٌ" [مدارج السالكين 2/ 117].
وأيضاً دلالة العقل عليها فليس من التوكل أن يترك الإنسان الأسباب في جلب الولد مثلاً كالنكاح ويقول أريد بتوكلي على الله جل وعلا أن يرزقني ولداً وكذا في الرزق وغيرها من الأمور فلا بد من الشرطين: حقيقة الاعتماد على الله عز وجل مع فعل الأسباب.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: " التوكل المأمور به هو ما اجتمع فيه مقتضى التوحيد والعقل والشرع، فالالتفات إلى الأسباب شرك في التوحيد، ومحو الأسباب أن تكون أسباباً نقص في العقل، والإعراض عن الأسباب بالكلية قدح في الشرع " [الفتاوى 10 / 35].
وكثير من الناس يخلط في قضية فعل السبب بين مغالٍ ومفرِّط، ولبيان ذلك يقال في التوكل وفعل الأسباب عدة أمور:
أولاً: لا بُدَّ من فعل السبب مع التوكُّل، وفعل السبب لا يقدح في التوكل، فالنبي - صلى الله عليه وسلم - أعظمُ المتوكلين، وكان يأخذ بالأسباب يأخذُ زاده في السَّفر، ويلبس درعه في الحرب، ويستأجر من يدُلُّه على الطريق في غزواته ونحو ذلك.
ثانيًا: ادِّعاء التوكل بالاعتماد على الله من دون فعل الأسباب طعنٌ في حكمة الله -تعالى- لأنَّ الله جعل لكل شيء سببًا، فادَّعاء ذلك لا يسمى توكلاً بل تواكلاً.
ثالثًا: الاعتماد على الأسباب وحْدَها دون الالتفات إلى الله -تعالى- نوعٌ من أنواع الشرك بالأسباب.
رابعًا: جَعْلُ أكثرِ الاعتماد على الأسباب نقصٌ في التوكُّل على الله -تعالى- لأنه قدح في كفاية الله تعالى.
والتوكل على الغير له أنواع:
الأول: التوكُّل على الغير فيما لا يقدر عليه إلا الله -تعالى- من جلب المنافع ودفع المضار، فهذا شرك أكبر، كأنْ يعتمد على ميت في جلب منفعة أو دفع مَضرة، وهذا يسمى "توكُّلَ السر"، وهو شرك أكبر؛ لأنه يعتقد أنَّ لهذا الميت تصرفًا سريًّا في الكون.
الثاني: التوكُّل على الغير من الأحياء فيما يقدر عليه مع الشعور بعلو مَرتبته، فهذا شرك أصغر؛ بسبب قوة تعلُّق القلب بهذا الإنسان، واعتماده عليه مع إغفاله أنَّه سببٌ من الأسباب وأنَّ الله - عزَّ وجلَّ - أجرى على يديه هذه النِّعم، كمن يعتمد على ملك أو وزير أو مسؤول، أمَّا إذا اعتقد الإنسانُ أن هذا سبب، وأنَّ الله -تعالى- أقدره على هذه النعم وأجراها على يديه، فحينئذ لا بأسَ بهذا.
الثالث: التوكُّل على الغير في فعل ما يقدر عليه نيابة عنه، فهذا لا بأس به، كأن يقول وكَّلت فلانًا بكذا، وقد دَلَّ على جواز ذلك الكتابُ والسنة والإجماع، فقد قال تعالى عن يعقوب لبنيه: ï´؟ يَا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِن يُوسُفَ وَأَخِيهِ ï´¾ [يوسف: 87]، ووكل النبي - صلى الله عليه وسلم - أبا هريرة - رضي الله عنه- على الصدقة؛ كما في صحيح البخاري، ووكل النبي - صلى الله عليه وسلم - عليًّا - رضي الله عنه- في ذبح بقية بُدنهِ، يذبُحها في حَجَّة الوداع؛ كما في "صحيح مسلم".
ومما سبق يتبيَّن أن هناك من التوكل ما هو عبادة وهو التوكل على الله تعالى، ومن التوكل ما ليس بعبادة إذ أن المتوكل لا يشعر برغبة ولا رهبة تجاه من أوكله، بل يشعر أنه دونه وفوَّض مهمة إليه كمن يوكل ابنه باستلام غرض دنيوي له، ونحو ذلك، وعليه يقال: إن ألفاظ الناس في التوكل على أنواع:
الأول: أن يقول توكلت على الله تعالى في كذا وكذا، فهذا مشروع بل مطلوب وبه يتحقق التوحيد، لأن التوكل الذي قصده عبادة ولا تصرف إلا لله تعالى.
الثاني: أن يقول توكلت على فلان في فعل كذا وكذا مما يستطيعه، كأن يوكل ابنه في عمل ما، فهذا لابأس به؛ لأنه لم يرد بذلك توكل العبادة وإنما تفويض الأمر لمن هو دونه فهذا جائز لخلوه من الرغبة والرهبة.
الثالث: أن يقول توكلت على الله وعليك، فهذا حرام بلا إشكال بل هو شرك؛ لأنه شرَّك بين الله تعالى وبين غيره بحرف يقتضي التشريك وهي الواو.
الرابع: أن يقول: توكلت على الله ثم عليك، فهذا جائز باعتبار أن التوكل على الله تعالى عبادة والتوكل على الغير فيما يستطيعه من باب التفويض إليه لا التعبد، لأنه يعتقد أن الله فوق مرتبة المتوكل عليه، لكنه لفظ موهم ينبغي الابتعاد عنه وعدم التعبير به.
قال شيخنا ابن عثيمين: " لا ينبغي أن يعبر بهذا التعبير؛ لأنه إذا عبر بهذا التعبير، فسيظن الظانّ أن التوكل على الآخر توكل عبادة، ولذا نقول: اجتنب هذا، هذا تشريك - وإن كان تشريكاً باللفظ - فلا يجوز" [التعليق على مسلم 1/ 745 - 746].