
17-02-2020, 03:33 AM
|
 |
قلم ذهبي مميز
|
|
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 161,007
الدولة :
|
|
رد: قاعدة: المشقة تجلب التيسير؛ مفهومها وتطبيقاتها
قاعدة: المشقة تجلب التيسير؛ مفهومها وتطبيقاتها
بقلم: الدكتور الشريف حمزة بن علي الكتاني.
الفصل الأول
تأصيل القاعدة من الناحية الشرعية، وأقوال الفقهاء في ذلك
هذه القاعدة أصل عظيم من أصول الشريعة، بحيث جميع رخص الشريعة وتحقيقاتها متفرعة عنها، وقد تضافرت الآيات والأحاديث والأخبار على الاستدلال لها وتعضيدها(1)، فهي من القواعد المأخوذة من النصوص الشرعية المعللة.
فمن القرآن الكريم: قال الله تعالى: {يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر}. [البقرة/ 185]، وقال جل جلاله: {لا يكلف الله نفسا إلا وسعها}. [البقرة/ 286]، وقال عز أمره: {لا يكلف الله نفسا إلا ما آتاها}. [الطلاق/ 7]، وقال سبحانه: {وما جعل عليكم في الدين من حرج}. [الحج/ 78]، وقال عز من قائل: {فاتقوا الله ما استطعتم}. [التغابن/ 16]. وغير ذلك من الآيات الكثار.
ووجه الدلالة في تلك الآيات: أن الشريعة الإسلامية تتوخى دائما رفع الحرج عن الناس، وليس في أحكامها ما يجاوز قوى الإنسان الضعيفة، وهذه النصوص دلت على ذلك لعموم معناها، وانطلاقا منها استنبط الفقهاء تلك القاعدة، وجعلوها بمثابة نبراس يستضيئون به عند النوازل والوقائع، ويعالجون كثيرا من المسائل والقضايا على أساسها(2).
أما من الحديث النبوي؛ فقد تضافرت الأحاديث والآثار على هذا المعنى، تارة تصريحا، وتارة تلميحا، ولا أوضح من ذلك تسمية الشريعة بالشريعة السمحة، أي: شريعة التسامح، واليسر، وعدم التكليف بما لا يطاق.
وقد جاء في حديث أسامة بن شريك التغلبي رضي الله عنه قال: أتيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وأصحابه كأنما على رؤوسهم الطير، فجاءته الأعراب من جوانب تسأله عن أشياء، فقالوا: هل علينا حرج من كذا؟. فقال: "عباد الله؛ وضع الله الحرج إلا امرأ اقترض امرءا ظلما، فذاك يحرج ويهلك".
بل عقد البخاري رحمه الله بابا في صحيحه بعنوان "الدين يسر"، وقول النبي صلى الله عليه وسلم: "أحب الدين إلى الله الحنيفية السمحة"، وتناول فيه ما روي عن أبي هريرة مرفوعا: "إن الدين يسر، ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه، فسددوا وقاربوا وأبشروا، واستعينوا بالغدوة والروحة، وشيء من الدلجة"(3).
قال الحافظ ابن حجر في شرحه: "وسمي الدين يسرا مبالغة بالنسبة إلى الأديان قبله، لأن الله وضع عن هذه الأمة الإصر الذي كان على من قبلهم، ومن أوضح الأمثلة له: أن توبتهم كانت بقتل أنفسهم. وتوبة هذه الأمة: بالإقلاع والعزم والندم"(4).
وروى البخاري عن أنس رضي الله عنه مرفوعا: "يسروا ولا تعسروا، وبشروا ولا تنفروا"(5).
وروى البخاري – أيضا – عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أمرهم أمرهم من الأعمال بما يطيقون"(6)..
فدلت هذه الآيات والأحاديث على أن التيسير ركن من أركان الدين، وقاعدة أساسية تلازم كافة الأحكام الشرعية، فمتى وجدت المشقة وجد معها التيسير، غير أن المشقة يجب أن تكون حقيقية لا ظنية، مشقة مقبولة شرعا، لا مشقة دلال واستهتار وركون إلى الدعة.
الفصل الثاني
نموذج من التطبيقات الفقهية لهذه القاعدة
لقد دلت الآيات والأحاديث السابقة على أن الشارع قصد إلى التيسير، وجعل دعوته إليه على ثلاثة أوجه:
1- فبعضها يتناول يسر هذا الدين وسماحته، ورفع الحرج عن العباد.
2- وقسم منها يتعرض لأوامر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالتخفيف، ونهي الناس عن التعمق والتشديد.
3- وباقيها في بيان ما ترك صلى الله عليه وآله وسلم من بعض القرب خشية المشقة(7).
فالشارع جعلها قاعدة بني عليها الدين كله، حتى سميت ملة الإسلام بالحنيفية السمحاء، ثم زاد فأمر العباد بالتيسير وعدم المشقة، والتزام أيسر الأمرين، ثم ثلث بترك أمور من القرب – كالجمع لصلاة التراويح مثلا – خشية أن تفرض على العباد.
ويدخل تحت هذه القاعدة أنواع من الفقه، منها في العبادات: التيمم عند مشقة استعمال الماء على حسب تفاصيله في الفقه، والقعود في الصلاة عند مشقة القيام، وفي النافلة مطلقا، وقصر الصلاة في السفر، والجمع بين الصلاتين..ونحو ذلك..
ومن التخفيفات أيضا: إعذار الجمعة والجماعة، وتعجيل الزكاة، والتخفيفات في العبادات والمعاملات، والمناكحات والجنايات.
ومن التخفيفات المطلقة: فروض الكفاية وسننها، والعمل بالظنون لمشقة الاطلاع على اليقين(8)...
ومنها: العفو عن اليسير من طين الشوارع، ولو ظننت نجاستها، والرجوع إلى الظن في تطهير الأشياء إذا لم يمكن اليقين، وإباحة الميتة للمضطر، وإباحة ما تدعو إليه الحاجة(9)..
ومنها: العفو عن الدم اليسير النجس، والاكتفاء بالاستجمار الشرعي عن الاستنجاء، وطهارة أفواه الصبيان، والاكتفاء بنضح بول الغلام الصغير الذي لم يأكل الطعام لشهوة وقيئة.
ومنها: العمل بالأصل في طهارة الأشياء وحلها، فالأصل في المياه والأراضي والثياب والأواني وغيرها الطهارة، حتى تعلم نجاستها، والأصل في الأطعمة والأشربة الحل إلا ما نص الشارع على تحريمه.
ومنها: أن المتمتع والقارن في الحج قد حصل لكل منهما حج وعمرة تامان في سفر واحد، ولهذا وجب عليهما الهدي شكرا لتلك النعمة(10)..بل كل أمور الحج مبنية على التيسير {فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه ومن تأخر فلا إثم عليه لمن اتقى}. [البقرة/ 203].
ومن ذلك ما أفتى به مجلس كبار علماء المملكة العربية السعودية بتوسعة وقت رمي الجمار في الحج ليمتد من الفجر للمغرب، بدل قصره على ما بعد الزوال، وذلك تفاديا للازدحام الشديد الذي تنتج عنه اصطدامات ووفيات كثيرة في كل موسم.
ويدخل في هذا الأصل: إباحة المحرمات للمضطر، وإباحة ما تدعو إليه الحاجة، كالعرايا، وإباحة أخذ العوض في مسابقة الخيل والإبل والسهام(11)..إلخ..
ومسائل هذه القاعدة كثيرة لا يحدها الحصر، ولا يمكن تحجيرها في مجموع واحد، إذ هي تتعدد بتعدد الزمان وأحواله، وتعدد النوازل واختلافها.
الهوامش:
(1) "القواعد والأصول الجامعة" ص29.
(2) "القواعد الفقهية" ص303.
(3) "صحيح البخاري" (1/ 16).
(4) "فتح الباري" (1/ 101).
(5) "صحيح البخاري" (1/ 27).
(6) "صحيح البخاري" (1/ 11).
(7) "القواعد الفقهية" ص307.
(8) "شرح الكوكب المنير" (4/ 446).
(9) "المرتقى الذلول" ص242.
(10) "القواعد والأصول الجامعة" ص31 بتصرف.
(11) المصدر السابق.
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟ فبكى رحمه الله ثم قال : أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.
|