
16-02-2020, 03:04 AM
|
 |
قلم ذهبي مميز
|
|
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 161,140
الدولة :
|
|
شرح حديث النزول لابن عبدالبر (ت 463 هـ) من كتابه التمهيد
شرح حديث النزول لابن عبدالبر (ت 463 هـ) من كتابه التمهيد
محمد لطفي الدرعمي
شرح حديث النزول لإمام ابن عبدالبر المالكي
من كتابه التمهيد[1]
الحمد لله جلَّ في عليائِه، نحمدُه سبحانه على جزيلِ عطائِه، ونشكرُه على إفضالِه ونعمائه، وصلى الله وسلَّم على نبينا محمَّدٍ خاتمِ أنبيائِه، وعلى آله وصَحْبه وجميعِ نسائِه؛ فإنهم خِيرةُ أوليائِه، وعلى مَن اقتفى أثرَه واهتدى بهَدْيه إلى يوم لقائِه، وبعد:
فهذا شرح حديث النزول للإمام ابن عبدالبر المالكي رحمه الله، استلَلْتُه من كتابه (التمهيد)، وهو كتاب عظيمٌ، عمدةٌ في المذهب، ولمَّا كان قولُه رحمه الله في هذا البابِ على مذهبِ السلف الأوَّلين، أحببتُ أن تعمَّ فائدتُه باستلاله مفردًا، فخرَّجتُه وضبطتُه، وقسَّمتُه فِقراتٍ؛ ليسهلَ فهمُه ويتَّضِح أمرُه، وأشرتُ إلى بعض مواطن الأحاديث، والله المستعان.
قال الإمام أبو عمر ابن عبدالبر المالكي في التمهيد:
"مالك عن ابن شهاب، عن أبي عبدالله الأغر، وعن أبي سلمة، عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((ينزل ربنا تبارك وتعالى كلَّ ليلةٍ إلى السماء الدنيا حين يبقَى ثُلُث الليلِ الآخرُ، فيقول: مَن يَدْعوني فأستجيبَ له؟ مَن يسألُني فأُعطيَه؟ مَن يستغفرني فأغفِرَ له؟))[2].
1- هذا حديثٌ ثابتٌ من جهة النقل، صحيحُ الإسناد، لا يختلف أهل الحديث في صحَّتِه، رواه أكثر الرواة عن مالكٍ هكذا، كما رواه يحيى.
2- ومِن رُواة الموطأ مَن يرويه عن مالك عن ابن شهاب عن أبي عبدالله الأغر، لا يذكر أبا سلمة.
3- وهو حديث منقولٌ من طرق متواترةٍ ووجوهٍ كثيرةٍ، من أخبار العدول عن النبي صلى الله عليه وسلم.
وقد رُوي عن الحُنيني عن مالك عن الزهري عن أبي عُبيد مولى ابن عوف عن أبي هريرة، ولا يصح هذا الإسناد عن مالك، وهو عندي وهم، وإنما هو عن الأعرج عن أبي هريرة.
وكذلك لا يصح فيه رواية عبدالله بن صالح عن مالك عن الزهري عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة، وصوابه عن الزهري عن الأعرج وأبي سلمة جميعًا عن أبي هريرة.
4- ورواه زيد بن يحيى بن عُبيدالله الدمشقي، وروح بن عبادة، وإسحاق بن عيسى الطباع عن مالك عن الزهري عن الأعرج عن أبي هريرة.
5- وفيه دليلٌ على أن الله عز وجل في السماءِ على العرشِ مِن فوق سبع سماوات، كما قالت الجماعة، وهو مِن حجَّتهم على المعتزلة والجهمية في قولهم: "إن الله عز وجل في كل مكانٍ وليس على العرشِ"!
6- والدليل على صحة ما قالوه[3] أهل الحق في ذلك:
• قولُ الله عز وجل: ﴿ الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى ﴾ [طه: 5].
• وقوله عز وجل: ﴿ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مَا مِنْ شَفِيعٍ ﴾ [يونس: 3].
• وقوله: ﴿ ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ ﴾ [فصلت: 11].
• وقوله: ﴿ إِذًا لَابْتَغَوْا إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا ﴾ [الإسراء: 42].
• وقوله تبارك اسمه: ﴿ إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ ﴾ [فاطر: 10].
• وقوله تعالى: ﴿ فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ ﴾ [الأعراف: 143].
• وقال: ﴿ أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ ﴾ [الملك: 16].
• وقال جل ذكره: ﴿ سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى ﴾ [الأعلى: 1].
• وهذا من العلو.
• وكذلك قوله: ﴿ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ ﴾ [البقرة: 255].
• و﴿ رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ذُو الْعَرْشِ ﴾ [غافر: 15].
• و﴿ يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ﴾ [النحل: 50].
• والجهمي يزعُمُ أنه أسفل!
• وقال جل ذكره: ﴿ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ ﴾ [السجدة: 5].
• وقوله: ﴿ تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ ﴾ [المعارج: 4].
• وقال لعيسى: ﴿ إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ ﴾ [آل عمران: 55].
• وقال: ﴿ بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ ﴾ [النساء: 158].
• وقال: ﴿ فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ ﴾ [فصلت: 38].
• وقال: ﴿ وَمَنْ عِنْدَهُ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلَا يَسْتَحْسِرُونَ ﴾ [الأنبياء: 19].
• وقال: ﴿ لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ * مِنَ اللَّهِ ذِي الْمَعَارِجِ ﴾ [المعارج: 2، 3]، والعروج هو الصعود.
7- وأما قوله تعالى: ﴿ أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ ﴾ [الملك: 16]، فمعناه: مَن على السماء؛ يعني على العرش، وقد يكون (في) بمعنى على، ألا ترى إلى قوله تعالى: ﴿ فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ ﴾ [التوبة: 2]؛ أي على الأرض[4].
وكذلك قوله: ﴿ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ ﴾ [طه: 71]، وهذا كله يعضده قوله تعالى: ﴿ تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ ﴾ [المعارج: 4]، وما كان مثله مما تلَوْنا من الآيات في هذا الباب.
8- وهذه الآيات كلها واضحاتٌ في إبطال قول المعتزلة.
9- وأما ادعاؤهم المجازَ في الاستواءِ، وقولُهم في تأويل استوى استولى، فلا معنى له؛ لأنه غيرُ ظاهر في اللغة.
10- ومعنى الاستيلاء في اللغة المغالبة، والله لا يغالبه ولا يعلوه أحدٌ، وهو الواحد الصمد[5].
ومِن حق الكلام أن يُحمَل على حقيقته حتى تتَّفِق الأمةُ أنه أُريد به المجازُ؛ إذ لا سبيلَ إلى اتِّباع ما أُنزِل إلينا مِن ربنا إلا على ذلك، وإنما يُوجَّه كلام الله عز وجل إلى الأشهر والأظهر من وجوهِه، ما لم يمنع من ذلك ما يجب له التسليم.
11- ولو ساغ ادِّعاء المجاز لكل مدَّعٍ، ما ثبت شيء من العبارات، وجلَّ اللهُ عز وجل عن أن يُخاطِب إلا بما تفهمه العرب في معهود مخاطباتها، مما يصح معناه عند السامعين.
12- والاستواء معلومٌ في اللغة ومفهوم، وهو العلو والارتفاع على الشيء، والاستقرار والتمكن فيه.
13- قال أبو عُبيدة في قوله تعالى: ﴿ اسْتَوَى ﴾، قال: علا، قال: وتقول العرب استويتُ فوق الدابة، واستويتُ فوق البيت، وقال غيره: استوى؛ أي: انتهى شبابه واستقرَّ، فلم يكن في شبابه مزيدٌ[6].
14- قال أبو عمر: (الاستواءُ: الاستقرارُ في العلو)، وبهذا خاطبنا الله عز وجل، وقال: ﴿ لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ ﴾ [الزخرف: 13]، وقال: ﴿ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ ﴾ [هود: 44]، وقال: ﴿ فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ ﴾ [المؤمنون: 28]، وقال الشاعر:
فأوردتُهم ماءً بفيفاءَ قَفْرةٍ ♦♦♦ وقد حلَّق النجمُ اليَمانيُّ فاستوى
وهذا لا يجوز أن يتأوَّل فيه أحدٌ استولى؛ لأن النجم لا يستولي.
15- وقد ذكر النَّضر بن شُمَيل - وكان ثقةً مأمونًا جليلًا في علم الديانة واللغة - قال:
"حدثني الخليل - وحسبُك بالخليل - قال: أتيتُ أبا ربيعة الأعرابي، وكان من أعلم مَن رأيت، فإذا هو على سطحٍ، فسلَّمنا فردَّ علينا السلام وقال لنا: استووا، فبقينا متحيرينَ ولم ندرِ ما قال، قال: فقال لنا أعرابي إلى جنبه: إنه أمركم أن ترتفعوا، قال الخليلُ: هو مِن قول الله عز وجل: ﴿ ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ ﴾ [فصلت: 11]، فصعِدنا إليه، فقال: هل لكم في خبز فطير ولبن هجير وماء نمير، فقلنا: الساعة فارقناه، فقال: سلامًا، فلم ندرِ ما قال، فقال الأعرابي: إنه سالمكم متاركةً، لا خير فيها ولا شر، قال الخليل هو مِن قول الله عز وجل: ﴿ وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا ﴾ [الفرقان: 63]".
16- وأما نزع مَن نزع منهم بحديثٍ يرويه عبدالله بن واقد الواسطي عن إبراهيم بن عبدالصمد عن عبدالوهاب بن مجاهد عن أبيه عن ابن عباس في قوله تعالى: ﴿ الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى ﴾ [طه: 5]، على جميع بريته، فلا يخلو منه مكان.
فالجواب عن هذا أن هذا حديث منكر عن ابن عباس، ونقلته مجهولون ضعفاء!
فأما عبدالله بن داود الواسطي وعبدالوهَّاب بن مجاهد، فضعيفان، وإبراهيم بن عبدالصمد مجهولٌ لا يعرف.
وهم لا يقبلون أخبار الآحاد العدول، فكيف يسوغ لهم الاحتجاج بمثل هذا من الحديث لو عقَلوا أو أنصفوا؟!
17- أمَا سمِعوا الله عز وجل؛ حيث يقول: ﴿ وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ * أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِبًا ﴾ [غافر: 36، 37]؟! فدلَّ على أن موسى عليه السلام كان يقول: إلهي في السماء، وفرعونُ يظنه كاذبًا.
فسبحان مَن لا يقدر الخلقُ قدرَه
ومَن هو فوق العرشِ فردٌ موحَّدُ
مَليكٌ على عرشِ السماءِ مُهيمنٌ
لعزَّته تعنُو الوجوهُ وتَسجُدُ
وهذا الشعر لأمية بن أبي الصلت، وفيه يقول في وصف الملائكة:
فمِن حاملٍ إحدى قوائمِ عرشِهِ
ولولا إلهُ الخلقِ كَلُّوا وأبلدوا
قيامٌ على الأقدامِ عانون تحتَهُ
فرائضُهم من شدةِ الخوف ترعدُ
18- قال أبو عمر: فإن احتجوا بقول الله عز وجل: ﴿ وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ ﴾ [الزخرف: 84]، وبقوله: ﴿ وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ ﴾ [الأنعام: 3]، وبقوله: ﴿ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ ﴾ [المجادلة: 7]، الآيةَ، وزعموا أن الله تبارك وتعالى في كل مكان بنفسه وذاته تبارك وتعالى.
• قيل لهم: لا خلاف بيننا وبينكم وبين سائر الأمة أنه ليس في الأرض دون السماء بذاته، فوجب حمل هذه الآيات على المعنى الصحيح المجتمع عليه، وذلك أنه في السماء إلهٌ معبود من أهل السماء، وفي الأرض إله معبود من أهل الأرض، وكذلك قال أهل العلم بالتفسير، فظاهر التنزيل يشهد أنه على العرش، والاختلاف في ذلك بيننا فقط، وأسعد الناس به مَن ساعده الظاهر.
19- وأما قولُه في الآية الأخرى: ﴿ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ ﴾، فالإجماع والاتفاق قد بيَّن المرادَ بأنه معبودٌ مِن أهل الأرض، فتدبَّر هذا، فإنه قاطع إن شاء الله.
20- ومن الحجة أيضًا في أنه عز وجل على العرش فوق السماوات السبع، أن الموحِّدين أجمعين - من العرب والعجم - إذا كربهم أمرٌ، أو نزلت بهم شدة، رفَعوا وجوهَهم إلى السماء يستغيثون ربهم تبارك وتعالى، وهذا أشهر وأعرف عند الخاصة والعامة من أن يحتاج فيه إلى أكثر من حكايته؛ لأنه اضطرار لم يؤنِّبهم عليه أحد، ولا أنكره عليهم مسلم.
21- وقد قال صلى الله عليه وسلم للأَمَةِ التي أراد مولاها عتقَها إن كانت مؤمنة، فاختبرها رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن قال لها: ((أين الله؟))، فأشارت إلى السماء، ثم قال لها: ((مَن أنا؟))، قالت: رسولُ الله، قال: ((أعتِقْها، فإنها مؤمنة))، فاكتفى رسول الله صلى الله عليه وسلم منها برفعها رأسها إلى السماء، واستغنى بذلك عما سواه.
22- أخبرنا عبيد بن محمد قال: حدثنا عبدالله بن مسرور قال: حدثنا عيسى بن مسكين قال: حدثنا محمد بن سنجر قال: حدثنا أبو المغيرة قال: حدثنا الأوزاعي قال: حدثنا يحيى بن أبي كثير عن هلال بن أبي ميمونة عن عطاء بن يسار عن معاوية بن الحكم قال: أطلقتُ غُنيمة لي ترعاها جارية لي في ناحية أُحُدٍ، فوجدت الذئب قد أصاب شاةً منها، وأنا رجل من بني آدم، آسفُ كما يأسَفون، فصكَكْتُها صكَّةً، ثم انصرفتُ إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فأخبرتُه، فعظم عليَّ، قال: فقلتُ: يا رسول الله، فهلَّا أعتِقُها، قال: ((فأتِني بها))، قال: فجئتُ بها إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال لها: ((أين اللهُ؟))، فقالت: في السماء، فقال: ((مَن أنا؟))، قالت: أنت رسول الله، قال: ((إنها مؤمنة، فأعتِقْها))[7].
مختصرٌ، أنا اختصرتُه من حديثه الطويل من رواية الأوزاعي، وهو من حديث مالك أيضًا، وسيأتي في موضعه من كتابنا إن شاء الله[8].
23- وأما احتجاجُهم: لو كان في مكانٍ لأشبهَ المخلوقاتِ؛ لأن ما أحاطَتْ به الأمكنةُ واحتوَتْه، مخلوقٌ - فشيءٌ لا يلزَم، ولا معنى له؛ لأنه عز وجل ليس كمثلِه شيءٌ من خلقه، ولا يُقاس بشيء مِن بريته، لا يُدرَك بقياس، ولا يُقاس بالناس، لا إله إلا هو، كان قبل كل شيء، ثم خلق الأمكنة والسماوات والأرض وما بينهما، وهو الباقي بعد كل شيءٍ، وخالق كل شيء لا شريك له.
24- وقد قال المسلمون وكلُّ ذي عقلٍ: (إنه لا يُعقَلُ كائنٌ لا في مكانٍ منا، وما ليس في مكانٍ، فهو عدمٌ).
25- وقد صح في المعقول، وثبت بالواضح من الدليل، أنه كان في الأزل لا في مكانٍ، وليس بمعدوم، فكيف يقاسُ على شيءٍ مِن خلقه، أو يجري بينه وبينهم تمثيلٌ أو تشبيه؟!
تعالى الله عما يقول الظالمون علوًّا كبيرًا، الذي لا يبلغ مَن وصفه إلا إلى ما وصَف به نفسه، أو وصفه به نبيُّه ورسولُه [صلى الله عليه وسلم]، أو اجتمعَتْ عليه الأمة الحنيفيَّة عنه.
26- فإن قال قائل منهم: إنَّا وصَفنا ربَّنا أنه كان لا في مكانَ، ثم خلق الأماكن، فصار في مكان، وفي ذلك إقرارٌ منا بالتغيير والانتقال؛ إذ زال عن صفتِه في الأزل وصار في مكان دون مكان.
• قيل له: وكذلك زعمتَ أنت أنه كان لا في مكان، وانتقل إلى صفةٍ هي الكونُ في كل مكان، فقد تغيَّر عندك معبودك، وانتقل مِن (لا مكان) إلى كل مكان، وهذا لا ينفكُّ منه؛ لأنه إن زعم أنه في الأزل في كل مكان كما هو الآن، فقد أوجب الأماكن، والأشياء موجودةٌ معه في أزله، وهذا فاسد!
• فإن قيل: فهل يجوز عندك أن ينتقلَ مِن لا مكان في الأزل إلى مكان؟
• قيل له: أما الانتقال وتغيُّر الحال، فلا سبيل إلى إطلاق ذلك عليه؛ لأن كونه في الأزل لا يُوجِب مكانًا، وكذلك نقله لا يوجب مكانًا، وليس في ذلك كالخلق؛ لأن كونَ ما كونه يُوجِب مكانًا من الخلق ونقلتُه تُوجِب مكانًا ويصير منتقلًا من مكان إلى مكان، والله عز وجل ليس كذلك؛ لأنه في الأزل غيرُ كائنٍ في مكان، وكذلك نقلته لا تُوجب مكانًا، وهذا ما لا تقدر العقول على دفعه.
• ولكنا نقول: استوى مِن لا مكان إلى مكان، ولا نقول انتقل، وإن كان المعنى في ذلك واحدًا.
• ألا ترى أنا نقول: له العرش، ولا نقول له سرير، ومعناهما واحد.
• ونقول: هو الحكيم، ولا نقول هو العاقل.
• ونقول: خليل إبراهيم، ولا نقول صديق إبراهيم، وإن كان المعنى في ذلك كله واحدًا.
يتبع
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟ فبكى رحمه الله ثم قال : أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.
|