الربا وليد اليهود
الشيخ عبدالرحمن بن محمد الدوسري
عن عبدالله بن مسعود - رضي الله عنهما - قال: ((لعن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - آكل الربا وموكله))، وفي رواية الترمذي وأبي داود: ((وشاهديه وكاتبه))[1].
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - أنَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((ليأتين على الناس زمانٌ، لا يبقى أحدٌ إلا أكل الرِّبا، فمن لم يأكل أصابه مِن بخاره))[2].
الربا يعني الزيادة[3]: وهو عبارة عن إعطاء الدراهم ونحوها لتؤخذ مضاعفة في وقت آخر، فما يؤخذ مِنَ الزيادة على رأس المال لا مقابل له من عين ولا عمل سوى الإمهال المندوب، ثم إن هذه الزيادة لا تعطى بالرضا الاختياري القلبي الصحيح، وإنما تُعطى بالكُره والاضْطرار.
والنقد وضعه الله ميزانًا لتقدير أثمان الأشياء التي ينتفع بها الناس في معاشهم، وتبادُل مصالحهم، فإذا تحوَّل هذا وصار النقدُ مقْصودًا بالاستغلال، انعكست القضية، وأدتْ إلى انتزاع الثروة من أيدي أكثر الناس، وحصرها في أيدي المرابين، وعندها تنشأ طبقيَّة غير متوازنة، يمتص الواجد فيها دم المحتاج وجهده.
ولهذا لعن الرسول - صلى الله عليه وسلم - الربا؛ لأنه طريقة ووسيلة للظلم والإثراء، ولعن كذلك المتعاملين به؛ لأنه استغلال لضرورة إنسان من قِبَل إنسان آخر، وفيه مخالفة صريحة لقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((المسلمُ أخو المسلم، لا يظلمه ولا يسلمه[4]، ومن كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته، ومن فرَّج عن مسلم كربة، فرج الله عنه كربة مِن كُرَب يَوْم القيامة))[5].
فالربا أنانية، وجشع، وقهر، وهمجيَّة وتخلُّف، ومنبت ضغائن وحقد، وكراهية تهدم العرى الاجتماعية والروابط الإنسانية، وتضعف المروءة، بل وتقتلها.
والربا الملعون مِن أقدم عصوره وليد اليهود، وقد فشا في الجاهلية الأولى بسبب مُجاوَرة اليهود ومِن عَدْوَاهم، كما تفشَّى في الجاهليات العصرية الآن بسبب سيطرة اليهود على البنوك والاقتصاد العالمي، مع ما يبثونه من تحبيبه وتزيينه بشتَّى الدعايات، وواسطة عملائهم من النصارى المستشرقين، والعرب المتفرنجين، وما أعظم حكمة الله - سبحانه وتعالى - حيث ابتدأ موضوع الربا بذكر سوء مصير أهله، فقال: ﴿ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا لا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ﴾ [البقرة:275].
وهذا التشبيه الشنيع منطبق على المرابين، في حياتهم، وبعد مماتهم عند قيامهم من قبورهم، يوم يقوم الناس لربِّ العالمين؛ أما في الدنيا فكما قال ابن عطية في تفسيره: المراد تشبيه المرابي في الدنيا بالمتخبط المصروع "المجنون".
والسبب في تشبيه المرابي بهذه الحالة: أن الشيطان يدعو إلى طلب الملذات، وعبادة المادة والشهوات، والانصراف عن الله، فهذا هو المراد بمسِّ الشيطان، والمرابي له أكبر نصيب من ذلك، ومن كان هكذا كان في أموره متَخَبِّطًا؛ لأنَّ الشيطان يجره إلى حالات مختلفة، فهذا هو الخبط الحاصل له من الشيطان؛ لإفراطه في حبها وتهالُكه عليها، فإذا مات على ذلك بعث عليه.
نعم، إنَّ المُرابي يُبعَث يوم القيامة على ما عاش عليه في الدنيا، لا يقوم إلا كما يقوم الذي يتَخبَّطه الشيطان من المسِّ؛ لأنَّ الخبط الذي كان طبيعةً له في الدنيا بسبب حب المال، أورثه الخبط في الآخرة، وأَوْقَعه في ذلك الحجاب عن الله، وما حصل هذا للمرابين إلا بسبب افترائهم على الله؛ لأنهم ﴿ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا ﴾ [البقرة:275]، بقياسهم الفاسد، حيث قاسوا بيع ما يساوي عشرة بأحد عشر من الثياب، على إعطاء عشرة دراهم بأحد عشر؛ من حصول التراضي في الجميع، وقضاء الحاجة في الجميع، فحكموا بإباحة الربا على هذا القياس الشيطاني الفاسد، غافلين أو متغافلين عن الحكمة في إباحة البيع وعظيم فوائده للمجتمعات؛ ولهذا قال سبحانه: ﴿ وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا ﴾ [البقرة:275]؛ وذلك لاختلافهما في الصورة والنتيجة، فإن البيع معاوضة بين شيئين، بخلاف الربا الذي يأكلونه، فإنه زيادة يُريدونها عن دَينهم عند تأخير الأجل لا يقابلها شيء، وما يؤخذ بغير مقابل فهو منَ الباطل المحرَّم، ولو كانا متساويين لما اختلف حُكمهما عند الله أحكم الحاكِمين.
فكل ما فيه معاوضة صحيحة خالية من أكل أموال الناس بالباطل، فهو بيع صحيح، وأما الزيادة التي يأخذها صاحب المال لأجل التأخير في الأجل، فهي ظُلم وربًا؛ لأنه لا معاوضة فيها ولا مقابل.
ولنضرب مثلاً تقريبيًّا تتَّضح فيه الحكمة والفائدة من إباحة البيع وتحريم الربا من الله العليم الحكيم، فنفرض تاجرين؛ تاجرًا استورد بمليون جنيه نوعًا أو أنواعًا من المال للتجارة، كم ينتفع بهذا الاستيراد من الجهات والمجتمعات، ينتفع أولاً المكاتب أو الشركات التي أعدت نفسها واسطة لمثل هذا العقد، مما يسمى في اللغة الأجنبية الداخلية (قومسيون)، وينتفع العمال والصناع في بلد التصدير؛ من النجارين الذين يشدون صناديق البضائع، والعمال الذين يقومون بالتعبئة لذلك أو للأكياس، كما ينتفع بذلك صاحب الأخشاب، وبائعو الأكياس، وبائعو المسامير والحديد والخيوط وغير ذلك، ثم ينتفع أهل السفن للشحن، والعمال الذي يقومون بتحميل تلك الأموال، كل هذا في ميناء التصدير والتحميل، مع نشاط الحركة التجارية في ذلك الميناء بشراء هذه الأموال المصدرة.
ثم يأتي دور ميناء التنزيل، التي هي بلد الاستيراد، حيث تزيد تلك الأموال فيها، فينتفع الحمالون والعمال في هذا الميناء، وشركات النقل والتنزيل، وأصحاب المخازن المستأجرة لتخزين هذه الأموال، كما ينتفع الناقلون لها من الميناء إلى المخازن، وإلى البلاد التي توزع فيها تلك الأموال من أصحاب السيارات والعمال، وينتفع الدلالون، ويربح الباعةُ الصِّغارُ الذين يتوزعون تلك الأموال، ولا تزال حركة البلاد منتعشة بذلك الاستيراد الواحد، فكيف إذا نافسه مئات الاستيرادات، وتربح البنوك أيضًا في كلٍّ من ميناء التصدير والاستيراد، إلى غير ذلك من المنافع التي جلبتها حركة تاجر واحد.
وفي مقابلة هذا التَّاجر الذي استعمل مالَه في البيع والشراء، تاجِرٌ آخَر مُرابٍ أعطى الْمِليون التِي عنده صرَّافًا آخَر برِبْح معلوم، جرَّ النَّفع المضمون إلى نفسه، وأركسَ أخاه في الرِّبا، ولم ينتفع الناسُ منهما شيئًا، لا داخل البلاد ولا خارِجَها، فما أبعد الفرق بينهما!
ولو فرَضْنا أيضًا: أنَّ التاجر المُشار إليه استورَد حِنْطة، فكم ينتفع بِها أهل بلدِه؛ مِن حَمَّال، وصاحب مَخْزن، وطحَّان، وخبَّاز، ودلاَّل، وموزِّع، إلى غير ذلك مِمَّا تستبين حكمة الله تعالى من إباحة البيع وتحريم الرِّبا!
وفي إباحة البيع الحرِّ فوائِدُ عظيمة للمجتمع خيرٌ من المذهب اليهودي الذي هو (التَّأميم) القاضي على المنافسة التِّجارية، والحاصر المنفعة للدَّولة المتسلِّطة التي تستولي على أموال شعبها بِحُجَّة الاستغلال؛ لينحصر عندها ولَها، بل لِيُقاسي شعْبُها أفظع أنواع الاستغلال.
وهذا مِن مكر اليهود بالأُمم، وتوزيعها إلى معسكرَيْن متناحرَيْن؛ لِتَتذوَّق الشعوب أقْسَى ويلات البُؤْس والإرهاب، وهم يَلْعبون على الحَبْلين، ورؤساء التأميم يتمتَّعون بما لا يتمتع به أحد من الملوك في سالف الأزمان وحاضرها؛ يتمتَّعون بأنواع القصور البَرِّية والبحريَّة البلورية، التي هي تحت البحر يسفح عليها ماؤه، والبُحَيرات التي قلَبُوها إلى حَمَّامات ساخنة، والجسور التي تَصِل القصور البَرِّية بالبحريَّة البلورية، والجسور الأخرى التي تصلها بالبحيرات الحمَّامية، مِمَّا لم يَعْرِف التاريخ له مثيلاً.
فأين هم مِن دعوى الاشتراكيَّة الكاذبة، والتكافُل المكذوب؟ هذا زيادة على أرصِدَتِهم الضَّخمة في البنوك الخارجية، فهؤلاء قد أبرزَتْهم اليهوديَّةُ العالَميَّة؛ ليكونوا أفظع من صنوف الْمُرابين، ووجود مثل هؤلاء يُعدُّ من بعض عقوبات الله على البشريَّة الْمُعرِضة عن هدْيِه، والشَّاردة عن صراطِه، كما قال تعالى: ﴿ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ ﴾ [المائدة:49].
ودين الله الإسلام هو دينٌ وسط في جَميع المجالات والشُّؤون؛ ففي المجال الاقتصاديِّ لا شبيه له بين الأنظمة المعاصرة؛ إذْ هو وسَطٌ بين طُغْيان الرَّأسمالية، وجحيم الشُّيوعية، وظُلْمِ الاشتراكية، فهو يَحْترم الملكيَّة الفردية، ويحرِّم الاعتداء عليها بالتأميم، أو أيِّ نوع من أنواع الضُّغوط التي تشلُّ الحركة التجارية وتقتل المنافسة؛ لأنَّ المِلْك الخاصَّ يَحْمِل صاحبه على مزيدٍ من العناية والإبداع في مَجال اختصاصه، ويُحارب مِن أنظمة الرَّأسمالية الغَبْنَ والاحتكار بِمَعناه الصحيح، وأخْذَ الرِّبا الذي هو من خصائصها.
ولْيَعلم القارئُ والسامع: أنَّ الدولة الأوربية قِبْلة المُتَفرنِجين المُحبِّذين للرِّبا والزَّاعمين إفكًا وزورًا أنَّه مناط العزَّة والقوة التي حُرِمَها المسلون لتحريمهم الرِّبا (لِيَعلمْ كلٌّ من هؤلاء) أنَّ الحافز للدُّول الأوربية على تعاطي الرِّبا هو ثلاثة أمور:
أحدها: عنادهم للكنيسة التي يحرِّم رجالُها الرِّبا، وهم يتعاطونه سرًّا، وأمْرُهم مفضوح.
ثانيها: ظهور الثَّورة الصناعية ونَجاحُها؛ مِمَّا أحدث عندهم تَمرُّدًا على دينهم كله.
ثالثها: جعله وسيلة لاستعمار الشعوب المتخلِّفة، وإذلال المسلمين فيها؛ لأنَّهم يُقْرِضونَهم بالفوائد التصاعدية التي تتضخَّم وتتضاعف حتى يَعْجزوا عنها، فيضطرُّوا إلى الاستزادة من ذلك حتَّى يرهنوا موانِئَهم، ووارداتِهم، ويستَوْلوا على مَرافقهم إلى الاحتلال النِّهائي، كما حصل في إفريقيَّة، وغيرها.
فهذه بعض النتائج السيِّئة للرِّبا الذي حرَّمه الإسلام، ونجد من أبنائه المحسوبين عليه مَن يُشِيد بالْخُبثاء المستعمِرين المستغلِّين، ويُطالبنا بتقليدهم في إباحة الرِّبا، فرُحْماك اللَّهم رُحْماك من عمَى البصيرة!
وقد شدد في تحريم الرِّبا؛ لأنه يقتل كلَّ مشاعر الشفقة في صاحبه على إخوانه، فالْمُرابي لا يتردَّد في تجريد الْمَدين من كلِّ ما يملك، ولأنَّ الرِّبا يسبِّب العداوة بين الأفراد، ويُفْقِدهم التَّعاون فيما بينهم، ثم هو يُكْسِب صاحبه البطالة، ويثبِّطه عن القيام بالأعمال النافعة، فيُصْبح كالطُّفيلي الذي يعيش من كَدْح غيره.
وأيضًا: فالرِّبا جالِبٌ لِبُؤس خَلْق كثير وشقائِهم وتعاسَتِهم على حساب أفراد قليلين يَسْعدون بشقاء هؤلاء، وينعمون بِبُؤسهم، فالإسلام يَرْمي من تحريمه إلى الحيلولة دون المُحاباة لرأس المال على حساب الجمهور الكادح، والسَّعي إلى تحقيق المساواة بين أفراد الأُمَّة بالمشاركة في الرِّبح والإنتاج، بدلاً من تَحْقيق ربح مضمون لأفراد قليلين فقط.
وقد قال الله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ ﴾ [آل عمران:130 - 131].
فهذه مع الآيات القريبة التي تتناول الرِّبا من سورة البقرة، تنصُّ بكلِّ جلاء وصراحة على تحريم الرِّبا تحريمًا قاطعًا، وبيانِ ما فيه من ظلم شديد بقوله تعالى: ﴿ فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ﴾ [البقرة:275].
هذا تَبْيين منه سبحانه في خِتام أوَّل آية من آيات الرِّبا: أنَّ من بلَغَه تحريم الله له، وأثَّرَت فيه موعظة القرآن فانتهى عن مزاولة الرِّبا، واجتنَبَه فورًا بدون تراخٍ ولا تردُّد؛ خشيةً من الله، وانتهاءً عمَّا حرَّمه، فإن الله لا يُؤاخِذُه بما عمل قبل بلوغه التحريم وانْزِجاره عنه، ولا يكلِّفه ردَّ ما أخَذَه من الرِّبا إلى أربابه، بل يَكْتفي منه بالاِنْزِجار بعد البلاغ ﴿ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ ﴾ يَحْكم فيه بعدله أو بفضله، ومِن عدله سبحانه: أنْ لا يُؤاخذ على ما عمله قبل الإبلاغ بالتحريم، ولكن العبارة تُشعِر بأمرين:
أحدهما: التخويف من عدم الإخلاص بالانزجار، أو من حصول التحرُّج فيه؛ لأنَّ الواجب على المسلم ألاَّ يكون في صدره حرَجٌ مِمَّا قضاه الله في تشريعه، بل يسلِّم تسليمًا.
ثانيهما: الإشعار لآكل الرِّبا عند بلوغ التَّحريم بأنَّ إباحة أكْلِه ما سلف هي للضَّرورة، وأن الأفضل له أن يَرُدَّ ما أخذه قبل التحريم إلى أربابه إنْ لَم يتعسَّر عليه ذلك، فقوله تعالى: ﴿ وَأَمْرُهُ إِلَى اللهِ ﴾ يَحْمِل التخويف والإشعار معًا؛ لِيَربط قلب المؤمن بالله، ويَمْلأَه من خشيته.
وقد صرَّح سبحانه بأشدِّ أنواع الوعيد على مَن أكل الرِّبا بعد بلوغ النَّهي عنه، حيث قال: ﴿ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ﴾.
يعني: ومن عاد إلى أكل الرِّبا بعد تحريمه والنَّهي عنه، فأولئك من البُعَداء عن الله، وعن الاتِّعاظ بمواعظ وحيه، والانزجار عن نواهيه، وهو - سبحانه - لا ينهاهم إلاَّ عمَّا يضرُّهم في مجتمعهم وأفرادهم، فمَن لم يقف عند حدود الله ويَنْزجرْ عن نواهيه، بل أصرَّ بعد النهي على ما كان عليه من أكل الرِّبا ﴿ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ ﴾ قد حصر الله مصيرهم فيها؛ لأنَّهم لا يستحقُّون إلا دار العقوبة الدائمة المؤْلِمة والهوان، و﴿ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ﴾ لَيْسوا منها بِمُخرجين.
وليس في هذا ما يدلُّ على مذهب الخوارج[6] ونَحْوِهم مِمَّن يرى تَخْليد أهل الكبائر في النار؛ لأنَّ خلود هؤلاء ليس لِمُجرد ذنبهم بأكل الرِّبا، ولكن لتمرُّدهم وإصرارهم؛ فإنَّ الإصرار على المعصية يُدْخِل صاحبه في الإشراك ويَجْعله من عباد الْهَوى، لا من عبيد الله.
فهذه الآية كقوله تعالى: ﴿ بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ﴾ [البقرة:81].
وكقوله: ﴿ ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاؤُوا السُّوأَى أَنْ كَذَّبُوا بِآياتِ اللَّهِ وَكَانُوا بِهَا يَسْتَهْزِئُونَ ﴾ [الروم:10].
فلا يأكل الرِّبا بعد بلوغ تَحْريمه الشديد والوعيد عليه، إلاَّ غيْرُ مؤمنٍ إيمانًا حقيقيًّا، وإنَّما إيمانه صوري، كالإيمان الذي تريده الجهميَّة[7] من الناس، ويريده أفراخ الجهميَّة من المُرْجِئة[8] والأشعريَّة[9]، ونَحْوهم، مِمَّن يزعم أنَّ الإيمان التصديقُ أو المعرفة.
فالإيمان على هذا التعريف يدخل فيه إبليسُ وأكثرُ مِلَل الكُفَّار.
والحق أن الإيمان لا يُكتَفَى منه بأكثر من هذا، فكيف بِهذا؟ إنه لا يكتفى من الإيمان بالتَّسليم الإجمالي بالدِّين الذي نشأ فيه المرء، أو نُسِب إليه، ولا بِمُجاراة أهله، وعدم معارضتهم فيما هم عليه.
كل هذا لا يكفي لصحَّة الإيمان، أو حصول حقيقته المطلوبة، فالإيمان على هذا النحو هو إيمان صوريٌّ لا حقيقة له، بل إيمانُ العجائز خيرٌ منه بكثير، وإنَّما الإيمان الصحيح المطلوب هو ما قرَّره علماء السَّلَف من أنه عقد بالْجَنان، وقول باللِّسان، وعملٌ بالأركان، يزيد بالطَّاعة وينقص بالعصيان، حتَّى يتلاشى وينعدم بالإصرار التامِّ على المعاصي.
فالإيمان عبارة عن معرفة صحيحة بحقيقة الدِّين، متمكِّنة في القلب عن إخلاص ويقين، وأن يكون متمكِّنًا في العقل بالبرهان، ومؤثِّرًا في النَّفس بصِدْق الإذعان، وحاكمًا على الإرادة المصرفة للجوارح والأحاسيس، بحيث يكون صاحِبُه خاضعًا لأمر الله في كلِّ دقيق وجليل.
فالذي تقرعه سياط الموعظة الإلهيَّة في تحريم الرِّبا، والتشديد في أمره تشديدًا منقطع النَّظير، ثُم يصرُّ مستكبِرًا كأن لم يسمعها، ويعود إلى أكل الرِّبا، فهذا دليل على عدم إيمانه وإيقانه، فلا عجب أنْ كان من الخالدين في النار، والعياذ بالله! وذلك أن الرِّبا ليس من المعاصي التي تُنسى أو تُغلَب النَّفس عليها بِخفَّة الجهالة والطَّيش، كالحِدَّة وثورة الشهوة، أو يقع صاحبها في غمرة النسيان، كالغيبة والنَّظرة ونحوها، وإنما هو معصية عظيمة لا يرتكبه صاحبُه إلاَّ عن عمْد، وسَبْق إصرار، وعدم مبالاة، وقلَّة إيمان يعصمه من أكله وقربانه، وينجِّيه من الخلود في النار، وإنَّما إيمانه إيمان صوري لا يحمله على تفضيل حُبِّ الله وطاعته على حب المادَّة واللذة.
وقد ورد الحديث الصَّحيح عن النبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -: ((إن الله لا ينظر إلى صُوَرِكم وأموالكم، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم))[10].
وقد أضرَّت الأفكار بعقائِدَ كثير من النَّاس، بحيث تَجِد بعضَهم يقول: إنِّي لا أُصلِّي، ولكنِّي لا أكذب ولا أزني... وأنا مسلمٌ أشهد أنْ لا إله إلا الله، وبعضهم يقول: أنا لا أُصلِّي ولا أصوم، ولكنِّي لا أُعامل بالرِّبا، وبعضهم يقول: أنا مُصِرٌّ على أكل الرِّبا، ولكنِّي مسلم أعترف بالإسلام.
فما هذه المهازل الناشئة عن مذهب جَهْم وذيوله؟ ألَم يعلم تاركُ الصلاة والصيامِ ونحوه أنه متعرِّضٌ للوعيد الشديد، بل مَحْكوم عليه بالكفر؛ للإصرار على الذنوب؟ ألم يعرف المعترف بإصراره على أكل الرِّبا أنَّ إصراره يُدْخِله في الشِّرك الموجب للخُلود في النَّار، وأنه لا ينفعه الاعتراف بالإسلام، ولا بِحُرمة الرِّبا، ما دام مصرًّا على أخذه متأسِّيًا باليهود؟ فهل يعترف بالملزم، أن يُنكر الوعيد، أو لا ينكره ولكن يبقى على إصراره، فيكون مِمَّن آمن ببعض الكتاب وكفر ببعض؟ فإنَّ الله اعتبَر من عمل ببعضٍ وترك البعضَ الآخر قد آمن ببعض الكتاب وكفَر ببعض كما هو منصوصُ وحْيِه المبارك[11].
ومن عجيب أمر العُصاة أنَّهم يفترون على الله، أو يَحْتالون عليه، فتارك الأمر بالمعروف والنَّهي عن المنكر يفتري على الله؛ مبَرِّرًا لسكوته على الباطل بقوله: "أنا في عافية"! ومَن أعطاك صكَّ العافية يا تارك الأمر بالمعروف؟ أعطاك الله إيَّاه؟ أم إبليس الذي يَعِدُ أصحابه ويُمنِّيهم وما يعدهم إلاَّ غرورًا؟ طبعًا: إنه إبليس؛ لأنَّ الله لم يَقُل في تَنْزيله: "والعصر إن الإنسان لفي عافية"، بل قال: ﴿ إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ ﴾ [العصر: 2].
والْمُرابي يفتري الكذب على الله؛ زاعمًا أنَّ البيع مثل الرِّبا؛ ليجمع بين المختلفين المتضادَّيْن، فكذَّب الله المرابين مبيِّنًا إباحة البيع الذي يستلزم العمل والمهارة، وارتفاع الرُّوح المعنويَّة في الفرد، وحصول الانتعاش الاجتماعي بين الأقطار، كما أسلَفْنا ضَرْب المثل التقريبِيِّ له، ﴿ وَحَرَّمَ الرِّبَا ﴾ [البقرة: 275]؛ لأنه يؤدِّي إلى وجود طبقة متفرِّقة مستبدَّة، لا تعمل شيئًا، وتتضخَّم الأموال بين يدَيْها تضخُّمًا لا يقوم على الجهد، ولا ينشأ من العمل، بل أهله شبيهون بالْمُقامرين في بعض الأحوال.
ولْنَعُد إلى قوله تعالى: ﴿ يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ﴾ [البقرة: 275]، وما قاله الزَّمَخشريُّ في "الكشَّاف" من أنَّ تَخبُّط الشيطان من زَعَمات العرب[12]، وتبعه البيضاويُّ تقليدًا، والواجب عليه ردُّه لا تأييده، ولكن الله قيَّض للحقِّ أنصارًا، فنذكر قول بعضهم: قال صاحب "الانتصار": "معنى قول "الكشَّاف": مِن زعَمات العرب؛ أيْ: كذباتهم وزخارفهم التي لا حقيقة لها، وهذا القول على الحقيقة من تَخبُّط الشيطان بالقدَريَّة من زعماتهم المردودة بقواطع الشَّرع، ثم ساق ما ورد في ذلك من الأحاديث والآثار، وقال بعده: واعتقاد السَّلَف، وأهل السُّنة، أنَّ هذه أمورٌ على حقائقها، واقعة كما أخبَر الشَّرع عنها، وإنَّما القدَريَّة خُصَماء العلانية، فلا جرم أنَّهم ينكرون كثيرًا مِمَّا يَزْعمونه مُخالفًا لقواعدهم؛ من ذلك: السِّحر، وخبطة الشَّيطان، ومعظم أحوال الجنِّ، وإن اعترفوا بشيءٍ من ذلك، فعلى غَيْر الوجه الذي يعترف به أهل السُّنة، وينبئ عنه ظاهر الشرع، في خبط طويل لَهم".
وقال الشيخ سعد الدين التَّفتازانِيُّ في شرح "المقاصد": "وبالجملة فالقول بوجود الملائكة والجنِّ والشياطين مِمَّا انعقد عليه إجْماع الآراء، ونطق به كلام الله وكلام الأنبياء".
وقال: "الجنُّ أجسام لطيفة هوائيَّة، تتشكَّل بأشكال مُختلفة، ويَظْهر منها أحوالٌ عجيبة، والشياطين أجسام ناريَّة، شأنُها إلقاء الناس في الفساد والغواية، ولِكَون الهواء والنار في غاية اللطافة والتشفيف كانت الملائكة والجنُّ فوق حاسَّة البصر، إلا إذا اكتسبوا من الممتزجات".
قال العلاَّمة البقاعيُّ بعد نقْلِه ما ذكَرْنا: وقد ورد في كثير من الأحاديث عنه - صلى الله عليه وسلم -: ((إنَّ الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم))[13]، وورد أنَّه - صلى الله عليه وسلم - أخرج الصَّارع من الجِنِّ من جوف المصروع في صورة كلب ونحو ذلك[14].
وفي كتب الله المتقدِّمة ما لا يُحصى من ذلك، وأمَّا مُشاهدة المصروع يُخْبِر بالمغيبات، وهو مصروع غائب الحسِّ، وربَّما كان ملقى في النار وهو لا يحترق، وربَّما ارتفع في الهواء بغير رافع، فكثير جدًّا لا يُحصى مشاهدوه... إلى غير ذلك من الأمور الموجبة للقَطْع: أنَّ ذلك من الْجِنِّ والشياطين.
وهأنا أذكر في ذلك من أحاديث النبي - صلى الله عليه وسلم - ما فيه مقنع لمن تدبَّره، والله الموفِّق:
روى الدَّارمي في أوائل "مُسنده" - بِسَند حسن - عن ابن عبَّاس - رضي الله عنهما -: "أنَّ امرأة جاءت بابْنٍ لَها إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالت: يا رسول الله، إنَّ ابنِي به جنون، وإنَّه يأخذه عند غَدائنا وعَشائنا، فيخبث[15] علينا، فمسَح رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - صدره ودعا، فثَعَّ ثعَّة[16]، وخرَج من صدره مثلُ الجَرْو[17] الأسود فسعَى"[18].
وللدَّارمي أيضًا، وعبْدِ بن حُميد بسند حسن أيضًا، عن جابر - رضي الله عنه - قال: "خرجت مع النبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - في سفر، فركبنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو بيننا - صلى الله عليه وسلم - كأنَّما على رؤوسنا الطيرُ تظلُّنا، فعرضت له امرأة معها صَبِي لها، فقالت: يا رسول الله، ابني هذا يأخذه الشيطان كلَّ يوم ثلاث مرار، فتناول الصبي فجعله بينه وبين مُقدَّم الرَّحل، ثم قال: ((اخسأ عَدُوَّ الله، أنا رسول الله)) ثلاثًا، فدفَعه إليها"[19].
وأخرجه الطبرانِيُّ من وجه آخر، وبيَّن أن السفر غزوة ذات الرقاع، وأنَّ ذلك كان من حرَّة راقم، قال جابر: فلما قضينا سفرنا مرَرْنا بذلك المكان، فعرضَتْ لنا المرأة ومعها صبيُّها، ومعها كبشان تسوقهما، فقالت: يا رسول الله، اقْبَل منِّي هديتي، فو الذي بعثك بالحقِّ ما عاد إليه بَعْد، فقال: خذوا منها واحدًا، ورُدُّوا عليها الآخَر[20]، ورواه البغَوِيُّ في "شرح السُّنة" عن يعلى بن مُرَّة - رضي الله عنه - ثم ساق البقاعي ما جاء في الإنجيل، قال: "وذلك كثير جدًّا"، يعني ما وقع للمسيح - عليه السَّلام - من إخراج الشياطين والأرواح الخبيثة من المُبْتلَيْن بذلك، وبعد أن ساق ذلك قال: "وإنَّما كتبْتُ هذا مع كون ما نُقِل عن نبيِّنا - صلى الله عليه وسلم - كافيًا؛ لأنَّه لا يدفع أن يكون فيه إيناسٌ له، ومصادقة تزيد في الإيمان".
وقد أجاد بيانَ تسلُّطِ الأرواح الخبيثة الإمامُ شَمْسُ الدِّين ابن القيِّم في كتابه "زاد المعاد"[21]، وذكَر علاج نفْعِها، فلْيَرجع إليه اللَّبيب المستزيد في ذِكْره هَدْيه - صلى الله عليه وسلم - في علاج المصروع من ذلك الكتاب، كما أبان أنَّ الصَّرَع نوعان: حقيقي ووَهمي، سببه الأخلاط الرديئة، وفصَّلَ جميع ذلك - رحمه الله.
ولَمَّا كان الرِّبا يتنافى مع تعاليم الإسلام التي تحضُّ على المعاونة الصَّادقة، والمساعدة لمن يحتاجها، قال فيه: ﴿ يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ ﴾ [البقرة: 276].
وقد فسَّروا المَحْق بما يقتضيه معناه من المحق الحسِّي، والمحق المعنوي، حسَبَما تقتضيه حكمةُ الله وإرادته، فالله - سبحانه - يَمْحق مالَ الْمُرابي، ويجعل عاقبته الإفلاس، إمَّا بإهلاك المال الذي جَمَعه من الرِّبا، وإمَّا بإذهاب برَكَتِه، وإذا أزال اللهُ بركةَ الشَّيء لَم يبق له وجود.
وقد اشتهر هذا المَحْق الذي قرَّرَه الله حتَّى عرَفَه العامَّة، فإنَّهم يَذْكرون دائمًا ما يَحْفظونه من أخبار أكَلَة الرِّبا الذين ذهبَتْ أموالُهم، وخربت بيوتُهم، فالمَحْق الذي قرَّره الله لازِمٌ لَهم في الدُّنيا والآخرة، بحيث لا ينتفعون بِما يُنْفِقونه من هذا المال السُّحت[22] خبيثِ الأصل، بل يَمْحَق الله آثاره، فلا يكون لهم ثواب ينتفعون به في الدار الآخرة، وهم أحوج ما يكونون إليه.
وقد روى الإمام أحمد وابن ماجَهْ والحاكِمُ وابن جرير عن ابن مسعود - رضي الله عنه -: "إن الرِّبا وإن كثر، فعاقبته إلى قُلٍّ"[23].
وليس المَحْق المعنويُّ مقصورًا على إزالة البَرَكة من مال الْمُرابي، بل من المَحْق المعنويِّ: سُوء سُمْعته، وعداوة الناس له، وما يُصاب به في نفسه من الوساوس وغيرها.
أمَّا عداوة الناس، فمَنْشؤها قسوة قلبه على المُحتاجين، فيصبح عدوًّا لهم، فهو عدوُّ المحتاجين، وبغيض المُعْوِزين، وقد تَؤُول تلك العداوة والبغضاء إلى مفاسد وأضرار، واعتداء على الأموال والأنفس والثَّمرات، كما ظهر أثر ذلك في الأُمَم التي فشا فيها الرِّبا، حيث قام الفقراء فيها يعادون الأغنياء، ويتألَّبون عليهم، حتَّى صارت هذه المسألة من أعقد المسائل عندهم.
وأمَّا ما يُصاب به في نفسه من الوساوس والأوهام، فهو أمر لا يعرفه إلاَّ المراقب لعباد المال، والمتتبِّع لأخبارهم، فمنهم مَن يشغله المال عن طعامه وشرابه، ومنهم مَن يشغله عن أهله وأولاده، حتى يكون مَحرومًا من نَيْل شهوته ولذَّة فراشه، حتى يقصِّر في حقِّ نفسه وحقوق أهله تقصيرًا هائلاً، ومنهم من يحمله حبُّ المال على ارتكاب المخاطر حتَّى يهلك في سبيله، زيادة على الأحزان والهموم.
وبالجملة: فالمَحْق حاصِلٌ للمُرابين، كما قرَّره الله وقَضاه بِجَميع أنواعه الحسِّية والمعنوية، والمَحْق في اللُّغَة: مَحْو الشيء والذَّهاب به بأيِّ نوع يريده الله الذي كتَبَه على المرابين قُساةِ القلوب، الذين لا يَرْحَمون مُحتاجًا، ولا يُمْهِلون مُعْسرًا إلاَّ بزيادة مال يأخذونه عليهم ربًا.
فهذا الرِّبا لا يَرْبو عند الله، بل كتب الله على أهله المَحْق زيادة على النَّقص، وذلك معاملة مِن الله سبحانه لهم بِنَقيض قصْدِهم وفعلهم؛ وذلك أنَّ حُكْم المال في دين الله ليس ملكًا لصاحبه، وإنَّما هو في الحقيقة وديعة عنده، وهو كالموظَّف لِخَير الجماعة، فليس له أن يتحيَّن ساعاتِ احتياجهم فيأخذ منهم أكثر مِمَّا أعطاهم، فإنَّ النِّظام الاقتصادي إذا قام على الرِّبا فإنَّما يفتح بابًا للكسل وللاحتكار، ولتحكُّم ذي المال فيمن لا مال عنده.
أمَّا إذا زال الرِّبا، فكلُّ رؤوس الأموال تعمل في أنواع التِّجارة من الاستيراد، والمضاربة، والمساقاة، والمزارعة، وسائر أنواع الشركات، فتنفيذ تحريم الرِّبا وقطع دابره معناه رفع السُّدود عن الدَّم الذي يجري في الشرايين، وفتح صحيح لأبواب المعاملات الأخرى على مصاريعها.
فما أعظم الإسلام، وأسْمَى حكمته؛ إذْ حرَّم الرِّبا تحريمًا قاطعًا، وقضى ربُّ الإسلام على صاحب الرِّبا بالْمَحق!
ولما كان الإسلامُ هو دينَ الرُّسل أجمعين، كان الرِّبا مُحرَّمًا في شريعة موسى وعيسى، حتى إنَّه ورد في بعض الأناجيل عن عيسى أنَّ الْمُرابي إذا مات لا يستحقُّ التكفين، ولكن النصارى عاملوا بالرِّبا؛ للأسباب التي ذكرناها سابقًا.
أما اليهود، فهم أُمَّة الإفك والبهتان، والإثم والعدوان، وأكل السُّحت، فقد شجَّع بعضُهم بعضًا على أكل الرِّبا بافترائهم على الله، حيث زعَموا أنَّ تَحْريم الرِّبا على اليهود من اليهوديِّ فقط، وأنَّه ليس عليهم حرج في (الجونيم)؛ يعني: غير اليهود.
وقد أخبرنا الله عنهم في القرآن: ﴿ لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ﴾ [آل عمران:75].
وقد صاروا منهومين في أكل الرِّبا على أبشع الصُّوَر، وسرَتْ عَدْواهم إلى العرَب، حتَّى صار الرِّبا في الجاهلية عند الجميع نوعًا من السُّلطان على النَّفس، حتى قلَّدوا غيرهم في استرقاق الْمَدِين العاجز.
وقد حدَثَ أنَّ أبا لَهَب لم يذهب مع المشركين إلى غزوة (بدر)[24]، وأرسل بدَلَه العاص بن هشام؛ لأنَّه كان مدينًا له يحقُّ له أن يتصرَّف في نفسه؛ ولِهَذا قال له: اذهب، فحارِبْ، وأنا أجلس في البيت، فذهب المدين المسكين وحارب في تلك الغزوة بدلاً عنه؛ يعني: بدلاً عن المرابي المدلَّل.
وهكذا كان اليهود داء وبيلاً على الإنسانية في نشر الرِّبا، وكلِّ رذيلة، وتحريم الربا بجميع أنواعه هو من مَحاسن دين الله.
وقد شدَّد الله في تَحريمه أعظم تشديد، كما ستأتي الآيات في ذلك، وأجْمعَتِ الأُمَّة على تحريمه في صدر القرون، حتى أصبح معلومًا من الدِّين بالضرورة، فمستَحِلُّه كافر مرتدٌّ تَجْري عليه أحكام المرتدِّين.
ومع الأسف أن يقرِّر عقلاء العالم من المسلمين والكفار: أن الرِّبا هو سرُّ شقاء العالَم المعاصر، وأنه سبب الحروب، وأنه تَجِب مُحاربته بكلِّ لون من ألوانه، وفي كلِّ حالة من أحواله، ثُم نرى مع هذا بعضَ علماء أمصار المسلمين يقوم بتحليل نوعٍ أو أنواع من الرِّبا، كربا الفَضْل المشهور تحريمه، كالذي يسمَّى (صندوق التَّوفير) وغيره، بِحُجَّة سهولة الرِّبح تارة - وقد حقَّق رجال الاقتصاد تضخُّمَه وأنَّ رِبْحه ليس بسهل - وتارة أن الرِّبا قد عمَّتْ به البلوى، وارتبطَتْ به مصالِحُ الناس ومنافعهم، وهذا ليس بصحيح، فإنَّه في وقت تحريم الرِّبا قد ارتبطت به مصالح الناس الجاهليِّين، فهل ترك الله تَحْريم الرِّبا لارتباط مصالحهم به، وكذلك الخمر بعده قد عمَّت بِها البلوى، وارتبطت به مصالح الجاهليين والمسلمين أيضًا؛ لقوة التجارة به، فهل ترك الله تحريم الخمر من أجْل ذلك؟ حاشا لله، يجب أن يكون الدِّين مُهَيمنًا على كل شيء، وأن لا يخضع لأيِّ ضغط من ضغوط الجاهلية قديمها وحديثها، وإلاَّ فما قيمة الدين وما فائدته؟!
وفي الوقت الذي نجد فيه بعض بلاد الكفر وطواغيت الكفر يحرِّمون الرِّبا، نجد من أدعياء العلم في الإسلام، أو من العلماء الذين استرخصوا أنفسهم للمغرضين يُبِيح أكل الرِّبا بالشُّبهات السابقة، أو يستدلُّ بقوله تعالى: ﴿ لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً ﴾ [آل عمران: 130]، زاعمًا أنَّ تَحريمه مقيَّدٌ بالأضعاف المضاعفة.
وهذه الآية لا تصلح للاستشهاد قطعًا؛ لأنَّ الشارع أوَّلاً: عوَّدَنا التدرُّج في التحريم كما حصل في الخمر، وثانيًا: أنَّه أراد أن يشنِّع بِها على نوع من أنواع الرِّبا كان شائعًا في الجاهلية، ولا يريد أن يقول: إنَّ الرِّبا إذا لم يكن أضعافًا مضاعفة فهو حلال.
فيجب على المسلم أن يقف عند حدود الله، بِضَمِّ وحيه إلى بعض جميعًا، ولا يقتضب بعض النصوص اقتضابًا؛ ليستنتج منها ما يَهْواه، ويهدر باقي النُّصوص، بل عليه أن يقرأ الآية المَكِّية أوَّلاً، وهي الَّتِي في سورة الرُّوم: ﴿ وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِبًا لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلَا يَرْبُو عِنْدَ اللَّهِ ﴾ [الروم: 39]، ثم يقرأ ما شنَّع الله به على اليهود بقوله: ﴿ وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ ﴾ [النساء: 161]؛ ليعلم أنَّ الذين يعملون عمل اليهود يَمْقتهم الله كما مقَتَ اليهود.
ثم ليقرن هاتَيْن الآيتين بقوله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً ﴾ [آل عمران: 130]، وينظر معها في الآيات التي في سورة البقرة: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ * فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ ﴾ [البقرة: 278 - 279].
وليتدبَّر هل وراء النهي عن بقايا الرِّبا شيء؟ ثم ليتدبَّر آخر نص في الموضوع: وهو قوله سبحانه: ﴿ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ ﴾، هل وراءه شيء؟ ثم لْيُمعن في قوله تعالى: ﴿ فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ ﴾، وقد قرأ حَمْزة وعاصم من رواية ابن عياش ﴿ فَآذِنُوا ﴾ بِمَدِّ الألف، من الإيذان الذي هو الإعلام؛ أيْ: فليُعلِم بعضُكم بعضًا بأنَّكم في حالة حرب مع الله ورسوله؛ فهل بعد هذا شيءٌ يقبل التأويل؟
يتبع