التقوى والعمران الحضاري في القرآن
محمد البوزي
تقديم:
إنَّ الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفُسِنا وسيئات أعمالنا، مَن يهْدِ الله فلا مضلَّ له، ومن يُضْلِل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ محمَّدًا عبدُه ورسوله، وبعد.
قد يعتقد البعضُ أنَّ كلاًّ من التَّقوى والحضارة نشاطان مختلفان للإنسان ومتبايِنان، على اعتِبار أنَّ التَّقوى عبادة خالصة لله - تعالى - معْتمدُها النُّصوص الشرعيَّة، ولا يُرْجَى من ورائها إلاَّ النَّجاة من النَّار ودخول الجنَّة، بينما الحضارة انعكاس لجهود الإنسان ونشاطاته وأعْماله الدنيويَّة القائمة على التسابُق المادِّي، والتفوُّق التكنولوجي، ومعتمدها العلوم المادِّية والاستفادة من تجارب الآخرين واختراعاتهم، ولو كانوا كفَّارًا، وهذا الاعتقاد أو الظَّنّ مردُّه إلى الفهم القاصر والشائع عن مفهوم التقوى، والذي يعتبرها من أخلاق الزُّهَّاد الورِعين أو المتورِّعين عن المسؤوليَّات المشبوهة، ممَّا حرَّف مفهوم التقوى عن حقيقته وحمولته القرآنية الفعَّالة كما وقع لكثير من المفاهيم القرآنية بتأثير الفكر الدخيل على الإسلام.
غير أنَّ مَن تتبَّع آيات التقوى ودرس مفهومها في نصوص القرآن والحديث، واطَّلع على سيرة الرَّسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - وهو إمام المتَّقين، وعرف سير صحابتِه الكرام الَّذين شهد لهم القرآن بالتَّقوى، وشهِد لهم التَّاريخ بإرْساء أُسُس الحضارة الإسلاميَّة النموذجيَّة - سيُدْرِك مدى فعالية التَّقوى وإيجابيَّتها في بناء حضارة إيمانيَّة قائمة على تَحقيق التَّوازُن المادِّي والرُّوحي للإنسان، وهي الكفيلة بإنقاذ إنسان الحضارة المادِّيَّة المعاصرة من متاهات الضَّياع والصِّراع، ومن الأزمات النفسيَّة التي يعيشها.
ولا يخفى أن ما أصاب الأمة الإسلامية في تاريخها من السقوط والنكوص الحضاري، سببه الأساس هو الانحراف عن منهج المتقين، منهج الرَّسول وصحابته الكرام، في العلم والعمل، وفي السِّياسة والاقتِصاد.
وما زالت الأمَّة الإسلاميَّة تعيش مرحلة الضَّعف والوهن الحضاري لأسبابٍ عديدة، أهمُّها ضعف التَّقوى وغياب دور المتقين في تسْيير شؤونِها؛ لأنَّ مَن يقوم بتسْيير دواليب الدُّول الإسلاميَّة في العصر الراهن، لا يهمُّهم من الشعوب إلا الخضوع والإسلام الظاهري، وحظ غالب المسؤولين أنفُسِهم من الإيمان لا يعْدو إيمان المرجئة قديمًا، أو إيمان العلمانيين وأشباههم حديثًا، وقد صدق المفكِّر الغيور الدكتور عبدالمجيد النجار في قوله: "وقد كان الخلل الذي أصاب الأمة الإسلامية في تحمُّلها لعقيدتها عاملاً حاسمًا في انحسارها الحضاري، سواء ما آل إليه الأمر من انحراف في التصور العقدي، أو من سطحية في التحمل الإيماني، تراخى بها الدَّافع الإرادي للعمل الحضاري، وهذا الخلل بِمظهريْه هو نفسه الذي يعوق الأمة اليوم عن الانطلاق من جديد للنهوض الحضاري"[1].
وعليه؛ فحاجة الأمَّة الإسلاميَّة حاليًّا إلى الأمناء الأتْقياء لا تقلُّ أهمِّيَّة عن حاجتها إلى العُلماء المخترعين والتقنيين.
وموضوع هذه الورقة هو بيان دور التَّقوى وقيمها في النُّهوض الحضاري للأمَّة، ويتمحْور على النقاط التَّالية:
1- مفهوم التَّقوى في القُرآن ودورها في العُمران الحضاري.
2- العمران الحضاري وخصائصه في القُرآن الكريم.
3- مفهوم الحضارة والتحضُّر في ميزان القرآن.
4- المتقون متحضرون وبناة الحضارة.
وفيما يلي تحليل لعناصر الموضوع حسب ما يسمح به مجال هذه الورقة:
1- مفهوم التَّقوى في القرآن ودورها في العمران الحضاري:
أ - مفهوم التقوى:
التقوى لغة: أصلها من وقاه يقيه وقاية، ومأخذ مصطلح "التقوى" من (اتقى يتقي اتقاء)، واتَّقى على وزن (افتعل) يفيد بصيغته الصَّرفية معنى الاتِّخاذ؛ أي: اتخاذ ما تتم به الوقاية.
التَّقوى اصطلاحًا: وفي الاصطِلاح تعدَّدت تعاريفها، وإن كان غالب التَّعاريف المعجميَّة ترتبط بأصلها اللغوي (الوقاية) الَّذي يحيل على معاني: الحفظ والصيانة، أو التحرُّز والابتعاد عن المحظور، وهو ما نقرأه في المعاجم الاصطلاحيَّة المشهورة؛ كمفردات الرَّاغب، وتعريفات الجرجاني، وغيرهما.
يقول الرَّاغب الإصفهاني مثلاً: "التقوى: جعل النفس في وقاية مما يخاف، والتَّقوى في تعارف الشَّرع: حِفْظ النَّفس ممَّا يؤثم، وذلك بترْك المحْظور"[2].
غير أنَّ هذه الدِّلالة المعجميَّة الَّتي يوحي بها لفْظ (الاتِّقاء) لا تستوعب دلالة المفهوم الشرعي للتقوى وأبعادها، كما وردت في القرآن الكريم والحديث الشَّريف؛ لأنَّ النَّظر إلى التقوى من الزاوية المعجمية يحصر مفهومها في معاني: الوقاية والحذر، أو الإمساك عن الفعل والتورع، وهو المفهوم المتوارث عن عهد الانحِطاط والجمود الفكري، حيث سادت العقيدة الإرجائيَّة، والفكر الصوفي، وغيرهما من أنماط التَّفكير التي حرَّفت المفاهيم القرآنيَّة عن دلالاتِها الإيجابيَّة، ومنها مفهوم التَّقوى الَّذي صرفوه إلى معاني: الذُّلِّ والانكِسار، وشدَّة الخوف من الله - أو حتَّى ممَّن يدَّعي تمثيل سلطانه في الأرض - فيترجَّح في دلالة لفْظِها جانب التَّرك والإمساك، على جانب الفِعْل والمبادرة، وهو عكس ما تُثْبِته الدِّراسة المصطلحيَّة الاستقرائيَّة لمشتقَّات لفظ التَّقوى ودلالاتها في نصوص القُرآن والحديث، خاصَّة ما يتعلَّق منها بأعمال المتَّقين وأوصافهم التي تفيد أنَّ التقوى "وإن كان جوهرها خشية الله - تعالى - إلاَّ أنَّ هذه الخشية في القلب تجليها العبادات والأعمال الصَّالحة، وليست سرًّا مكنونًا في القلب"؛ أي: إن مفهوم التقوى إيمان وعمل قائمان على العلم بالله - تعالى - ومعرفة شرْعِه والعمل به، وليس تجريدًا مثاليًّا، ولا هو مفهوم سلبي يرتبط بالزهد والكف عن العمل تورعًا عن اقتِحام أمور الحياة وتحمُّل المسؤوليَّات.
وتُفيد الدِّراسة المصطلحيَّة أيضًا أنَّ جانب الفعل أقوى من جانب التَّرك في مفْهوم التَّقوى بقرائن ومؤشّرات لا يسعها المقام[3].
ب- التقوى أم القيم الخلقيَّة والحضارية:
إنَّ التَّقوى شعبة كبرى من شعب الإيمان التي تتفرَّع عنها قيم أخلاقية إيمانيَّة لا حصر لها؛ لذلك فهي أساس التزكية النفسية، وأمّ القيم الخلقية الإيمانية، كما يؤكِّده دارسو الأخلاق القرآنيَّة، والباحثون في أصول التزْكية النفسيَّة في الإسلام[4].
يقول المرحوم مصطفى صادق الرَّافعي مثلاً: "فكان الأصْل الأوَّل فيه لهذه الأخلاق (أخلاق القرآن) هو التَّقوى، وهي فضيلة أراد بها القُرآن إحْكام ما بين الإنسان والخلق، وإحْكام ما بين الإنسان وخالقه، .... ولا يفسر التقوى بالتَّحديد إلا الخلقُ الثَّابت ولا شكَّ أنَّ هذا الخلق الثابت هو أصْل الاجتِماع الَّذي انشعبتْ منه كلُّ فضائل المساواة والحرِّيَّة، وإنَّه (التَّقوى) لذلك مقدم على الإيمان؛ إذ لا إيمان لمن لا تقْوى له"[5]، هذا على مستوى الأخلاق النظريَّة، وعلى مستوى الأخلاق العملية يقول الدكتور محمد عثمان نجاتي: "يتضمَّن مفهوم التقوى أن يتوخَّى الإنسان دائمًا في أعماله الحق والعدل والأمانة والصدق، وأن يُعامل الناس بالحسنى، ويتجنَّب العدوان والظلم، ويتضمَّن مفهوم التقوى كذلك، أن يؤدِّي الإنسان ما يوكل إليه من أعمال على أحسن وجه؛ لأنَّه دائم التوجُّه إلى الله - تعالى - في كلِّ ما يقوم به من أعمال ابتغاء مرضاته وثوابه؛ إذ التَّقوى بهذا المعْنى تصبح طاقةً موجَّهة للإنسان نحو السُّلوك الأحسن والأفضل، ونحو نموِّ الذَّات ورقيّها"[6].
ج- دور قيم التَّقوى في العمران الحضاري:
دوْرها في بناء شخصيَّة الفرد المسلم:
التقوى كما يقول د. عثمان نجاتي: "من العوامل الرئيسة في نضوج الشخصيَّة وتكامُلها واتِّزانها، وبلوغ الكمال الإنساني"[7].
وذلك أنَّها قوَّة روحيَّة في القلب مستمدَّة من الارتِباط بالله القويِّ المتين؛ إنَّها تحْصين ومناعة داخليَّة ضدَّ الانحِراف، وليْستْ هروبًا من الواقع وما يكتنِفه من مغريات ومنزلقات، وبها تصحَّح العقيدة وتخلص من النفاق ومن رواسِب الإرْجاء وما أشبه.
• للتَّقوى دورٌ في تربية العقْل المؤمِن وتَحرير فكره من اتباع الهوى ومن الاستعباد للمادة أو لذوي السُّلْطان والجاه، وأثرها كبير في ترْبِية الضَّمير الحيِّ أو القلْب السَّليم للفرْد المسلم، ممَّا يجعله حارسًا يقظًا، يحرس صاحبَه أن يغفل، ويحرسه ألاَّ يضعف أو يحيد عن الطَّريق المستقيم، وهذه اليقظة والشُّعور بالمسؤوليَّة أهمّ وقاية من ظواهر الغشِّ والاختِلاس والتَّهاوُن في أداء الواجب.
• إجْمالاً، يمكن تلخيص دور التَّقوى وفعاليتها في حياة الفرد المسلم، في كونها: "قيمة عظمى توحّد الشخصيَّة الإنسانيَّة بكل نشاطها واتّجاهاتها، وتجعلها ترْقى سلَّم المجد والعزَّة، وتسلك سبيل التقدُّم والازدِهار وتحيل الإنسان قوَّة منتجة بنَّاءة[8].
• دورها في بناء المجتمع القوي:
لفضيلة التقوى وللقيم المتفرعة عنها دور كبير في تمتين العلاقات الاجتماعية، وفي تماسك المجتمع وبناء الأمة القوية، بدءًا بدورها في استِمْرار العشرة الزوجية وتمتين العلاقة العائلية، وقيامهما على المحبَّة وعلى العدْل والإحسان والتَّسامح وغيرها، وانتِهاء ببناء العلاقات بين الأمم والشُّعوب على التعارُف والتَّعاون على البرِّ والتَّقوى، وقد حثَّ الإسلام على قيم الأخوَّة والتوادّ والتراحُم والتعاون، وعلى الإنفاق والإحسان للضعفاء وكلّها من أخلاق المتقين.
• دور قيم التَّقوى على المستوى الحضاري والكوني:
تكْمن أهمِّيَّة التَّقوى الحضاريَّة والكونيَّة في كوْنِها تحدِّد للأفراد والجماعات مقاييس السُّلوك الصَّائب والعلاقات السليمة في كافَّة ميادين الحياة، ممَّا يجعل الإنسان منسجمًا مع قوانين الوجود في فِكْرِه ومشاعره وسلوكه، ويَجعل المجتمع الَّذي تشيع فيه قِيَم التَّقوى مجتمعًا متوازنًا مع مسيرة التَّطوُّر في نشاطاتِه ومساراته، وهذا يستلزم من الإنسان (المتَّقي) أن يقوم بِجميع المسؤوليَّات على أحسن وجه، ويتَّقي الاصطِدام بالقوانين الإلهيَّة والسنن الكونيَّة الَّتي توجِّه العلاقات بين الإنسان وخالقه، وبيْنه وبين الكون، وبيْنه وبين أخيه الإنسان، فيتَّقي الانحراف عن علاقة العبوديَّة مع ربِّه تعالى، ويتَّقي الانحراف عن علاقة التَّسخير مع الكون، ويتَّقي الانْحِراف عن علاقة العدْل والإحسان مع أخيه الإنسان[9].
والتَّقوى بهذا المنظور الشمولي بمثابة الإطار العام لعمل الإنسان وفق المنهج الربَّاني، الكفيل بتحقيق مهمَّة الاستخلاف والتَّعمير في الأرض عبادة وعملاً.
وفيما يلي أهم القيم الحضاريَّة المتفرعة عن التقوى:
• العدل:
العدل قيمة من قيم التقوى التي تتجسَّد في واقع حياتي محسوس، وهو أقْرب إلى التقوى؛ لأنَّه قائم على مخالفة هوى النفس ونُزوعها لحب الذَّات وتفضيلها على الغير، والعدْل من أرْقى صفات الإنسان المدني المتحضِّر؛ إذ فيه تتجلَّى إنسانيَّته وترفعه عن الدوافع الشخصيَّة والعصبيَّات العرقيَّة أو الحزبيَّة، وعن المطامع الذاتيَّة، وحتَّى عن الخلافات العقديَّة والمذهبيَّة؛ لأنَّ العدل مطلوب ولو مع الخصوم والأعداء؛ كما جاء في قوله تعالى: ﴿ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ﴾[10].
• التعارف والتواصُل الإنساني:
التعارف والتواصُل الإنساني ضرورة اجتماعيَّة وحضاريَّة أقرَّها الإسلام؛ بل دعا إليْها ليتحقَّق التعاوُن على الخير بين بني البشر؛ كما يفهم من قوله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ ﴾[11].
فالناس خلَقَهم الله شعوبًا وقبائل لأجل التَّعارُف، لا للتفاخُر والتَّنافر، ولأجل التواصُل الإنساني الَّذي يقرب بين أجْناس البشر، ويكون مفتاحًا للتَّعاون وتبادُل الخبرات والمنافع بين الناس؛ لاستثمار ما أنعم به الله على الخليقة من خيرات الأرْض ومسخَّرات الكون، وبذلك تتحقَّق أمانة الاستِخْلاف في الأرْض، وعمارتها على الوجْه الَّذي يرضي الله ويسعد الإنسانيَّة جمعاء.
يتبع