عقد التأمين في الفقه الإسلامي والقانون المقارن (5)
د. عباس حسني محمد
الفصل الخامس
عقد التأمين والربا
39- علة الربا في الذهب والفضة:
الذي عليه أكثر الفقهاء هو أن علية الربا في الذهب والفضة هو الثمنية أي أنها ثمن للمثمنات كلها وقيم للمتلفات وبهذا قال الشافعي ومالك وأحمد في رواية عنه[1].
40- قياس العملات المعاصرة على الذهب والفضة:
لما كانت العلة في الذهب والفضة هي الثمنية ولما كان هذان النقدان قد تراجعا الآن وحل محلهما في جميع أسواق العالم – فيما عدا بعض الحالات الدولية – العملات الورقية والمعدنية فهي التي أصبحت على اختلاف جنسياتها ثمنا للمثمنات كلها وقيما للمتلفات فالثمنية متوافرة تماما في جميع عملات العالم ولذلك يجري على هذه العملات الآن ما يجري على الذهب والفضة من أحكام شرعية. وهذه الثمنية غير مرتبطة بالذهب والفضة وإن كان الذهب يعتبر غطاء لهذه العملات إلا أن هذا الغطاء الذهبي لا أثر له على الإطلاق في كون هذه العملات تتمتع بعلة الثمنية تماما كالذهب في الماضي.
ومن ثم فإنه لا يجوز مبادلة هذه العملات في حالة اتفاق الجنس (بين العملات المتبادلة) إلا مثلا بمثل أي لا يجوز فيها ربا الفضل تماما كما في مبادلة الذهب بالذهب.
وإذا اختلف جنس العملات (كمبادلة دينارات كويتية بريالات سعودية مثلا) فإن التفاضل يجوز فيها ولا يعتبر حراما ولكن لا يجوز فيها النسيئة. لأنها في حالة اختلاف الجنس تعتبر صرفا وعقد الصرف يشترط لصحته التقابض في مجلس العقد.
وهذا كله واضح من حديث عبادة بن الصامت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (الذهب بالذهب مثلا بمثل والفضة بالفضة مثلا بمثل والتمر بالتمر مثلا بمثل والبر بالبر مثلا بمثل والملح بالملح مثلا بمثل والشعير بالشعير مثلا بمثل فمن زاد أو ازداد فقد أربى بيعوا الذهب بالفضة كيف شئتم يدا بيد وبيعوا البر بالتمر كيف شئتم يدا بيد وبيعوا الشعير بالتمر كيف شئتم يدا بيد)[2].
41- عقود التأمين والربا:
لقد رأينا أن التكييف الصحيح لعقد التأمين التجاري هو أنه عقد بيع نقود بنقود[3] ولهذا فإنه لا يجوز فيه ربا الفضل إذا كان النقد من جنس واحد ولا يجوز فيها ربا النسيئة إذا اختلف النقدان في الجنس.
ومن هذا يبين أن الربا لا بد حاصل في عقود التأمين التجاري سواء اتفق النقدان في الجنس أم اختلفا؛ وذلك لأنه إذا اتفق جنس النقدين وهو الحاصل فعلا فإن التفاضل لا بد حاصل فيهما لأن مبلغ التأمين يندر أن يساوي مجموع الأقساط التي يدفعها الشخص المستأمن بل إن أحدا لا يعرف وجه التحقيق ما الذي سيدفعه كل من المستأمن وشركة التأمين فقد يدفع المستأمن قسطا واحدا يساوي مثلا مائة جنيه مصري وتحصل الكارثة فتدفع شركة التأمين مبلغ التأمين كاملا وقد يكون بضعة آلاف من الجنيهات المصرية فربا الفضل هنا متحقق وربا النسيئة أيضا متحقق. لأن النقدين لم يسلما في مجلس العقد. وكل ما يحرم فيه البيع بالتفاضل يحرم فيه البيع نساء وفي هذا يقول ابن قدامة:
(وكل ما حرم فيه التفاضل حرم فيه النساء بغير خلاف نعلمه ويحرم التفرق قبل القبض لقول النبي صلى الله عليه وسلم (عينا بعين) وقوله (يد بيد) لأن تحريم النساء آكد ولذلك جرى في الجنسين المختلفين فإذا حرم التفاضل فالنساء أولى بالتحريم)[4].
ويجب أن يلاحظ هنا في هذه النقطة بالذات أن هناك فارقا كبيرا بن عقد البيع وعقد القرض، ففي عقد البيع يحرم التفاضل ويحرم النساء أيضا في حالة اتفاق جنس النقدين المتبادلين وأما في عقد القرض فإن التفاضل هو الذي يحرم فقط ولكن النساء لا يحرم ولكن بشرط اتفاق الجنس فإذا اقترض ذهبا لمدة عام فلا بد أن يرده ذهبا بنفس الوزن أي بغير اختلاف في الجنس وبغير تفاضل، فلا يجوز أن يرد بدلا من الذهب فضة.
ولا يجوز أن يرد إلا قدر الذهب الذي اقترضه بغير زيادة وهذا مصدق أيضا على العملات المعاصرة التي حلت الآن محل الذهب والفضة.
ولما كان عقد التأمين إنما هو عقد بيع أقساط التأمين بمبلغ التأمين مع تعليق أحد النقدين وهو مبلغ التأمين على حصول الكارثة أو الحادث المتفق عليه ومن ثم فإن الربا لابد حاصل في هذا العقد وهو ربا فضل وربا نسيئة في آن واحد لأن النقدين من جنس واحد والتفاضل حاصلا بينهما قطعا كما أنهما لا يتصوران إلا نسيئة لأن مبلغ التأمين معلق على حصول الحادث وما يدفعه المؤمن مقسط على عدة سنوات.
وأما إذا اختلف جنس النقدين بأن اتفقت الشركة على أن تدفع مبلغ التأمين من جنس مختلف عن جنس أقساط التأمين حتى يصبح التفاضل بين النقدين حلالا فإن العقد رغم ذلك سيكون باطلا بسبب ربا النسيئة لأن بيع أحد النقدين بنقد آخر مختلف معه في الجنس لا يصح أبدا إلا إذا كان التبادل في مجلس واحد وهو مجلس العقد وهذا مستحيل التصور بالنسبة لعقد التأمين الذي يقوم أساسا على تقسيط أحد النقدين وهو ما يدفعه المستأمن وعلى تعليق النقد الآخر على حصول الكارثة أو الحادث.
ومن هذا يبين بجلاء أن عقد التأمين التجاري الذي يعتبر في الحقيقة عقد بيع نقد بنقد إنما هو عقد باطل بسبب ربا الفضل وربا النسيئة معا إذا كان النقدان من جنس واحد وبسبب ربا النسيئة إذا كان النقدان من جنسين مختلفين.
[1] المغنى لابن قدامة جزء 4 ص5، 6، 7.
[2] رواه مسلم ويراجع في هذا المعنى المغنى لابن قدامة جزء 4 ص5 وما بعدها.
[3] انظر فقرة 17 من هذا البحث.
[4] المغني لابن قدامة جزء 4 ص9، 10.