خروج النجس غير البول والغائط من غير السبيلين
دبيان محمد الدبيان
إذا خرج من البدن شيء نجس، ولم يكن بولاً ولا غائطًا، وكان خروجه من غير السبيلين، كما لو رعف، أو تقيأ، أو جرح بدنه، فهل يعتبر خروجه حدثًا ناقضًا للوضوء؟
اختلف العلماء في هذا:
فقيل: يعتبر خروجه حدثًا ناقضًا للوضوء بشرطه، وهذا مذهب الحنفية[1]، والحنابلة[2].
وقيل: لا يعتبر خروجه حدثًا، وهو مذهب المالكية[3]، والشافعية[4].
دليل من قال: خروج النجس ينقض الوضوء:
الدليل الأول:
(1013-242) ما رواه البخاري من طريق هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة، قالت: جاءت فاطمة بنت أبي حبيش إلى النبي - صلى الله عليه وسلم-، فقالت: يا رسول الله، إني امرأة أستحاض فلا أطهر، أفأدَع الصلاة؟ قال: ((لا؛ إنما ذلكِ عِرق، وليست بالحيضة، فإذا أقبلَت الحيضة فدَعي الصلاة، وإذا أدبرتْ فاغسلي عنك الدم، ثم صلي)).
قال: وقال أبي: ثم توضئي لكل صلاة حتى يجيء ذلك الوقت. ورواه مسلم دون زيادة الوضوء لكل صلاة[5].
وجه الاستدلال:
أمرها بالوضوء من دم الاستحاضة، وعلل ذلك بأنه دم عِرق، فيؤخذ منه أن دماء العروق الخارجة من البدن توجب الوضوء من أي موضع خرجت؛ لأنه لم يعلل الوضوء بأنه دم خارج من سبيل، بل قال: ((إنما ذلك عِرق)).
ويجاب عن ذلك:
أولاً: أن الدم ليس بنجس على الصحيح، وأنتم تخصون النقض بما كان نجسًا، وسيأتي تحرير ذلك - بحول الله وقوته - في كتاب أحكام النجاسة، وإذا كان الدم طاهرًا، لم يكن ناقضًا؛ كالعَرَق، والبصاق، واللبن، والدمع ونحوها.
ثانيًا: أن قوله: ((إنما ذلك عرق)) ليس تعليلاً لإيجاب الوضوء؛ وإنما هو تعليل لوجوب الصلاة؛ لأن السؤال كان عن الصلاة، حيث قالت: أفادع الصلاة؟ قال: ((لا؛ إنما ذلك عرق))، ولذلك لما خالف دم الاستحاضة دم الحيض، لم يمنع من الصلاة وإن كان دمًا وخارجًا من سبيل.
ثالثًا: قد بيَّنا أن قوله: "توضئي لكل صلاة" إنما هو من كلام عروة، وليس مرفوعًا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم-، كما سبق أن نقلنا كلام الحافظ ابن رجب - رحمه الله - بأن أحاديث الوضوء لكل صلاة في حق المستحاضة مضطربة ومعللة.
الدليل الثاني:
(1014-243) ما رواه الترمذي، قال: حدثنا أبو عبيدة بن أبي السفر - وهو أحمد بن عبدالله الهمداني الكوفي - وإسحاق بن منصور، عن عبدالصمد بن عبدالوارث، حدثني أبي، عن حسين المعلم، عن يحيى بن أبي كثير، قال: حدثني عبدالرحمن بن عمرو الأوزاعي، عن يعيش بن الوليد المخزومي، عن أبيه، عن معدان بن أبي طلحة، عن أبي الدرداء أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم- قاء، فأفطر، فتوضأ، فلقيت ثوبان في مسجد دمشق فذكرت ذلك له، فقال: صدق؛ أنا صببتُ له وضوءه[6].
[إسناده حسن إن شاء الله تعالى][7].
وجه الاستدلال:
قوله في الحديث: "قاء فتوضأ" يدل على أن الوضوء كان مرتبًا على القيء وبسببه، وهو المطلوب، فتكون للسببية[8].
وأجيب:
أولاً: أن الوضوء مجرد فعل من النبي - صلى الله عليه وسلم-، والفعل المجرد لا يدل على الوجوب، أقصى ما يدل عليه الفعل إذا كان على وجه التعبد، ولم يكن بيانًا لمجمل أن يدل على الاستحباب؛ ولذلك لما تيمم الرسول - صلى الله عليه وسلم- لرد السلام، لم يقل أحد بوجوب التيمم لرد السلام.
وقال ابن المنذر: "وليس يخلو هذا الحديث من أمرين: إما أن يكون ثابتًا، أو غير ثابت، فإن كان ثابتًا فليس فيه دليل على وجوب الوضوء منه؛ لأن في الحديث أنه توضأ، ولم يذكر أنه أمر بالوضوء منه، كما أمر بالوضوء من سائر الأحداث.
وإن كان غير ثابت، فهو أبعد من أن يجب فيه فرض"[9] اهـ كلام ابن المنذر.
ثانيًا: أن الاستدلال بهذا الحديث مبني على أن القيء نجس، والقيء ليس بنجس على الصحيح، بل هو طاهر، وقد بينت طهارته - ولله الحمد - في كتاب أحكام النجاسات.
الثالث: أن القيء لا يفطر إلا ما كان منه على وجه التعمد، والحديث المحفوظ فيه أنه قاء، وليس استقاء.
الرابع: أن الوضوء قد يكون بعد القيء من أجل النظافة وإزالة القذر الذي يبقى في الفم، وربما في الأنف، وما يصيب البدن منه، لا من أجل كون القيء حدثًا ناقضًا للوضوء، فلا نستطيع أن نحكم على من تطهر بموجب الكتاب والسنة، أن نحكم عليه بفساد عبادته، إلا بدليل من كتاب أو سنة أو إجماع، والله أعلم.
الدليل الثالث:
(1015-244) ما رواه ابن ماجه، من طريق إسماعيل بن عياش، عن ابن جريج، عن ابن أبي مليكة، عن عائشة، قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم-: ((من أصابه قيء أو رعاف أو قلس أو مذي، فلينصرف، فليتوضأ، ثم ليبنِ على صلاته، وهو في ذلك لا يتكلم))[10].
[إسناده ضعيف][11].
ومع ضعف إسناده، فإن في متنه نكارة؛ لأن القيء والقلس إن كانا حدثين فإن الحدث مبطل للطهارة، وإذا بطلت الطهارة أثناء الصلاة بطلت الصلاة، كما لو خرجت منه ريح أو بول أو غائط أثناء الصلاة، فإن الصلاة كلها تبطل، وإذا تطهر وجب عليه استئناف الصلاة، فما بال الرعاف والقيء يخرج منه، ثم يذهب وينصرف عن القبلة، ويشتغل بالطهارة، وهي حركة كثيرة أجنبية عن الصلاة، وهو في ذلك كله لم يخرج من الصلاة؛ لأنه يحرم عليه الكلام حينئذٍ، ثم يرجع ويبني على صلاته؟ فإن كان الرعاف والقيء حدثًا، فقد خرج من الصلاة، وإن لم يكن ذلك حدثًا فلماذا يشتغل بالطهارة؟
الدليل الرابع:
(1016-245) ما رواه الدارقطني من طريق أبي بكر الداهري، عن حجاج، عن الزهري، عن عطاء بن يزيد، عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم-: ((من رعف في صلاته، فليرجع فليتوضأ وليبنِ على صلاته))[12].
[ضعيف جدًّا][13].
الدليل الخامس:
(1017-246) ما رواه الطبراني، قال: حدثنا يحيى بن محمد الحيالي[14]، ثنا أحمد بن عبدة، ثنا الحسين بن الحسن، ثنا جعفر بن زياد الأحمر، عن يزيد بن أبي خالد[15]، عن أبي هاشم، عن زاذان، عن سلمان - رضي الله عنه - قال: رعفت عند النبي - صلى الله عليه وسلم-، فأمرني أن أحدث وضوءًا[16].
[إسناده ضعيف][17].
الدليل السادس:
(1018-247) ما رواه الدارقطني من طريق عمران بن موسى، نا عمر بن رياح، نا عبدالله بن طاوس، عن أبيه، عن ابن عباس، قال: كان رسول الله إذا رعف في صلاته توضأ، ثم بنى على ما بقي من صلاته[18].
[إسناده ضعيف جدًّا][19].
(1019-248) وروي عن ابن عباس من وجه آخر، أخرجه الدارقطني من طريق محمد بن سلمة عن ابن أرقم، عن عطاء، عن ابن عباس، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم-: ((إذا رعف أحدكم في صلاته، فلينصرف، فليغسل عنه الدم، ثم ليعد وضوءه، ويستقبل صلاته))[20].
قال الدارقطني: سليمان بن أرقم متروك[21].
الدليل السابع:
(1020-249) ما رواه الدارقطني من طريق عيسى بن المنذر، نا بقية، عن يزيد بن خالد، عن يزيد بن محمد، عن عمر بن عبدالعزيز، قال:
قال تميم الداري: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم-: ((الوضوء من كل دم سائل))[22].
[ضعيف جدًّا] [23].
الدليل الثامن:
(1021-250) ما رواه الدارقطني، من طريق حفص الفراء، ثنا سوار بن مصعب، عن زيد بن علي، عن أبيه، عن جده، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم-: ((القلس حدث))[24].
قال الدارقطني: سوار متروك، ولم يروه عن زيد غيره[25].
يتبع