
12-02-2020, 02:46 AM
|
 |
قلم ذهبي مميز
|
|
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 157,763
الدولة :
|
|
اللؤلؤ والجوهر المستخرج من سورة الكوثر
اللؤلؤ والجوهر المستخرج من سورة الكوثر
د. نايف بن أحمد الحمد
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وبعد فقد منَّ الله تعالى على نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - بأن جعل ذمَّ المشركين له رفعةً وعلواً فكلما ذمه ذام منهم وانتقصه أكرمه الله ببشارة هي خير من الدنيا وما فيها[1] ومن ذلك أن العاص بن وائل السهمي كان إذا ذُكر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: دعوه فإنما هو رجل أبتر لا عقب له، لو هلك انقطع ذكره واسترحتم منه، فأنزل الله تعالى في ذلك ﴿ إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ ﴾ إلى آخر السورة[2].
ومما قيل في سبب نزولها:
ما رواه ابن عباس رضي الله عنهما قال: قدم كعب بن الأشرف[3] مكة فقالت له قريش: أنت سيدهم ألا ترى إلى هذا المُصَنْبر المنبتر من قومه يزعم أنه خير منا، ونحن أهل الحجيج، وأهل السدانة وأهل السقاية؟ فقال: أنتم خير منه. قال: فنزلت: ﴿ إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأبْتَرُ ﴾[4]. وهذا هو ديدن اليهود والمنافقين في كل زمان ومكان يزينون للمشركين ما هم عليه من كفر وضلال تصريحا تارة وتلميحا أخرى بل تعدى الأمر هذا عند كثير من أبناء المسلمين فقد قاموا بتعداد محاسن المشركين - زعموا- وتزيينها في نفوس الشباب والفتيات عبر وسائل الإعلام المتنوعة المقروء.
منها والمرئي والمسموع وانتقاص المسلمين والتقليل من شأن العلماء الربانيين في التحذير من ذلك بل ووصموهم بما هم منه براء ناسين أو متناسين قول الله تعالى: ﴿ وَعْدَ اللَّهِ لا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ * يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِّنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ * أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنفُسِهِمْ مَا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلاَّ بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُّسَمًّى وَإِنَّ كَثِيرًا مِّنَ النَّاسِ بِلِقَاء رَبِّهِمْ لَكَافِرُونَ * أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُوا الأَرْضَ وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا وَجَاءتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ * ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاؤُوا السُّوأَى أَن كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَكَانُوا بِهَا يَسْتَهْزِؤُون * اللَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ * وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُبْلِسُ الْمُجْرِمُونَ * وَلَمْ يَكُن لَّهُم مِّن شُرَكَائِهِمْ شُفَعَاء وَكَانُوا بِشُرَكَائِهِمْ كَافِرِينَ * وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ * فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ * وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَلِقَاء الآخِرَةِ فَأُوْلَئِكَ فِي الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ ﴾ [الروم: 6- 16].
وعودا إلى سورة الكوثر؛ فهي ثلاث آيات قصار وهي أقصر سورة في القرآن[5].
قال الطاهر بن عاشور - رحمه الله تعالى -: "سميت هذه السورة في جميع المصاحف التي رأيناها وفي جميع التفاسير أيضاً سورة الكوثر وكذلك عنونها الترمذي في كتاب التفسير من جامعه[6]، وعنونها البخاري في (صحيحه)[7] سورة: ﴿ إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ ﴾ ولم يعدَّها في (الإِتقان)[8] مع السور التي لها أكثر من اسم، ونقل سعد الله الشهير بسعْدِي في (حاشيته على تفسير البيضاوي) عن البِقاعي[9] أنها تسمى (سورة النحر)[10].
وهل هي مكية أو مدنية؟ تعارضت الأقوال والآثار في أنها مكية أو مدنية تعارضاً شديداً، فهي مكية عند الجمهور[11] واقتصر عليه أكثر المفسرين".اهـ.[12]
وسورة الكوثر مدنية في قول الحسن وعكرمة وقتادة ومجاهد وصوَّبه السيوطي في الاتقان[13] ورجحه النووي[14] رحمهم الله تعالى جميعا.
قال تعالى: ﴿ إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ ﴾ هذه الآية تدل على عطية كبيرة صادرة من معط كبير غني واسع، وصدَّر الآية (بإنَّ) الدالة على التأكيد وتحقيق الخبر وجاء الفعل بلفظ الماضي الدال على التحقيق وأنه أمر ثابت واقع ولا يدفعه ما فيه من الإيذان بأن إعطاء الكوثر سابق في القدر الأول حين قدرت مقادير الخلائق قبل أن يخلقهم بخمسين ألف سنة[15] وحذف موصوف الكوثر ليكون أبلغ في العموم؛ لما فيه من عدم التعيين [16].
ما هو الكوثر؟
والكوثر فسره النبي - صلى الله عليه وسلم - كما في حديث أنس رضي الله عنه قال: بينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذات يوم بين أظهرنا إذ أغفى إغفاءة ثم رفع رأسه متبسما فقلنا ما أضحكك يا رسول الله؟ قال: (أُنزلت على آنفا سورة). فقرأ بسم الله الرحمن الرحيم ﴿ إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ * فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ * إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأَبْتَرُ ﴾.
ثم قال: (أتدرون ما الكوثر)؟ فقلنا: الله ورسوله أعلم. قال: (فإنه نهر وعدنيه ربى عز وجل عليه خير كثير هو حوض ترد عليه أمتى يوم القيامة آنيته عدد النجوم فيُختلج[17] العبد منهم فأقول: رب إنه من أمتى. فيقول: ما تدري ما أحدث بعدك)[18] وهذا الحديث استدل به مَن يرى السورة مدنية لرواية أنس له ولم يُسلم رضي الله عنه إلا في المدينة[19].
وعن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: الكوثر الخير الكثير الذي أعطاه الله إياه. قال أبو بشر: قلت لسعيد إن أناسا يزعمون أنه نهر في الجنة؟ فقال سعيد: النهر الذي في الجنة من الخير الذي أعطاه الله إياه [20].
قال الحافظ ابن حجر - رحمه الله - معلقا على قول سعيد: وحاصل ما قاله سعيد بن جبير أن قول ابن عباس إنه الخير الكثير لا يخالف قول غيره إن المراد به نهر في الجنة لأن النهر فرد من أفراد الخير الكثير ولعل سعيدا أومأ إلى أن تأويل ابن عباس أولى لعمومه لكن ثبت تخصيصه بالنهر مِن لفظ النبي - صلى الله عليه و سلم - فلا معدل عنه.اهـ.[21]
وقد نقل المفسرون في الكوثر أقوالا أخرى غير هذين تزيد على العشرة منها: قول عكرمة الكوثر النبوة، وقول الحسن الكوثر القرآن، وقيل تفسيره، وقيل الإسلام، وقيل إنه التوحيد، وقيل كثرة الأتباع، وقيل الإيثار، وقيل رفعة الذكر، وقيل نور القلب، وقيل الشفاعة، وقيل المعجزات، وقيل إجابة الدعاء، وقيل الفقه في الدين، وقيل الصلوات الخمس[22]. والصحيح هو ما فسره به النبي - صلى الله عليه وسلم - والله أعلم.
وهذا النهر العظيم جاءت له صفات كثيرة منها:
ما جاء في حافتيه وطينته: روى أنس بن مالك رضي الله عنه: عن النبي صلى الله عليه و سلم قال: (بينما أنا أسير في الجنة إذا أنا بنهر حافتاه قباب الدر المجوف قلت: ما هذا يا جبريل؟ قال: هذا الكوثر الذي أعطاك ربك فإذا طينه أو طيبه مسك أذفر)[23].
وفي رواية للبخاري عن أنس رضي الله عنه قال: لما عرج بالنبي صلى الله عليه و سلم إلى السماء قال: (أتيت على نهر حافتاه قباب اللؤلؤ مجوفا فقلت ما هذا يا جبريل؟ قال: هذا الكوثر)[24].
وكذا حافتاه من ذهب كما في حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (الكوثر نهر في الجنة حافتاه من ذهب ومجراه على الدر والياقوت تربته أطيب من المسك وماؤه أحلى من العسل وأبيض من الثلج)[25].
أما آنيته: فقد قال أنس رضي الله عنه قال نبى الله - صلى الله عليه وسلم - (تُرى فيه أباريق الذهب والفضة كعدد نجوم السماء)[26].
أما مجراه وتربته وماؤه: فكما في حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه و سلم (الكوثر نهر في الجنة حافتاه من ذهب ومجراه على الدر والياقوت تربته أطيب من المسك وماؤه أحلى من العسل وأبيض من الثلج)[27].
وقد حدث النبي - صلى الله عليه وسلم - عن طيوره في حديث أنَس بْن مَالِكٍ رضي الله عنه أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - مَا الْكَوْثَرُ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - (هُوَ نَهَرٌ أَعْطَانِيهِ اللَّهُ فِي الْجَنَّةِ أَبْيَضُ مِنْ اللَّبَنِ وَأَحْلَى مِنْ الْعَسَلِ فِيهِ طُيُورٌ أَعْنَاقُهَا كَأَعْنَاقِ الْجُزُرِ) فَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: إِنَّهَا لَنَاعِمَةٌ يَا رَسُولَ اللَّهِ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: (آكِلُوهَا أَنْعَمُ مِنْهَا)[28].
وراه أنس بلفظ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: (إِنَّ طَيْرَ الْجَنَّةِ كَأَمْثَالِ الْبُخْتِ تَرْعَى فِي شَجَرِ الْجَنَّةِ) فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ هَذِهِ لَطَيْرٌ نَاعِمَةٌ. فَقَالَ (أَكَلَتُهَا أَنْعَمُ مِنْهَا) قَالَهَا ثَلَاثًا (وَإِنِّي لَأَرْجُو أَنْ تَكُونَ مِمَّنْ يَأْكُلُ مِنْهَا يَا أَبَا بَكْرٍ)[29].
قال ملا علي القاري - رحمه الله تعالى -: "في ذلك النهر أو في أطرافه طير أي جنس من الطيور طويل العنق وكبيره أعناقها كأعناق الجزر بضم الجيم والزاي جمع جزور والمعنى أنه أعد للنحر ليأكل منه أصحاب شرب ذلك النهر فإنه بها يتم عيش الدهر".اهـ.[30] وقوله: (لناعمة) أي سمان مترفة[31].
ومن صفاته أنه يجري على وجه الأرض من غير شق فيها لحديث أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه أَنَّهُ قَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ: {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ}، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: (أُعْطِيتُ الْكَوْثَرَ فَإِذَا هُوَ نَهَرٌ يَجْرِي وَلَمْ يُشَقَّ شَقًّا فَإِذَا حَافَتَاهُ قِبَابُ اللُّؤْلُؤِ فَضَرَبْتُ بِيَدِي إِلَى تُرْبَتِهِ فَإِذَا هُوَ مِسْكَةٌ ذَفِرَةٌ وَإِذَا حَصَاهُ اللُّؤْلُؤُ)[32].
وعن معاوية بن قرة عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: أظنكم تظنون أن أنهار الجنة أخدود في الأرض! لا والله، إنها لسائحة على وجه الأرض، إحدى حافتيها اللؤلؤ، والأخرى الياقوت، وطينها المسك الأذفر. قال: قلت: ما الأذفر؟ قال: الذي لا خلط له[33].
وسأل سماكٌ ابنَ عباس رضي الله عنهما عن أنهار الجنة أفي أخدود؟ قال: لا ولكنها تجري على أرض الجنة مستكفة لا تفيض ها هنا ولا ها هنا قال الله لها كوني فكانت[34] [35].
قال ابن القيم - رحمه الله تعالى -:
أنهارها في غير أخدود جرت 
سبحان ممسكها عن الفيضان 
من تحتهم تجري كما شاؤوا 
مفجرة وما للنهر من نقصان[36] 
أما موقعه:
فعن أبى عبيدة بن عبد الله قال: قلت لعائشة رضي الله عنها ما الكوثر؟ قالت: نهر أعطيه النبي صلى الله عليه و سلم في بُطنان الجنة. قال: قلت وما بطنان[37] الجنة؟ قالت: وسطها حافتاه درة مجوف [38]. وقد قال ابن مسعود رضي الله عنه مفسرا قوله تعالى: {جَنَّاتُ عَدْنٍ} بُطنان الجنة [39].
قوله تعالى: ﴿ فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ ﴾ قال ابن كثير - رحمه الله تعالى -: أي أخلص له صلاتك وذبيحتك، فإن المشركين كانوا يعبدون الأصنام ويذبحون لها، فأمره الله تعالى بمخالفتهم والانحراف عما هم فيه، والإقبال بالقصد والنية والعزم على الإخلاص لله تعالى.اهـ.[40]
وقال ابن القيم - رحمه الله تعالى -: "وقال آخرون في قوله: ﴿ فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ ﴾ إن المراد به ضع يدك على نحرك وتكايس غيره وقال المعنى استقبل القبلة بنحرك فهضموا معنى هذه الآية التي جمعت بين العبادتين العظيمتين الصلاة والنسك".اهـ.[41]
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله تعالى -: أمره الله أن يجمع بين هاتين العبادتين العظيمتين، وهما الصلاة والنسك الدالتان على القرب والتواضع والافتقار وحسن الظن، وقوة اليقين، وطمأنينة القلب إلى الله، وإلى عدته وأمره، وفضله، وخلفه، عكس حال أهل الكبر والنفرة وأهل الغني عن الله الذين لا حاجة في صلاتهم إلى ربهم يسألونه إياها، والذين لا ينحرون له خوفًا من الفقر، وتركًا لإعانة الفقراء وإعطائهم، وسوء الظن منهم بربهم.اهـ.[42]
والمتتبع لسيرته - صلى الله عليه وسلم - يجده قد قام بهاتين العبادتين خير قيام امتثالا لأمر ربه: ﴿ يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ * قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلاً * نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً * أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً * إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً * إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئاً وَأَقْوَمُ قِيلاً * إِنَّ لَكَ فِي النَّهَارِ سَبْحاً طَوِيلاً * وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً ﴾ [المزمل: 1- 8]، فقد كان يقوم الليل حتى تتفطر قدماه كما في حديث أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها: أن نبي الله صلى الله عليه و سلم كان يقوم من الليل حتى تتفطر قدماه فسألته لم تصنع هذا يا رسول الله وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ قال: (أَفَلَا أٌحِب أنْ أَكُونَ عَبْدًا شَكُورًا)[43]
وكان - صلى الله عليه وسلم - يضحي بكبشين أقرنين يذبحهما بيده كما في حديث أنس رضي الله عنه[44].
وفي حجة الوداع يروي جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أنه - صلى الله عليه وسلم - انصرف إلى المنحر فنحر ثلاثا وستين بيده ثم أعطى عليا فنحر ما غبر[45].
وجاء الوعيد الشديد لمن صرف شيئا من ذلك لغير الله تعالى كما يحدث الآن في المشاهد وعند الأضرحة فعن أمير المؤمنين علي رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: (لَعَنَ اللَّهُ مَنْ ذَبَحَ لِغَيْرِ اللَّهِ)[46].
وقال تعالى: ﴿ قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ ﴾ [الأنعام: 162- 163] وعن أنس رضي الله عنه قال قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (لاَ عَقْرَ فِي الإِسْلاَمِ). قال عبد الرزاق: كانوا يعقرون عند القبر بقرة أو شاة[47].
وعن ثابت بن الضحاك رضي الله عنه قال: نذر رجل على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن ينحر إبلا ببوانة فأتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: إنى نذرت أن أنحر إبلا ببوانة. فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (هل كان فيها وثن من أوثان الجاهلية يعبد) ؟. قالوا: لا. قال: (هَلْ كَانَ فِيهَا وَثَنٌ مِنْ أَوْثَانِ الْجَاهِلِيَّةِ يُعْبَدُ)؟. قالوا: لا. قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (أَوْفِ بِنَذْرِكَ فَإِنَّهُ لاَ وَفَاءَ لِنَذْرٍ فِي مَعْصِيَةِ اللَّهِ وَلاَ فِيمَا لاَ يَمْلِكُ ابْنُ آدَمَ)[48].
قال العلامة حافظ الحكمي - رحمه الله تعالى -: "بل نحروا في سوحها أي في أفنية القبور النحائر من الإبل والبقر والغنم إذا نابهم أمر أو طلبوا حاجة من شفاء مريض أو رد غائب أو نحو ذلك وأكثرهم يسمها للقبر من حيث تولد ويربيها له إلى أن تصلح للقربة في عرفهم ولا يجوز عندهم تغييرها ولا تبديلها ولا خصيها ولا وجاؤها لا يذهب شيء من دمها إذ ذلك عندهم نقص فيها وبخس فِعْل أولي التسييب والبحائر أي كفعل مشركي الجاهلية من العرب وغيرهم في تسييبهم السوائب وتبحير البحائر وجعل الحام[49]".اهـ.[50]
وقال الصنعاني - رحمه الله تعالى -: "وأما النذور المعروفة في هذه الأزمنة على القبور والمشاهد والأموات فلا كلام في تحريمها لأن الناذر يعتقد في صاحب القبر أنه ينفع ويضر ويجلب الخير ويدفع الشر ويعافي الأليم ويشفي السقيم وهذا هو الذي كان يفعله عباد الأوثان بعينه فيحرم كما يحرم النذر على الوثن ويحرم قبضه لأنه تقرير على الشرك ويجب النهي عنه وإبانة أنه من أعظم المحرمات وأنه الذي كان يفعله عباد الأصنام لكن طال الأمد حتى صار المعروف منكرا والمنكر معروفا وصارت تعقد اللواءات لقباض النذور على الأموات ويجعل للقادمين إلى محل الميت الضيافات وينحر في بابه النحائر من الأنعام وهذا هو بعينه الذي كان عليه عباد الأصنام فإنا لله وإنا إليه راجعون".اهـ.[51]
قوله تعالى: ﴿ إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأبْتَرُ ﴾ قال العلامة السعدي - رحمه الله تعالى -: "﴿ إِنَّ شَانِئَكَ ﴾ أي: مبغضك وذامك ومنتقصك ﴿ هُوَ الأبْتَرُ ﴾ أي: المقطوع من كل خير، مقطوع العمل، مقطوع الذكر، وأما محمد - صلى الله عليه وسلم -، فهو الكامل حقًا، الذي له الكمال الممكن في حق المخلوق، من رفْع الذكر، وكثرة الأنصار، والأتباع - صلى الله عليه وسلم -".اهـ.[52]
قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله تعالى -: "والشنآن منه ما هو باطن في القلب لم يظهر ومنه ما يظهر على اللسان وهو أعظم الشنآن وأشده وكل جرم استحق فاعله عقوبة من الله إذا أظهر ذلك الجرم عندنا وجب أن نعاقبه و نقيم عليه حد الله فيجب أن نبتر من أظهر شنآنه و أبدى عداوته وإذا كان ذلك واجبا وجب قتله وإن أظهر التوبة بعد القدرة وإلا لما انبتر له شانىء بأيدينا في غالب الأمر لأنه لا يشاء شانىء أن يظهر شنآنه ثم يظهر المتاب بعد رؤية السيف إلا فعل ذلك؛ فإن ذلك سهل على من يخاف السيف.
تحقيق ذلك أنه سبحانه رتب الانبتار على شنآنه و الاسم المشتق المناسب إذا علق به حكم كان ذلك دليلا على أن المشتق منه علة لذلك الحكم فيجب أن يكون شنآنه هو الموجب لانبتاره وذلك أخص مما تضمنه الشنآن من الكفر المحض أو نقض العهد والانبتار يقتضي وجوب قتله بل يقتضي انقطاع العين والأثر فلو جاز استحياؤه بعد إظهار الشنآن لكان في ذلك إبقاء لعينه وأثره وإذا اقتضى الشنآن قطع عينه وأثره كسائر الأسباب الموجبة لقتل الشخص وليس شيء يوجب قتل الذمي إلا وهو موجب لقتله بعد الإسلام إذ الكفر المحض مجوز للقتل لا موجب له على الإطلاق وهذا لأن الله سبحانه لما رفع ذكر محمد عليه - الصلاة والسلام - فلا يذكر إلا ذكر معه ورفع ذكر من اتبعه إلى يوم القيامة حتى إنه يبقى ذكر من بلغ عنه ولو حديثا وإن كان غير فقيه أثر من شنأه من المنافقين وإخوانهم من أهل الكتاب وغيرهم فلا يبقى له ذكر حميد وإن بقيت أعيانهم وقتا لم يظهروا الشنآن؛ فإذا أظهروه محقت أعيانهم وأثارهم تقديرا وتشريعا فلو استبقى من أظهر شنآنه بوجه ما لم يكن مبتورا إذ البتر يقتضي قطعه ومحقه من جميع الجوانب والجهات فلو كان له وجه إلى البقاء لم يكن مبتورا".اهـ.[53]
وقال - رحمه الله تعالى -: "سورة الكوثر ما أجلها من سورة وأغزر فوائدها على اختصارها وحقيقة معناها تعلم من آخرها فإنه سبحانه وتعالى بتر شانئ رسوله من كل خير فيبتر ذكره وأهله وماله فيخسر ذلك في الآخرة ويبتر حياته فلا ينتفع بها ولا يتزود فيها صالحا لمعاده ويبتر قلبه فلا يعي الخير ولا يؤهله لمعرفته ومحبته والإيمان برسله ويبتر أعماله فلا يستعمله في طاعة ويبتره من الأنصار فلا يجد له ناصرا ولا عونا. ويبتره من جميع القرب والأعمال الصالحة فلا يذوق لها طعما ولا يجد لها حلاوة وإن باشرها بظاهره فقلبه شارد عنها. وهذا جزاء من شنأ بعض ما جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم - ورده لأجل هواه أو متبوعه أو شيخه أو أميره أو كبيره. كمن شنأ آيات الصفات وأحاديث الصفات وتأولها على غير مراد الله ورسوله منها أو حملها على ما يوافق مذهبه ومذهب طائفته أو تمنى أن لا تكون آيات الصفات أنزلت ولا أحاديث الصفات قالها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
ومن أقوى علامات شناءته لها وكراهته لها أنه إذا سمعها حين يستدل بها أهل السنة على ما دلت عليه من الحق اشمأز من ذلك وحاد ونفر عن ذلك لما في قلبه من البغض لها والنفرة عنها فأي شانئ للرسول أعظم من هذا وكذلك أهل السماع الذين يرقصون على سماع الغناء والقصائد والدفوف والشبابات إذا سمعوا القرآن يتلى ويقرأ في مجالسهم استطالوا ذلك واستثقلوه فأي شنآن أعظم من هذا وقس على هذا سائر الطوائف في هذا الباب.
وكذا من آثر كلام الناس وعلومهم على القرآن والسنة فلولا أنه شانئ لما جاء به الرسول ما فعل ذلك حتى إن بعضهم لينسى القرآن بعد أن حفظه ويشتغل بقول فلان وفلان ولكن أعظم من شنأه ورده: من كفر به وجحده وجعله أساطير الأولين وسحرا يؤثر فهذا أعظم وأطم انبتارا وكل من شنأه له نصيب من الانبتار على قدر شناءته له فهؤلاء لما شنئوه وعادوه جازاهم الله بأن جعل الخير كله معاديا لهم فبترهم منه وخص نبيه - صلى الله عليه وسلم - بضد ذلك".اهـ.[54]
يتبع
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟ فبكى رحمه الله ثم قال : أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.
|