حفظ القرآن أول مراتب الطلب
عبدالله سعيد بازومح
مقدمة:
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله.
ثم أما بعد:
فهذه رسالة موجزة في بيان أصل من أصول التلقي والطلب عند أهل السنة والجماعة أخلَّ به كثير من طلاب العلم وهو حفظ القرآن العظيم وضبطه، إذْ أنك تجد كثيراً من الطلبة لا يعتنون بحفظه، بل أشد من ذلك تجد بعضهم لا يحسن تلاوته نظراً!
فهذا خطأ يجب تداركه، إذ كيف يُترك أصل الأصول ثم يُبتغى بعد ذلك العلم ويُطلب، فلهذا جاءت هذه الرسالة لبيان هذا الأصل المهم.
واللهَ أسأل أن ينفع بها كاتبها وقارءَها فهو خير مأمول، وبه أستعين.
ثم إنه لا يخفى على أحد ما للعلم من فضل ومكانة، فهو تركة الأنبياء وتراثهم، وأهله عصبتهم وورّاثهم، وهو حياة القلوب، ونور البصائر، وشفاء الصدور، ورياض العقول، فبه يعرف الله ويعبد، ويذكر ويوحّد، وبه تعرف الشرائع والأحكام، ويتميز الحلال من الحرام.
واستشهد الله عزوجل بأهل العلم على التوحيد، وقرن شهادتهم بشهادته وشهادة ملائكته.
ويكفي في شرفه؛ أنّ فضْلَ أهلِه على العبادِ كفضْلِ القمرِ ليلةَ البدرِ على سائرِ الكواكب، وأن الملائكة لتضع لهم أجنحتها، وأن العالم يستغفر له من في السموات ومن في الأرض حتى الحيتان في البحر، وحتى النمل في جحرها، وأن الله وملائكته يصلون على معلم الناس الخير.
وأمر اللهُ رسولَه - صلى الله عليه وسلم - أن يسأله المزيدَ منه فقال ﴿ وَقُلْ رَبِّ زِدْني عِلْماً ﴾ [طه: 114][1].
حكم تعلم العلم الشرعي:
الأول: العلم الواجب العيني، وهو معرفة ما أمر الله به؛ من التوحيد والطهارة وإقامة الصلاة....إلخ. ومعرفة ما نهى الله عنه من الشرك والمحرمات حتى تجتنب. وهذا العلم هو الذي أشار إليه الإمام محمد بن عبدالوهاب - رحمه الله - في ثلاثة الأصول بقوله: (اعلم رحمك الله أنه يجب علينا تعلم أربع مسائل؛ الأولى: العلم).
ويدخل في هذا القدر الواجب، حفظ سورة الفاتحة مع حفظ سورة أو آية معها، قال الإمام أحمد بن حنبل - رحمه الله -: (الذي يجب على الإنسان من تعليم القرآن والعلم، ما لابدّ منه في صلاته، وإقامة دينه، وأقل ما يجب على الرجل من تعليم القرآن فاتحة الكتاب وسورتان)[2].
وقال الإمام أبو محمد بن حزم - رحمه الله -: (فالذي يلزم كل إنسان من حفظ القرآن فهو: أمُّ القرآن، وشيء من القرآن معها، ولو سورة أي سورة كانت، أو أي آية، فهذا لابدّ لكل إنسان منه) [3].
القسم الثاني: العلم الواجب الكفائي، وهو العلم الذي إذا قام به البعض - ممن تحصل بهم الكفاية - سقط الوجوب عن الآخرين.
ويدخل في هذا القدر حفظ ما زاد عن القدر الواجب عيناً من حفظ القرآن، وأفضل ذلك حفظ القرآن العظيم كاملاً بضبط وإتقان.
وهذا القسم هو الذي يميّز طالب العلم عن غيره، إذْ أن العامة يكتفون بالواجب عليهم ويتركون ما وراء ذلك، لما فيه من المشقة والجهد. وقد قيل: لولا المشقة ساد الناس كلُّهم...
وسائل التعلم:
(الحفظ، والفهم، والعمل).
1- الحفظ:
بقدر ما يحرص الطالب على الحفظ، يعظم قدره في النفوس، ولذلك قيل: احفظْ فكل حافظ إمام. وأشرفُ محفوظٍ كتابُ اللهِ، ولهذا كان صحابة النبي - صلى الله عليه وسلم - يعظّمون الحافظ لسورتي البقرة وآل عمران، فكيف بحافظ القرآن كاملاً؟! قال أنس رضي الله عنه: (كان الرجل إذا قرأ البقرة وآل عمران جدّ في أعيننا)، وكانوا يتنادون في يوم اليمامة: (يا أصحاب سورة البقرة) حتى فتح الله عليهم رضي الله عن أصحاب رسول الله أجمعين[4].
وقال الإمام الشافعي - رحمه الله -: (من تعلّم القرآن عظمت قيمته)[5].
والحفظ يعسر على طالب العلم في البداية، لكن مع الدوام والاستمرار يسهل شيئاً فشيئاً، والأصل في هذا قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((إنما العلم بالتعلم))[6] بل مع الاستمرار قد يصل الطالب إلى مرحلة ما إذا سمع شيئاً أو قرأه حفظه وأثبته، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء.
وحافظة الإنسان مثل الضرع، يَدرُّ بالامتراء ويخفُّ بالترك والإهمال.
2- الفهم:
المقصود من كلام الله عزوجل فهم معانيه والعمل به، وليس تلاوته وحفظه على أنه مجرد ألفاظ وقوالب لا معاني لها، قال ابن تيمية - رحمه الله -: (العادة تمنع أن يقرأ قوم كتاباً في فن من العلم - كالطب والحساب - ولا يستشرحوه[7]، فكيف بكلام الله الذي هو عصمتهم، وبه نجاتهم وسعادتهم، وقيام دينهم ودنياهم؟![8].
ويقول أيضاً: (بل تعلم معانيه - أي القرآن - هو المقصود الأول بتعليم حروفه، وذلك هو الذي يزيد في الإيمان) [9].
ومعاني القرآن متفاوتة من حيث الوضوح والغموض على طالب العلم، ولا يصح أن نقول إن جميع معاني القرآن غامضة وغير مفهومة، وذلك أن القرآن نزل بلسان عربي مبين، يفهم معانيه الإنسان العربي رغم العامية التي طرأت على الألسن، قال الشيخ بكر أبو زيد - رحمه الله - في معرض حديثه على لسان أهل الجزيرة العربية: (واعتبرْ في الحال الحاضرة - على الرُّغم من لوثة العجمة، وهجنة العامية - فإنه لم يزل عندهم بقيّة صالحة في السليقة العربية، فإذا قرؤوا النص من كتاب أو سنة، فهموا المعنى المراد باطمئنان)[10]،
وقد روي عن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال: "التفسير على أربعة أوجه: تفسير تعرفه العرب من كلامها، وتفسير لا يعذر أحد بجهالته، وتفسير يعلمه العلماء، وتفسير لا يعلمه إلا الله، فمن ادّعى علمه فهو كاذب"[11].
وإذا أشكل على المرء معنىً من المعاني، فليرجع إلى كتب التفسير أو ليسأل أهل العلم، وشفاء العيِّ السؤال، قال عز وجل: ﴿ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إنْ كُنتُم لا تَعلَمُونَ ﴾ [النحل: 43].
فتحصيل العلم يكون بالحفظ والفهم، ولا يغني أحدهما عن الآخر.
3- العمل به:
من وسائل حفظ العلم وضبطه العمل به، قال الشعبي ووكيع بن الجراح - رحمهم الله -: (كنا نستعين على حفظ الحديث بالعمل به)[12].
وإن من المجرّب - كما ذكر غير واحد - أنّ من حفظ آياتٍ ثم صلّى بها صلاة الليل وأعاد ذلك مرّات وكرّات، فإن ذلك يزيد الحفظ رسوخاً في ذهنه[13].
وثمرة العلم العمل، وقد كان السلف يتعلمون ليعملوا لا ليستكثروا من المعارف والعلوم، قال أبو عبدالرحمن السلمي: حدثنا الذين كانوا يقرئوننا القرآن، كعثمان بن عفان وعبدالله بن مسعود وغيرهما: أنهم كانوا إذا تعلموا من النبي - صلى الله عليه وسلم - عشر آيات لم يجاوزوها حتى يتعلموا ما فيها من العلم والعمل. قالوا: فتعلمنا القرآن والعلم والعمل جميعًا[14].
قال ابن تيمية - رحمه الله تعالى -: (لو اعتصم رجل بالعلم الشرعي من غير عمل بالواجب كان غاوياً)[15].
يتبع