عرض مشاركة واحدة
  #2  
قديم 11-02-2020, 01:14 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 160,970
الدولة : Egypt
افتراضي رد: قيمة الكلمة ومسؤوليتها

قيمة الكلمة ومسؤوليتها


أ. د. عبدالله بن إبراهيم بن علي الطريقي



المبحث الأول

قيمة الكلمة وأهدافها وضوابطها

وفيه مطالب:
المطلب الأول: قيمة الكلمة:
الكلمة خفيفة على اللسان، سهلة النطق والجريان، ولكن لها قيمة في نظر العقلاء وفي نظر الشارع الحكيم.

أما عند العقلاء: فيقول أكثم بن صيفي: «رب قول أشد من صول».

ويقول عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -: «من كثر كلامه كثر سقطه»[22].

وقال بعض الحكماء: كلام المرء بيان فضله وترجمان عقله، فاقصره على الجميل واقتصر منه على القليل.

وقال بعضهم: من أعجب بقوله أصيب بعقله.

وقيل: إذا تم العقل نقص الكلام.

ورأى بعضهم رجلاً يُكثر الكلام ويقل السكوت فقال: إن الله إنما خلق لك أذنين ولسانا واحداً ليكون ما تسمعه ضعف ما تتكلم به[23].

وقال شاعر:
وزن الكلام إذا نطقت فإنما
يبدي عيوب ذوي العيوب المنطق


وقال آخر:
الصمت زين والسكوت سلامة
فإذا نطقت فلا تكن مكثارا

فإذا ندمت على سكوتك مرة
فلتندمن على الكلام مراراً[24]


ذلك عند العقلاء.

أما في نظر الشارع الحكيم - وحسبك به حاكماً ودليلاً - فإننا نجد في القرآن الكريم وفي السنة النبوية الشريفة نصوصاً كثيرة تُؤكّد على قيمة الكلمة وتُنوّه بشأنها وعظيم خطرها، ومن ذلك: قول الله عز وجل: ï´؟ مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ ï´¾[25] قيل في معنى الآية: يكتب على العبد كل ما يتكلم به، فإذا كان آخر النهار محى عنه ما كان مباحاً، نحو انطلق واقعد مما لا يتعلق به أجر ولا وزر[26] وقال عز وجل: ï´؟ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ ï´¾[27].

قال ابن كثير في قوله تعالى ï´؟ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا ï´¾ [الأحزاب: 70] أي مستقيماً لا اعوجاج فيه ولا انحراف»[28] ومن السنة: قوله - صلى الله عليه وسلم -: «كفى بالمرء كذباً أن يُحَدّث بكل ما سمع»[29] وقوله: «إن من أحبكم إليّ وأقربكم مني مجلساً يوم القيامة أحاسنكم أخلاقاً، وإن أبغضكم إلي وأبعدكم مني يوم القيامة الثرثارون والمتشدّقون والمتفيهقون»[30] والثرثار: هو كثير الكلام تكلفا، والمتشدق: المتطاول على الناس بكلامه، ويتكلم بملء فيه تفاصحاً وتعظيماً لكلامه. والمتفيهق: المتكبر[31].

ولهذه القيمة أوجب الإسلام قول الحق على المسلم في كل حال - حسب القدرة - دون مداهنة أو محاباة أو استحياء، قال الله عز وجل: ï´؟ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا ï´¾[32].

قال ابن عباس: «أمر الله المؤمنين أن يقولوا بالحق ولو على أنفسهم أو آبائهم أو أبنائهم لا يحابوا غنياً لغناه، ولا يرحموا مسكيناً لمسكنته»[33].

وقال عبادة بن الصامت - رضي الله عنه -: «بايعنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على أن نقول بالحق حيثما كنا لا نخاف في الله لومة لائم»[34].

وقال أبو سعيد الخدري: قام فينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خطيباً فكان فيما قال: «ألا لا يمنعن رجلاً هيبة الناس أن يقول بحق إذا علمه»[35].

وبهذا يتبين أنه لا يعذر المسلم من كلمة الحق إلا إذا خاف على نفسه، أو خشي أن يترتب عليها مفسدة أعظم منها. وللقيمة نفسها حرم الإسلام كل كلمة باطلة أو تدعو إلى الباطل.

وإذا عرفنا هذه القيمة والأهمية للكلمة فما أسباب ذلك؟ إن ثمة عدة أسباب، منها:
1- أن الكلمة وسيلة البيان:
فالإنسان له مقاصد ومرادات وغايات في حياته يريد أن يصل إليها ويحققها، وكثير من هذه المقاصد والغايات لا يمكن الوصول إليها إلا عن طريق البيان باللسان.

فهو حينما يتعامل مع الناس في العقود المالية من البيع والشراء والمضاربة والصرف والإجارة ونحو ذلك يحتاج إلى الكلمة.

وكذلك في عقود النكاح والرجعة ونحوها لا بد من الكلمة.

ولذلك كان الإيجاب والقبول أحد أركان معظم العقود.

والإنسان حينما يريد أن يتوصل إلى ما عند الغير من علم أو مال أو جاه أو نحو ذلك فلا بد من الكلمة.

وهو حينما يريد الدعوة إلى الخير والحق لا بد من الكلمة، بل إنه في شتّى معاملاته مع الناس والتحدث معهم وسيلته الأولى والأخيرة الكلمة.

كما سبقت الإشارة في التمهيد.

2- إنها وسيلة للإثبات والاعتراف:
فحينما يريد الإنسان أن يثبت شيئاً مادياً أو معنوياً فهو بحاجة إلى الكلمة.
أ- فالاستدلال في الاحتجاج هو كلام.

ب- ولكي يثبت بأنه مسلم عند دخوله في الإسلام لا بد من كلمة التوحيد أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله.

ولذلك فإنه متى قالها عصم نفسه وماله وعرضه.

قال عليه الصلاة والسلام: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم»[36].

وأنكر - صلى الله عليه وسلم - على أسامة بن زيد - رضي الله عنه - قتله لرجل بعد أن قال لا إله إلا الله[37].

جـ- والاعتراف بما عند الإنسان من حقوق للغير يحتاج إلى كلام وكذلك الاعتراف بما للّه تعالى من حق ولذلك قال الفقهاء: «الإنسان مؤاخذ بإقراره»[38].

د- وإذا أراد أن يدلي بشهادة في أمر من الأمور فإنها تقوم على الكلام أيضاً.

وكل ذلك من الأمور الظاهرة البيّنة.

3- أنها وسيلة للنفي والإنكار:
أ- فإذا نُسب إلى الإنسان شيء ولم يعترف به، فوسيلته للنفي الحقيقي هي الكلمة[39].

ب- وإذا أراد تغيير المنكر وإزالته، فوسيلته القريبة والميسرة هي الكلمة أو القول.

قال الله عز وجل: ï´؟ لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ * كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ ï´¾[40].

وفي الحديث: «من رأى منكم منكراً فليُغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان»[41].

4- أنها سبب لسعادة الإنسان أو شقائه:
فالكلمة لها أعظم الأثر في حياة الإنسان دون شك، وقد تكون سبباً لسعادته، كما قد تكون سبباً لشقائه.

5- وأخيراً فالكلمة هي البريد إلى القلب والعقل، وسبيل الوصول إلى الإقناع والتفاهم.

المطلب الثاني
أهداف الكلمة:
إن المسلم في تعامله الخطابي الفكري مع الآخرين، لا يريد به سمعة ولا ثناء من الناس، ولا جزاًء ولا شكوراً، وكان كل نبي يقول لقومه ما قال الله عنهم في كتابه: ï´؟ وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ ï´¾[42].

ولكن يسعى إلى تحقيق أهداف سامية عالية، تتواءم مع سمو الدين الذي يدعو إليه.

ولعل أبرز هذه الأهداف:-
أ- إعلاء كلمة الحق.
ب- ردّ الباطل.
جـ- كسب المخاطب.
د- الدفاع عن النفس.

فإلى شرح موجز لها:
(1)
إن إعلاء كلمة الحق من أسمى الغايات التي يسعى المسلم إلى تحقيقها في كل تصرفاته، لأنها هي الغاية من إرسال محمد - صلى الله عليه وسلم - كما قال سبحانه: ï´؟ هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ ï´¾[43].

والجهاد وهو أبرز صور التعامل مع المخالفين (الكفار) إنما شُرع لذلك، كما قال - صلى الله عليه وسلم -: «من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله»[44].

وهكذا الكلمة لا بد أن تسير في الطريق ذاته لإعلاء كلمة الله وراية الحق والعدل، لا أن يُراد بها مقاصد مغايرة، ولما قال الخوارج (المحكّمة): «لا حكم إلا لله» قال الإمام علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - منكراً عليهم مقاصدهم: «كلمة حق أريد بها باطل»[45] ولذا كان لا بد أن تكون هذه الكلمة بعيدة عن مناهج أهل العناد واللجاج الذين وصفهم الحق تعالى بقوله: ï´؟ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ * وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ * وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ ï´¾[46].

ومما يدخل في ذلك الأُغلوطات، وهي المسائل التي يُغالط بها لإيقاع الفتنة بين العلماء وغيرهم، فقد جاء النهي عنها[47].

(2)
ومن أهداف المسلم أيضا في خطابه الدعوي: ردّ الباطل.

وهذا من أنواع الجهاد، كما جاء في الحديث: «جاهدوا المشركين بأموالكم وأنفسكم وألسنتكم»[48].

وقال النبي - صلى الله عليه وسلم - لحسان بن ثابت - رضي الله عنه -: «أُهج المشركين، فإن جبريل معك، وكان - صلى الله عليه وسلم - يقول لحسان: «أجب قريشا فإنه أشد عليهم من رشق النبل»[49].

فالمسلم الحق إذا رأى أو سمع باطلاً فمن حق الإسلام عليه أن يُبطل ذلك الباطل بقدر استطاعته، سواء أكان شبهة مثارة، أم قدحاً في الدين وأهله، أم سخرية منهما، أم غير ذلك.

(3)
ومن الأهداف أيضاً كسب المخاطب (المخالف) وذلك بردّه إلى الحق وهذا من أعظم نتائج الدعوة قال عليه الصلاة والسلام لعلي بن أبي طالب - رضي الله عنه - لما أعطاه الراية يوم خيبر: «... فوالله لأن يُهدَى بك رجل واحد خير لك من حمر النعم» [50].

وغنيٌ عن البيان أن ذلك يتطلب فقهاً عظيماً للخطاب والتعامل، يقوم على الرفق والحكمة وحسن الخلق.

(4)
ومن الأهداف أيضاً: الدفاع عن النفس.

وهذا قد يكون واجباً على الإنسان وقد يكون مندوباً وقد يكون جائزاً فإذا قُصِدَ عرضه بسوء فلا بد أن يدافع ولا يسكت، قال النووي: وأما المدافعة عن الحريم فواجبة بلا خلاف»[51].

وقد يكون الدفاع مندوباً في حق المال والنفس إذا كان المعتدي كافراً أو مسلماً جائراً، بحيث يجرئه العفو على ظلم الآخرين.

وربما كان جائزاً في الأحوال العادية[52].

وعلى أية حال فإن الدفاع بالكلمة أمر مشروع لا غبار عليه، قال الله عز وجل: ï´؟ لَا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ ï´¾[53].

وقال: ï´؟ وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ ï´¾[54].

وروى أبو هريرة - رضي الله عنه - قال: كان لرجل على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حق، فأغلظ له، فهمّ به أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إن لصاحب الحق مقالاً»[55] الحديث.

وبمثل هذه الأهداف تسمو الكلمة إلى آفاق بعيدة، ومقاصد رشيدة، وتكون بعيدة عن مواطن الوحل والزغل والهزل، والتكلف المذموم.

كما قال الحق سبحانه: ï´؟ قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ ï´¾[56].

قال ابن مسعود - رضي الله عنه -: «من سئل عما لم يعلم فليقل: لا أعلم، ولا يتكلف، فإن قوله: لا أعلم علم»[57].

ولذا قال الطبري في معنى ï´؟ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ ï´¾ [ص: 86]: «أي أتخرص وأتكلف ما لم يأمرني الله به»[58].

المطلب الثالث
ضوابط الكلمة:
ليس كل كلمة أو خطاب يكون في محله ويكون له تأثيره، بل إن لكل مقام مقالاً، ولكل حادثة حديثاً.

ومتى أحيطت الكلمة بسياج العقل والشرع فإنها تفعل فعل السحر، كما قال عليه الصلاة والسلام: «إن من البيان لسحراً»[59].

إذن لا بد من ضوابط حاكمة للكلمة، حتى تؤدي غرضها.

ولعل سمو الهدف والصدق واختيار اللفظ المناسب واللين من أهم جوامع الضوابط. فلنلق إضاءات حولها.

(1)
فسمو الهدف من أهم ضوابط الكلمة في الإسلام بل من خصائصها بحيث يُراد بها نشر الخير والفضيلة ودرء الشر والرذيلة وفي المطلب السابق أوضحنا أبرز أهداف الكلمة، بما يغني عن التكرار والإعادة.

(2)
والضابط الثاني: هو الصدق، وهو خلق ملازم للمسلم لا ينفك عنه أبداً، في حالة العسر واليسر، والمنشط والمكره، وفي معاملته لكل الخلق.

قال الله عز وجل: ï´؟ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ ï´¾[60] وضد الصدق الكذب، وهو من أمارات النفاق، قال الله عز وجل ï´؟ إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآَيَاتِ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ ï´¾[61].

وفي الحديث: آية المنافق ثلاث إذا حدث كذب وإذا وعد أخلف وإذا ائتمن خان»[62].

وله صور عديدة منها:
التمويه، والمخادعة، والمغالطة، والتحريف، والتأويل، وقلب الحقائق ونحو ذلك.

قال ابن عباس في قوله تعالى: ï´؟ وَلَا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ ï´¾[63] «لا تخلطوا الصدق بالكذب»[64]

وقال سبحانه: ï´؟ فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ ï´¾[65].

والتزام المسلم الصدق يجعله حذراً كل الحذر مما يتنافى معه، كالتسرع في الأحكام، والتحدث بكل ما يسمع، وقد نعى الإسلام على من نهج هذا المسلك. قال تعالى في سياق قصة الإفك:
ï´؟ إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ * وَلَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ * يَعِظُكُمَ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَدًا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ï´¾[66].

وفي الحديث: «كفى بالمرء كذباً أن يحدث بكل ما سمع»[67] كما جاء النهي عن قيل وقال[68].

وعلى أي حال فالمسلم متى عوَّد نفسه على الصدق اعتاده.

واسمع قول الحكيم:
عوِّدْ لسانك قول الخير تخط به
إن اللسان لما عودت معتاد[69]


أجل: إن الكلمة الصادقة هي السيف الذي يُجاهد به الداعية، فبها تقوم الحجة، وبها يرتّد الباطل على أدباره منهزماً، وبها تنجذب القلوب، وبها يرضى العاقل.

فما أحوج الداعية إلى هذه الكلمة في خطبه، ودروسه، ومحاضراته، وكتاباته، وغيرها.

(3)
الضابط الثالث: اختيار اللفظ المناسب ووضعه في موضعه المناسب، إذ ليس كل كلمة صادقة يصلح نشرها وتبليغها، مهما كانت النوايا طيبة والأهداف سامية.

بل إن من الحكمة وضع الشيء في موضعه.

فلا بد من اختيار الخطاب المناسب للمقامات.

فمخاطبة العالم غير مخاطبة الجاهل، ومخاطبة الكبير غير مخاطبة الصغير، ومخاطبة الأمير غير مخاطبة غيره.

فقد روت عائشة - رضي الله عنها - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «أنزلوا الناس منازلهم»[70].

وقال البخاري في صحيحه: باب من خص بالعلم قوماً دون قوم كراهية ألا يفهموا، وقال علي بن أبي طالب: «حدّثوا الناس بما يعرفون، أتحبون أن يُكذّب الله ورسوله»[71] وقال ابن مسعود - رضي الله عنه - فيما رواه مسلم في مقدمة صحيحه: «ما أنت بمحدّثٍ قوماً حديثاً لا تبلغه عقولهم إلا كان لبعضهم فتنة».

«وليس كل ما يعلم مما هو حق يطلب نشره، وإن كان من علم الشريعة ومما يفيد علماً بالأحكام»[72].

وما أحسن قول المتنبي:
ووضع الندى في موضع السيف بالعلا
مضرٌّ كوضع السيف في موضع الندى


ولذلك استحب العقلاء تقليل الكلام، والاكتفاء منه بما يُحتاج إليه مما هو نافع.

قال عمر - رضي الله عنه - «رحم الله امرءاً أمسك فضل القول وقدّم فضل العمل»[73] ورضي الله عن عبادة بن الصامت الذي يقول: «ما تكلمت بكلمة منذ بايعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلا مزمومة مخطومة»[74].

(4)
وأخيراً فإن من الضوابط المهمة اللين والرفق في توجيه الخطاب، قال الله عز وجل لنبيه موسى وأخيه هارون - عليهما السلام - حينما أرسلهما إلى فرعون: ï´؟ اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى * فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى ï´¾[75].

وامتن الله تعالى على نبيه محمد - صلى الله عليه وسلم - باللين، فجعله خلقاً فيه، قال سبحانه: ï´؟ فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ ï´¾[76].

ولذا لما دخل ذلك الرجل السيئ الخلق على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ألان له الكلام، مع أنه قال قبل أن يدخل: ائذنوا له، بئس أخو العشيرة»[77].

ولما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إن في الجنة غرفة يرى ظاهرها من باطنها، وباطنها من ظاهرها» قال له أبو موسى الأشعري: لمن هي يا رسول الله؟ قال: «لمن ألان الكلام، وأطعم الطعام وبات لله قائماً والناس نيام»[78].

واللين يشمل أمرين: الكلمة ذاتها، وأسلوب إيصالها.

فإذا كانت الكلمة لينة رقيقة ورافقها لين في التعامل، فإنها تلامس الوجدان وتهزّ المشاعر، وتنفذ إلى القلب والعقل.

وفي سيرة النبي - صلى الله عليه وسلم - أمثلة لا تكاد تحصى، تؤكد أثر الكلمة الطيبة.

ومن ذلك قصة الأعرابي الذي بال في المسجد فانتهره الناس فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - دعوه، ثم دعا بذنوب من ماء وأهريق على بوله، ثم دعا الأعرابي فعلمه برفق، قال الأعرابي بعد أن فقه: فقام إليّ بأبي وأمي فلم يُؤنّب ولم يسبّ فقال: «إنَّ هذا المسجد لا يُبال فيه وإنما بني لذكر الله وللصلاة»[79].

وجاء إليه أعرابي آخر فجبذ[80] برداء النبي - صلى الله عليه وسلم - جبذة شديدة قال أنس بن مالك: «فنظرت إلى صفحة عاتق النبي - صلى الله عليه وسلم - وقد أثّرت بها حاشية الرداء من شدة جبذته، ثم قال يا محمد: «مُرْ لي من مال الله الذي عندك، فالتفت إليه النبي - صلى الله عليه وسلم - فضحك ثم أمر له بعطاء»[81].


من هنا تأتي أهمية اللين في الخطاب ولذلك قال عليه الصلاة والسلام: «إن الرفق لا يكون في شيء إلا زانه ولا يُنزع من شيء إلا شانه»[82] على أن اللين لا يتنافى مع الحزم والأخذ بالقوة على السفهاء والمجرمين على حد قول الشاعر:
فقسا ليزدجروا ومن يك حازماً
فليقس أحياناً على من يرحم

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 42.45 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 41.82 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (1.48%)]