عرض مشاركة واحدة
  #3  
قديم 10-02-2020, 03:18 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 155,313
الدولة : Egypt
افتراضي رد: دروس منتقاة من سورة الحجرات

دروس منتقاة من سورة الحجرات


د. فارس العزاوي



والمسألة لا بد لها من دراسة ونظر، وقد علمنا أن الآلوسي وغيره يستدلون بها على أن الصحابة ليسوا كلهم عدولاً، وهذا يفتح الباب على مصراعيه للطعن في الصحابة الكرام خاصة من قبل الروافض الذين يحاولون بخيلهم ورجلهم الصيد في الماء العكر بغية الطعن في الصحابة الكرام، بل بعضهم قد استطال القول في الطعن بالوليد حينما قال قاطعاً بكونه فاسقاً: " فالفاسق المشار إليه في الآية هو الوليد بن عقبة ولم يزل بعد ذلك يفعل أفعال الفسَّاق حتى صلى بالناس صلاة الصبح أربع ركعات وهو سكران ثم قال لهم أزيدكم إن شئتم ثم "[61].



وكان حرياً بالآلوسي أن يقطع القول بعدالة الصحابة أجمعين خاصة وأن هناك من المحققين من نقل الإجماع على ذلك كما هو شأن الإمام النووي حينما قال: " اتفق أهل الحق ومن يعتد به في الإجماع على قبول شهادتهم وروايتهم وكما عدالتهم - رضي الله عنهم - أجمعين "[62]، ولذلك قال ابن عاشور: "واعلم أن جمهور أهل السنة على اعتبار أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم عدولاً، وإن كل من رأى النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه فهو من أصحابه.. وإنما تلقف هذه الأخبار الناقمون على عثمان رضي الله عن، إذ كان من عداد مناقمهم الباطلة أنه أولى الوليد بن عقبة إمارة الكوفة، فحملوا الآية على غير وجهها، وألصقوا بالوليد وصف الفاسق، وحاشاه منه، وعلى تسليم أن تكون الآية إشارة إلى فاسق معين فلماذا لا يحمل على إرادة الذي أعلم الوليد بأن القوم خرجوا له ليصدوه عن الوصول إلى ديارهم قصداً لإرجاعه "[63].

فهو هنا رحمه الله يشكك في صحة الاستدلال الذي تقدم عند المفسرين اعتماداً على الأصل وهو عدالة الصحابة جميعهم، وإن لم يضَعَّف الروايات التي وردت في هذا الشأن؛ كونه لم يتعرض لأسانيدها، وقبل ذلك قد انتقد الفخر الرازي متن هذه الروايات حينما قال بعد أن ذكر الرواية وكونها سبباً لنزول الآية: " وهذا جيد إن قالوا بأن الآية نزلت في ذلك الوقت، وإما إن قالوا: بأنها نزلت لذلك مقتصراً عليه ومتعدياً إلى غيره فلا، بل نقول: هو نزل عاماً لبيان التثبت وترك الاعتماد على قول الفاسق، ويدل على ضعف قول من يقول: إنها نزلت لكذا أن الله تعالى لم يقل إني أنزلتها لكذا، والنبي صلى الله عليه وسلم لم ينقل عنه أنه بين أن الآية وردت لبيان ذلك فحسب، غاية ما في الباب أنها نزلت في ذلك الوقت، وهو مثل التاريخ لنزول الآية، ونحن نصدق ذلك، ويتأكد ما ذكرنا أن إطلاق لفظ الفاسق على الوليد شيء بعيد؛ لأنه توهم وظن فأخطأ، والمخطئ لا يسمى فاسقاً، وكيف والفاسق في أكثر المواضع المراد به من خرج عن ربقة الإيمان "[64].

وقد تصدى لنقد الأسانيد العلامة محب الدين الخطيب في تعليقه على العواصم من القواصم لأبي بكر بن العربي حيث قال: " كنت فيما مضى أعجب كيف تكون هذه الآية نزلت في الوليد بن عقبة ويسميه الله فاسقاً، ثم تبقى له في نفس خليفتي رسول الله صلى الله عليه وسلم أبي بكر وعمر المكانة التي سجلها له التاريخ، وبعد أن ساورني هذا الشك أعدت النظر في الأخبار التي وردت عن سبب نزول الآية فلما عكفت على دراستها وجدتها موقوفة على مجاهد أو قتادة أو ابن أبي ليلى أو يزيد بن رومان، ولم يذكر أحد منهم أسماء رواة هذه الأخبار في مدة مائة سنة أو أكثر مرت بين أيامهم وزمن الحادث، وهذه المائة من السنين حافلة بالرواة من مشارب مختلفة، وإن الذين لهم هوى في تسوئ سمعة مثل الوليد ومن هم أعظم مقاماً من الوليد قد ملأوا الدنيا أخباراً مريبة ليس لها قيمة عليمة "[65].

ثم حكم رحمه الله بضعف هذه الروايات لأن فيها مجهولين وقال: " وهنالك خبران موصولان أحدهما عن أم سلمة زعم موسى بن عبيدة أنه سمعه من ثابت مولى أم سلمة. وموسى بن عبيدة ضعفه أحمد وابن المديني وابن عدي وجماعة. والخبر الثاني الموصول رواه الطبري في التفسير عن ابن سعد وهو محمد بن سعد العوفي، وقد وصف الشيخ أحمد شاكر سنده بأنه سند مسلسل بالضعفاء من أسرة واحدة. فكل هذه الأخبار من أولها إلى آخرها لا يجوز أن يؤاخذ مجاهد كان موضع ثقة أبي بكر وعمر وقام بخدمات للإسلام يرجى له بها أعظم المثوبة إن شاء الله "[66].

أضف إلى هذا أن أبا بكر ابن العربي أورد رواية عند الإمام أحمد في مسنده عن الوليد بن عقبة: أن الوليد سيق يوم الفتح في جملة الصبيان إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فمسح رؤوسهم وبرك عليهم إلا هو فقال: إن كان على رأسي خلوق. وعلق على هذه الرواية ابن العربي فقال: " فمن يكون في مثل هذه السن يرسل مصدقاً "[67].

وقد صحح الرواية الشيخ محب الدين الخطيب، وعند ذلك يثبت لنا ضعف الروايات سنداً ومتناً، وتبقى الآية دالة على مضمونها من التثبت في الأخبار ويكون حالها كحال غالب آيات القرآن التي نزلت بلا سبب.

ولأستاذنا الدكتور طه ياسين الخطيب بحث ماتع في سبب نزول هذه الآية خلص فيه إلى القول: " نقول جازمين: إن الوليد بن عقبة رضي الله تعالى عنه برئ مما نسب إليه، وأن هذه الآية التي أنزلها الله تعالى وجعلها قاعدة للتثبت والتبين توجب علينا أن نتثبت وأن نتبين فيما نقول. وبناء على ذلك فأنا أوصي طلاب العلم أن لا يكتفوا بالنقل عن المراجع دون تمحيص؛ وذلك لأن مؤلفيها لم يشترطوا الصحة فيما يذكرون، كما أن على طالب العلم أن يكون ذا معرفة باصطلاحات العلماء حتى لا يخطئ في فهم كلامهم "[68].

وهذا التقرير الذي خلصنا إليه ليس فيه أي دعوى للقول بعصمة الصحابة قطعاً، فنحن نقطع ببشريتهم وكونهم يصيبون ويخطئون لكن هذا ليس مبرراً لسلب عدالتهم، ومذهب أهل السنة والجماعة في الصحابة سلامة قلوبهم وألسنتهم لهم، كما وصفهم الله بذلك في قوله تعالى: ï´؟ وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آَمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ ï´¾ [69]، وطاعة لرسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله: " لا تسبوا أصحابي، فوالذي نفسي بيده لو أنفق أحدكم مثل أحد ذهباً ما بلغ مد أحدهم لا نصيفه "[70]، وهم مع ذلك لا يعتقدون أن كل واحد من الصحابة معصوم عن كبائر الإثم وصغائره، بل تجوز عليهم الذنوب في الجملة، ولهم من السوابق والفضائل ما يوجب مغفرة ما يصدر منهم إن صدر، حتى إنه يغفر لهم من السيئات ما لا يغفر لمن بعدهم؛ لأن لهم من الحسنات التي تمحو السيئات ما ليس لمن بعدهم[71].

هذه الآية أعيد فيها الخطاب والنداء لتخصيص ما بعده بالاهتمام، وهي قاعدة وأصل عظيم في تلقي الأخبار والرواية والعمل بها.

قال الشنقيطي: " وقد دلت هذه الآية من سورة الحجرات على أمرين: الأول منهما أن الفاسق إن جاء بنبأ ممكن معرفة حقيقته، وهل ما قاله فيه الفاسق حق أو كذب فإنه يجب التثبت. والثاني هو ما استدل عليه بها أهل الأصول من قبول خبر العدل؛ لأن قوله تعالى: ï´؟ إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا ï´¾ [الحجرات: 6] يدل بدليل خطابه أعني مفهوم مخالفته أن الجائي بنبأ إن كان غير فاسق بل عدلاً لا يلزم التبين في نبئه على قراءة فتبينوا، ولا على التثبت على قراءة فتثبتوا. وهو كذلك "[72].

وهذا الذي قرره الشنقيطي قد فصَّل فيه القولَ فخر الدين الرازي في محصوله فقال: " أمر بالتثبت مرتباً على كونه فاسقاً، والحكم المرتب على الوصف المشتق المناسب يقتضي كونه معللاً بما منه الاشتقاق، ولا شك في أن الفسق يناسب عدم القبول، فثبت بما ذكرنا أن خبر الواحد لا وجب لا يقبل لامتنع تعليل أن لا يقبل خبر الفاسق بكونه فاسقاً، وثبت أنه معلل به، فخبر الواحد لا يجب أن يقبل: فهو إذن مقبول في الجملة، ومن الناس من يتمسك بالآية على وجه وهو أنه تعالى أمر بالتثبت بشرط أن يكون الخبر صادراً عن الفاسق، والمشروط بالشيء عدم عند عدم الشرط، فوجب أن لا يجب التثبت إذا لم يوجد مجئ الفاسق، فإذا جاء غير الفاسق ولم يتثبت فإما أن يجزم بالرد، وهو باطل، وإلا كان خبر العدل أسوء حالاً من خبر الفاسق، وهو باطل بالإجماع، فيجب القبول، وهو المطلوب "[73].

وفي هذا العصر كثيراً ما تنقل أخبار وفتاوى عن العلماء خلاف ما يصح عنهم، وما ذلك إلا بسبب سوء الفهم أو عدم التثبت والتبين، وهذا بلا شك يوقعهم في إثم مركب، فهو ما بين الكذب على العلماء والطعن فيهم بغير وجه حق، فما أحوج الناس اليوم إلى مقتضى هذه الآية الكريمة والوقوف على ضوابطها الشرعية، فيشاع بين طلبة العلم والعامة أن من عرف عنه الصدق والدين وجودة الحفظ والفهم وحسن التعبير والأداء فإننا ننقل خبره دون تثبت، ومن اختلفت فيه صفة من هذه الصفات أو شابهها - مثل كلام الأقران بعضهم في بعض - فإنه يحتاج إلى التثبت من خبره، وخاصة إن كان الخبر تترتب عليه أمور مهمة.

ومن لوازم التثبت: أن لا يعتمد على الكلام الشائع الذي يلوكه الناس بدون بصيرة أو فهم، قال الحافظ ابن حجر: " إن الذي يتصدى لضبط الوقائع من الأقوال والأفعال والرجال يلزمه التحري في النقل فلا يجزم إلا بما يتحققه، ولا يكتفي بالقول الشائع، ولا سيما إن ترتب على ذلك مفسدة من الطعن في حق أحد من أهل العلم والصلاح، وإن كان في الواقعة أمر فادح سواء كان قولاً أو فعلاً أو موقفاً في حق المستور فينبغي ألا يبالغ في إفشائه، ويكتفي بالإشارة لئلا يكون قد صدر منه فلتة، ولذلك يحتاج المسلم أن يكون عارفاً بمقادير الناس وأحوالهم ومنازلهم، فلا يرفع الوضيع، ولا يضع الرفيع "[74]، وهذا الذي دلت عليه النصوص الشرعية كتاباً وسنة، قال تعالى: ï´؟ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ ï´¾ [75]، وقال تعالى: ï´؟ وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا ï´¾ [76]، وقال عليه الصلاة والسلام: " نضر الله عبداً سمع مقالتي فحفظها ووعاها وبلغها من لم يسمعها، فرب حامل فقه لا فقه له، ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه "[77].


يتبع
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 22.30 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 21.67 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (2.82%)]