دروس منتقاة من سورة الحجرات
د. فارس العزاوي
وهذا يبرز الصفات التي اتصفت بها هذه الفرقة وهذه الطائفة، وأبرزها[16]:
الاستجابة الكاملة للوحي وعدم التقديم بين يديه، فالعلم والفقه الصحيح الكامل في العقائد والشرائع والآداب وغيرها لا يكون إلا عن طريق الوحي المنزل قرآناً وسنة مع التزام الدليل الشرعي بحيث لا يكون للمسلم أمام الدليل أو النص تردد ولا شك ولا اختيار.
ولهذا بين الله سبحانه لنا الأصناف الثلاثة في موقفها من الوحي وكيف كان انتفاعها به:
فأما الصنف الأول: فهم الذين لم يقبلوا قول الله وقول رسوله صلى الله عليه وسلم وهم الكفار فهؤلاء لا انتفاع لهم بالوحي بالكلية، قال تعالى: ï´؟ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ * خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ï´¾ [17].
والصنف الثاني: هم الذين انتفعوا بالوحي انتفاعاً جزئياً فهم من جملة المسلمين ولكنهم قدموا أقوالهم وآرائهم على قول الله ورسوله صلى الله عليه وسلم؛ لأنهم اتبعوا المتشابه، قال تعالى: ï´؟ هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آَيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ ï´¾ [18].
وقد اختلف المفسرون في المحكم والمتشابه على معاني متعددة[19]: - أن المحكم هو قوله تعالى: ï´؟ قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ï´¾ [20]، والآيتان اللتان بعدها، وأن المتشابه هو الذي تشابه على اليهود من أسماء حروف الهجاء المذكورة في أوائل السور. - أن المحكم هو الناسخ، والمتشابه هو المنسوخ. - أن المحكم ما كان دليله واضحاً، والمتشابه يحتاج في معرفته إلى التدبر والتأمل. - أن المحكم كل ما أمكن تحصيل العلم به بدليل جلي أو خفي، والمتشابه ما لا سبيل إلى العلم به. - أن المحكم ما أحكم الله فيه بيان حلاله وحرامه، والمتشابه ما أشبه بعضه بعضاً في المعاني وإن اختلفت ألفاظه. - أن المحكم من آي الكتاب ما لم يحتمل من التأويل إلا وجهاً واحداً، والمتشابه ما احتمل من التأويل أوجهاً. - أن تقسيم المحكم والمتشابه خاص بالقصص، فالمحكم ما أحكم وفصل فيه خبر الأنبياء مع أممهم، والمتشابه ما اشتبهت الألفاظ به من قصصهم عند التكرير في السور. - أن المتشابه ما يحتاج إلى بيان والمحكم ما يقابله. - أن المتشابه ما يؤمن به ولا يعمل به. - أن المتشابه آيات الصفات[21].
هذا التغاير عند المفسرين في بيان معنى المتشابه في حقيقته يدل على معنى واحد كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية وسببه أن التشابه أمر إضافي، فقد يشتبه على هذا ما لا يشتبه على هذا[22]، ولذلك يمكن جعل هذه المعاني كلها في إطار واحد فيقال: إن المتشابه هو ما استأثر الله بعلمه أو ما احتمل أوجهاً؛ ليتناسب مع الوقف في الآية المعنية على خلاف فيه يسع المعنيين اللذين جعلناهما في حده آنفاً، وأنى كان المعنى فالواجب تجاه المتشابه أن يفسر في إطار المحكم كما أشارت إلى ذلك الآية نفسها في قوله تعالى: ï´؟ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آَمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ ï´¾ [23]، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إذا رأيتم الذين يتبعون ما تشابه منه فأولئك الذين سمى الله فاحذروهم "[24]، قال ابن القيم: " فلهم طريقان في رد السنن، أحدهما: ردها بالمتشابه من القرآن أو من السنن. والثاني: جعلهم المحكم متشابهاً ليعطلوا دلالته "[25].
وأما الصنف الثالث: فهم المهتدون وهم الذين قدموا قول الله وقول رسوله صلى الله عليه وسلم، قال ابن القيم في وصفهم: " وأما طريقة الصحابة والتابعين وأئمة الحديث كالشافعي والإمام أحمد ومالك وأبي حنيفة وأبي يوسف والبخاري وإسحاق فعكس هذه الطريق وهي أنهم يردون المتشابه إلى المحكم ويأخذون من المحكم ما يفسر لهم المتشابه ويبينه له فتتفق دلالته مع دلالة المحكم وتوافق بعضها بعضاً فإنها كلها من عند الله وما كان من عند الله فلا اختلاف فيه ولا تناقض وإنما الاختلاف والتناقض فيما كان من عند غيره "[26].
وقبل ذلك قال شيخ الإسلام ابن تيمية: " والمقصود هنا أن الواجب أن يجعل ما قاله الله ورسوله هو الأصل، ويتدبر معناه ويعقل، ويعرف برهانه ودليله إما العقلي، وإما الخبري السمعي، ويعرف دلالة القرآن على هذا وهذا. وتجعل أقوال الناس التي قد توافقه وتخالفه متشابهة مجملة، فيقال لأصحاب هذه الألفاظ: يحتمل كذا وكذا، ويحتمل كذا وكذا، فإن أرادوا بها ما يوافق خبر الرسول صلى الله عليه وسلم قبل، وإن أرادوا بها ما يخالفه رد "[27].
ومما ينبه عليه في هذا السياق: أن العلماء متفقون على أن ليس في القرآن ما لا معنى له، وأن جميع ما فيه مما يفهم معناه، ويمكن إدراكه بتدبر وتأمل، وليس فيه ما لا يمكن أن يعلم معناه أحد[28]، ولذلك قال شيخ الإسلام ابن تيمية: " ولا يجوز أن يكون الرسول صلى الله عليه وسلم وجميع الأمة لا يعلمون معناه، كما يقول ذلك من يقوله من المتأخرين، وهذا القول يجب القطع بأنه خطأ "[29].
وهذا التقرير يتوافق قطعاً مع مقتضى النصوص الشرعية كقوله تعالى: ï´؟ وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآَنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ ï´¾ [30]، إلا أن هذا ليس معناه أن يخوض كل إنسان في القرآن حسب فهمه، فيكون عرضة للأهواء، وإنما يتناوله كل أحد بحسبه بما يتناسب مع قدر علمه ومعرفته، ولعل كلام ابن عباس رضي الله عن يشير إلى هذا، حيث جعل التفسير أربعة أوجه: وجه تعرفه العرب من كلامها، وتفسير لا يعذر أحد بجهله، وتفسير يعلمه العلماء، وتفسير لا يعلمه إلا الله، ومن ادعى علمه فقد كذب[31].
وقد جمع الله هذه الأصناف الثلاثة في قوله: ï´؟ وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آَذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ * وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * وَمِمَّنْ خَلَقْنَا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ ï´¾ [32].
الدرس الثاني: مع قوله تعالى: ï´؟ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ ï´¾ [33]، وقد وردت عدة روايات في بيان سبب نزول هذه الآية عن أم سلمة وابن عباس والحارث بن ضرار أخرجها الإمام أحمد والطبري والطبراني والبيهقي وغيرهم، وفيها " أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث الوليد بن عقبة إلى الحارث ليقبض ما كان عنده مما جمع من الزكاة فلما أن سار الوليد حتى بلغ بعض الطريق فَرَقَ - أي خاف - فرجع حتى أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إن الحارث قد منعني الزكاة وأراد قتلي فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم وبعث البعث إلى الحارث، وأقبل الحارث بأصحابه حتى إذا استقبل البعث وفصل عن المدينة لقيهم الحارث، فقالوا: هذا الحارث. فلما غشيهم، قال: إلى من بعثتم. قالوا: إليك. قال: ولم؟ قالوا: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث إليك الوليد فزعم أنك منعته الزكاة وأردت قتله. قال: لا والذي بعث محمداً بالحق ما رأيته بتة ولا أتاني. فلما دخل الحارث على رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: منعت الزكاة وأردت قتل رسولي؟ قال: لا والذي بعثك بالحق ما رأيته ولا أتاني وما قبلت إلا حين احتبس علي رسول الله صلى الله عليه وسلم، خشيت أن يكون سخطة من الله ورسوله. فنزلت: ï´؟ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ ï´¾ "[34].
وهذه الرواية قد أقرها أكثر المفسرين والعلماء، وأخذوا بمضمونها في تفسير هذه الآية، ولقد وقف الباحث على كثير من كتب التفسير التي اعتبرت هذه الرواية، وصدقتها، وجعلتها سبباً للآية، ومن هذه التفاسير: تفسير الطبري[35]، وابن أبي حاتم الرازي في تفسيره[36]، وعبد الرزاق الصنعاني في تفسيره[37]، وتفسير ابن أبي زمنين[38]، وأبو السعود في تفسيره[39]، وابن كثير[40]، وابن عطية[41]، والآلوسي[42]، والشوكاني[43]، والبحر المحيط لأبي حيان الأندلسي[44]، والرازي في تفسيره[45]، والزمخشري في الكشاف[46]، والشنقيطي في أضواء البيان[47]، والقرطبي في الجامع لأحكام القرآن[48]، وابن الجوزي في زاد المسير[49]، والنسفي في تفسيره[50]، والسمرقندي في بحر العلوم[51]، وابن القيم في المدارج[52]، والجصاص في أحكام القرآن[53]، والغرناطي في التسهيل[54]، والثعالبي في تفسيره[55]، والسيوطي في الدر المنثور[56]، والمراغي في تفسيره[57]، والقاسمي في محاسن التأويل[58]، وفي ظلال القرآن لسيد قطب[59].
فهذه التفاسير قد اعتبرت هذه الرواية عمدة في تفسير الآية وجعلتها سبباً لنزولها، بل ذهب البعض إلى أبعد من هذا فاستدلوا بها على أن الصحابة رضي الله عنهم ليسوا كلهم عدولاً، كما قال ذلك الآلوسي في روح المعاني وقد تردد في الحكم على ذلك واضطرب فيما يظهر: " واستدل بها على أن من الصحابة من ليس بعدل؛ لأن الله تعالى أطلق الفاسق على الوليد فيها، فإن سبب النزول قطعي الدخول، وهو صحابي بالاتفاق، فيرد بها على من قال: إنهم كلهم عدول، ولا يبحث عن عدالتهم في رواية ولا شهادة. وهذا أحد أقوال المسألة، وقد ذهب إليه الأكثر من العلماء السلف والخلف.
وثانيها: أنهم كغيرهم فيبحث عن العدالة فيهم في الرواية والشهادة إلا من يكون ظاهرها أو مقطوعها كالشيخين.
وثالثها: أنهم عدول إلى قتل عثمان رضي الله تعالى عنه ويبحث عن عدالتهم من حين قتله لوقوع الفتن من حينئذ وفيهم الممسك عن خوضها.
ورابعها: أنهم عدول إلا من قاتل علياً كرم الله تعالى وجهه لفسقه بالخروج على الإمام الحق وإلى هذا ذهبت المعتزلة.
والحق ما ذهب إليه الأكثرون وهم يقولون: إن من طرأ له منهم قادح ككذب أو سرقة أو زنا عمل بمقتضاه في حقه إلا أنه لا يصر على ما يخل بالعدالة بناء على ما جاء في مدحهم من الآيات والأخبار وتواتر من محاسن الآثار، فلا يسوغ لنا الحكم على من ارتكب منهم مفسقاً بأنه مات على الفسق، ولا ننكر أن منهم من ارتكب في حياته مفسقاً لعدم القول بعصمتهم وأن كان يقال له قبل توبته فاسق لكن لا يقال باستمرار هذا الوصف فيه ثقة ببركة صحبة النبي صلى الله تعالى عليه وسلم ومزيد ثناء الله عز وجل عليهم "[60]، أي من صحة الاستدلال بالآية وارتباطها بالرواية السابقة. ولعل الاتفاق من جمهور المفسرين على هذه الرواية هو الذي جعلهم لا يقفون عندها.
يتبع