عرض مشاركة واحدة
  #2  
قديم 09-02-2020, 03:58 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 161,212
الدولة : Egypt
افتراضي رد: قلب الحجة الفلسفية على المعترضين على التشريع والأخلاقيات في الإسلام

قلب الحجة الفلسفية على المعترضين على التشريع والأخلاقيات في الإسلام
أبو الفداء بن مسعود




فإذا كانت المقدمة الأولى عندنا:

القرءان كتاب منزل من الخالق قد ثبت له ذلك من طرق قطعية شتى، فكل ما فيه من أحكام وشرائع فهو حق ولابد، وكل ما يخالفه فهو باطل ولابد.



فإن المقدمة الأولى لدى المخالف تكون:

النظرية الأخلاقية (خ) (سواء جاء بها من ملة يدين بصحتها أو من نظرية فلسفية تعجبه) هي الحق والصواب الأخلاقي المطلق، فما خالفها من ملة أو كتاب فهو باطل ولابد.



فكان مجرد ذكر تلك المقدمة عندنا ومقابلتها بتلك التي عند مخالفنا، دليلا على بطلان دعواه في هذه الشبهة وعلى أنها استدلال بمحل النزاع. فإذا ما زدنا في البيان وقررنا حججنا على أن القرءان كتاب منزل من خالق السماوات والأرض، وألزمنا المخالف بإثبات مقدمته الأولى في مقابل ذلك، فسيتبين بجلاء أنه إنما يتمسك بنظرية من نظريات الأخلاق لا لشيء إلا لأنها أصبحت فكرا سائدا بين أقرانه أو في مجتمعه أو في المجتمع الذي يراه مثاليا واجب التقليد في ذلك! فيكون بتقريره تلك الشبهة قد وقع في مغالطات عقلية بعضها فوق بعض:

الدور المنطقي Circular Logic

المحاججة بالتقرير المجرد على نمط "ما تكرر تقرر" Proof By Assertion

المحاججة من اتباع سنن الآباء وما عليه الكثرة في زماننا Argumentum Ad Populum




وطالما كان الغرض من قلب الحجة إنما هو بيان بطلانها في نفسها وبيان أنها شبهة واهية لا أساس لها ولا تفضي مقدماتها إلى نتائجها المزعومة، فسيكون المقلوب (ق) كافيا لتحقيق ذلك الغرض كفاية تامة. فإذا ما انتهى المخالف إلى أن يقول: "أثبتوا إذن أن الإسلام هو دين الله الحق حتى نسلم لكم بأن الأخلاقيات التي جاء بها في تعاليمها والشرائع التي أمر بها كلها حق أخلاقي وصواب محض"، فقد تحقق لنا غاية ما نريد من الرد، وهو إلزام الخصم بأن الانطلاق بتصحيح أو إبطال جملة من الأحكام الأخلاقية المنسوبة إلى الإسلام إنما يأتي تبعا لإثبات صحة أو بطلان نسبة الإسلام نفسه إلى خالق السماوات والأرض، وليس العكس كما كانت دعواه!



2.2 معكوس الشبهة (ع):

أما الصورة الثانية التي نعرضها في هذا البحث لقلب الحجة، فتصرح في صياغتها باتخاذها نقيض نتيجة الخصم كمقدمة من مقدماتها، وذلك لبيان أن دعواه المجردة لا تخدمه فيما يريد بحال من الأحوال. هذه الصورة الثانية أسميتها بالحجة المعاكسة، على غرار ما يسميه بعض الفلاسفة المعاصرين Argument Shift، كما سماه اللا-لاهوتي الأمريكي ويليام روه بمعكوس مور G. E. Moore's Shift على اعتبار هذا الأخير أول من صاغه في صياغة شكلية واستعمله استعمالا مستفيضا في نقض دعاوى فلاسفة الشك المعرفي Skeptics أمثال هيوم وغيره.



وللتمثيل على ذلك المعكوس كما استمعله مور، فلنفترض أن رجلا متشككا وضع يده أمام وجهه، ثم جاءنا بهذه الدعوى (Murray, Rea2008, pp. 165):

لو كان موقف الشك المطلق حقا، لما أمكنني معرفة أن هناك يدا أمام وجهي.

موقف الشك المطلق حق.

إذن لا يمكنني أن أعرف أن هناك يدا أمام وجهي.



فيكون جوابه بمعكوس الأمور كالتالي:

لو كان موقف الشك المطلق حقا، لما أمكنني معرفة أن هناك يدا أمام وجهي.

موقف الشك المطلق باطل.

إذن يمكنني أن أعرف أن هناك يدا أمام وجهي.



فإذا كانت الدعوى تتكون من (1 ، 2، 3) فالجواب يكون: (1 ، نقيض 2، نقيض 3). فالمقدمة الأولى التي تكلمنا عنها فيما عرضناه آنفا من نسق للمحاججة، التي هي نقيض ما يريد صاحب الدعوى أن يصل إليه، قد أظهرها مور ههنا بجعلها المقدمة الثانية في صياغته (وهي تقرير أن موقف الشك المطلق باطل)، ليصل من ذلك إلى تحويل ما أراد المخالف الاحتجاج به إلى قضية تابعة تتفرع عن إثبات أو نفي الأصل الذي يريد المخالف نفيه! فيبطل بذلك استدلال المخالف وتسقط حجته رأسا، ويرجع الأمر إلى البحث في المقدمة الأولى (وهي المسألة: هل الشك المعرفي المطلق حق أم باطل؟) بعيدا عن تلك الشبهة الاستدلالية الواهية.



ولعله قد استغل مور البطلان البدهي الجلي للنتيجة التي ينتهي إليها المتشكك في صياغته لدعواه (ألا وهي زعمه أن هذا الذي أمامه ليس يدا!!)، ليقابله بمعقولية النتيجة التي ينتهي هو إليها من معكوس تلك الدعوى، فيتحقق له إبطال دعوى المخالف من هذا الطريق[2].



ولمعكوس مور أيضا ترتيب آخر يتخذ من نقيض نتيجة الدعوى المردود عليها مقدمة أولى، وصياغته الشكلية كالتالي (Rowe 1979, pp. 339):

ح: (1، 2، 3)

ع: (نقيض 3، 2، نقيض 1)

حيث "ح": الحجة المدعاة، و"ع": الحجة من معكوس "ح".



ويجري هذا الترتيب إذا ما طبقناه على دعوى المتشكك التي أوردناها في المثال السابق كالتالي:

دعوى المتشكك:

مبادئ الشك صحيحة (أو على الأقل بعضها).

لو كانت مبادئ الشك صحيحة، ما أمكنني أن أدري أن هذه التي أمامي هي يدي.

إذن: أنا لا أدري ما إذا كانت هذه التي أمامي هي يدي.



معكوس الدعوى:

أنا أدري أن هذه التي أمامي هي يدي.

لو كانت مبادئ الشك صحيحة، ما أمكنني أن أدري أن هذه التي أمامي هي يدي.

إذن: مبادئ الشك باطلة (أو على الأقل بعضها).



ومما لا شك فيه أن دعوى المتشكك كانت ولا تزال – في أيما قالب أو ترتيب عرضناها - من الهبوط والوهاء بما يغني مجرد ذكره عن تكلف رده، وإنما كان القصد من ذلك العرض بيان صور المنطق الشكلي لقلب الاستدلال وعكسه على صاحبه لإسقاط دعواه، أيا ما كانت نحلته الفلسفية وعلى أيما طريقة اختار أن يصوغ تلك الشبهة.



وعلى هذه الصورة وهذا الترتيب الأخير، اخترنا أن نكتب حجتنا المعاكسة (ع) لشبهة القوم واعتراضهم على أحكام الشريعة والأخلاق في القرءان، ليكون نظمها كالتالي:

1- القرءان كلام الله المنزل.

2- القرءان فيه الحكم بقطع يد السارق وجلد الزاني، والسنة الصحيحة فيها رجم الزناة وعليه الإجماع.

3- إذن: هذه الأحكام صحيحة أخلاقيا وهي عين العدالة في العقوبة (فما جاوزها فهو الإفراط وما قصر عنها فهو التفريط، على التعريف الصحيح).



فإذا استصحب المخالف أن فلسفته الأخلاقية هي الصواب الأخلاقي المطلق الذي استند إليه في الحكم على القرءان، قابلنا نحن ذلك بأن القرءان هو الكتاب الحق المنزل من الخالق، بما لا يكاد يحصى من الأدلة والبراهين القطعية، فلا شيء من كتب البشر يصح أن يكون حاكما عليه، وإنما يكون هو الحاكم على سائر كتب البشر ولابد.



ولعل هذه الصياغة (صورة معكوس الشبهة) تكون أقرب إلى الذهن في شبهتنا هذه من صورة مقلوب الشبهة، على اعتبار أنها تتحقق فيها خصلتان لا تتحققان في صورة المقلوب:

أنها تصرح بالمقدمة الكلية التي تكتفي صيغة المقلوب باستصحابها وحسب دون ذكرها.

أنها تتخذ تلك المقدمة على رأس مقدمات الحجة، لا كمقدمة ثانية أو ثالثة، بما يظهر معه أنها أساسها وقاعدتها التي تقوم عليها، كما هي حقيقة الأمر.





مراجع:

Murray, M. J. & Rea, M. C. (2008): An introduction to the philosophy of Religion, U.K: Cambridge University Press.

Rowe, W. L. (1979) "The Problem of Evil and Some Varieties of Atheism.". American Philosophical Quarterly 16: 33541





[1] للفائدة ينظر في رسالة الماجستير للشيخ تميم بن عبد العزيز القاضي تحت عنوان «قلب الأدلة على الطوائف المخالفة في توحيد المعرفة والإثبات»، وقد قدمها في سنة 1430 هـ لنيل درجة الماجستير من قسم العقيدة بجامعة الإمام محمد بن سعود، وفي حدود علمي فإن الرسالة حتى تاريخه لم تطبع ككتاب منشور.




[2] تقدم معنا أن إغراق الفلاسفة في ضرب الصياغات الشكلية قد أدى بهم – لا محالة – إلى تطويل الطريق إلى الحق، وفتح الباب أمام المسَلَّمات العقلية والبدهيات الأولى لأن تكون محلا للاشتباه والنظر! فلا يفوتني أن أنبه القارئ الكريم إلى أن هذه الحجة التي رد بها مور على هيوم في مثالنا هذا، إنما هي مثال واضح لهذا التطويل والتماس المعنى الأبعد للوصول إلى الأقرب (بحسب تعبير شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله)، الذي تورثه تلك الخصلة عند الفلاسفة في الحقيقة. فمع أن الأمر من الجلاء بما يكفي معه أن يقال للعاقل إنك لا يستقيم لك عقل ولا لغة لو أنك شككت يوما ما في أن هذا الذي أمامك هو يدك على الحقيقة، إلا أن أمثال هيوم لما وضعوا من الحجج السوفسطائية (الشبهات العقلية) ما يضرب في أصول البدهيات العقلية الأولى في قوالب مصوغة بأمثال تلك الصياغات الشكلية، خرج أقرانهم من مخالفيهم ليردوا عليها بمثلها، واستفاض الأمر حتى أصبح من الطبيعي أن نمر في كتب الفلسفة بحجج طويلة ينتهي منها صاحبها إلى إثبات ما يبدأ منه العقلاء بالضرورة المحضة والبداهة الأولى في كل نظر عقلي! فترى رجلا يكتب حجة منمقة طويلة، لينتهي منها إلى إثبات أن هذه التي يكتب بها هي يده، وإلى الله المشتكى!

لهذا جاء في الأثر عن بعض السلف أن العلم قطرة كثرها الجهلاء! ولهذا نقول إن من السفاهة بمكان أن يقال لطريقة السلف رضوان الله عليهم في فهم صفات خالقهم إنها "أسلم" في مقابل وصف طريقة من جاء بعدهم من المتأثرين بتلك المسالك بأنها "أحكم"، أو يقال إن العلم بالفلسفة والكلام ضرورة للعقلاء حتى يتمكنوا من معرفة الحق فيما جاء به المرسلون! لا والله إنما طريقة المرسلين ومن تبعهم هي الأسلم والأوفى والأجمع لخصال الحكمة لمن تأمل، وفيها الكفاية لكل عاقل صادق! فالحكمة إنما تكون في قصد السبيل، واحتواء المعنى الجزيل في اللفظ القليل، والتماس أقرب الطرق وأقصرها لبيان الدليل، والسعي إلى تقريب المعنى البعيد بالمعاني القريبة إلى الذهن لا العكس من ذلك، وتغليق الأبواب أمام دعاة السفسطة والتشكيك في المسلمات والبدهيات الأولى، فيا ليت الفلاسفة يتعلمون من طريقة القرءان ومن جوامع الكلم فيما جاء به النبي العدنان، صلوات ربي عليه وآله وسلم، ويا ليتهم يعقلون!








__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 26.66 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 26.03 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (2.36%)]