شروط رجم الزاني
الشيخ فيصل بن عبدالعزيز آل مبارك
حدثنا علي بن عبد الله، حدثنا سفيان، عن الزهري، عن عبيد الله، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال عمر: لقد خشيت أن يطول بالناس زمان حتى يقول قائل: لا نجد الرجم في كتاب الله، فيضلوا بترك فريضة أنزلها الله، ألا وإن الرجم حق على من زنى وقد أحصن إذا قامت البينة، أو كان الحمل أو الاعتراف - قال سفيان: كذا حفظت - ألا وقد رجم رسول الله صلى الله عليه وسلم ورجمنا بعده"[48].
قال الحافظ: "قوله: "باب الاعتراف بالزنى"، هكذا عبَّر بالاعتراف؛ لوقوعه في حديثي الباب، وقد تقدم في شرح قصة ماعز البحث في أنه هل يشترط في الإقرار بالزنى التكرير أو لا؟ واحتج من اكتفى بالمرة بإطلاق الاعتراف في الحديث، ولا يعارض ما وقع في قصة ماعز من تكرر الاعتراف؛ لأنها واقعة حال كما تقدم"[49].
وقال الحافظ أيضًا في [باب][50]: "لا يرجم المجنون والمجنونة" في شرح حديث ماعز: "وفيه: التثبت في إزهاق نفس المسلم، والمبالغة في صيانته؛ لما وقع في هذه القصة من ترديده، والإيماء إليه بالرجوع، والإشارة إلى قبول دعواه إن ادعى إكراهًا، أو خطأ في معنى الزنى، أو مباشرة دون الفرج مثلًا أو غير ذلك.
وفيه: مشروعية الإقرار بفعل الفاحشة عند الإمام وفي المسجد، والتصريح فيه بما يستحي من التلفظ به من أنواع الرفث في القول من أجل الحاجة الملجئة لذلك.
وفيه: نداء الكبير بالصوت العالي، وإعراض الإمام عمن أقر بأمر محتمل لإقامة الحد؛ لاحتمال أن يفسره بما لا يُوجب حدًا أو يرجع، واستفساره عن شروط ذلك ليترتب عليه مقتضاه، وأن إقرار المجنون لاغٍ، والتعريض للمقر بأن يرجع، وأنه إذا رجع قُبل.
قال ابن العربي[51]: وجاء عن مالك رواية[52]: أنه لا أثر لرجوعه، وحديث النبي صلى الله عليه وسلم أحق أن يُتبع.
وفيه: أنه يُستحب لمن وقع في معصية وندم أن يبادر إلى التوبة منها، ولا يخبر بها أحدًا، ويستتر بستر الله.
وإن اتفق أنه يخبر أحدًا فيستحب أن يأمره بالتوبة، وستر ذلك عن الناس كما جرى لماعز مع أبي بكر ثم عُمر، وفي القصة: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لهزَّال: "لو سترته بثوبك لكان خيرًا لك[53]"...
إلى أن قال: واستدل به على اشتراط تكرير الإقرار بالزِّنى أربعًا؛ لظاهر قوله: "فلما شهد على نفسه أربع شهادات..."، فإن فيه إشعارًا بأن العدد هو العلة في تأخير إقامة الحد عليه، وإلا لأمر برجمه في أول مرة، ولأن في حديث ابن عباس: قال لماعز: "قد شهدت على نفسك أربع شهادات، اذهبوا به فارجموه"[54].
ويؤيده: القياس على عدد شهود الزنى دون غيره من الحدود، وهو قول الكوفيين[55]، والراجح عند الحنابلة[56].
وزاد ابنُ أبي ليلى فاشترط أن تتعدد مجالس الإقرار، وهي رواية عن الحنفية[57]، وتمسكوا بصورة الواقعة، لكن الروايات فيها اختلفت.
والذي يظهر: أن المجالس تعددت، لكن لا بعدد الإقرار، فأكثر ما نقل في ذلك: أنه أقر مرتين ثم عاد من الغد فأقر مرتين، كما تقدم بيانه عند مسلم[58].
وتأوَّل الجمهور: بأن ذلك وقع في قصة ماعز، وهي واقعة حال فجاز أن يكون لزيادة الاستثبات، ويؤيد هذا الجواب ما تقدم في سياق حديث أبي هريرة، وما وقع عند مسلم في قصة الغامدية حيث قالت لما جاءت: طهرني، فقال: "ويحك، ارجعي فاستغفري"، قالت: أراك تريد أن ترددني كما رددت ماعزًا، إنها حُبلى من الزنى[59]، فلم يؤخر إقامة الحد عليها إلا لكونها حُبلى، فلما وضعت أمر برجمها، ولم يستفسرها مرة أخرى، ولا اعتبر تكرير إقرارها ولا تعدد المجالس، وكذا وقع في قصة العسيف حيث قال: "واغد يا أنيس إلى امرأة هذا، فإن اعترفت فارجمها"، وفيه: فغدا عليها فاعترفت فرجمها[60]. ولم يذكر تعدد الاعتراف ولا المجالس.
وأجابوا عن القياس المذكور: بأن القتل لا يقبل فيه إلا شاهدان، بخلاف سائر الأموال فيقبل فيها شاهد وامرأتان، فكان قياس ذلك: أن يشترط الإقرار بالقتل مرتين. وقد اتفقوا أنه يكفي فيه مرة[61].
فإن قلت: والاستدلال بمجرد عدم الذكر في قصة العسيف وغيره فيه نظر؛ فإن عدم الذكر لا يدل على عدم الوقوع، فإذا ثبت كون العدد شرطًا فالسكوت عن ذكره يحتمل أن يكون لعلم المأمور به، وأما قول الغامدية: تريد أن ترددني كما رددت ماعزًا، فيمكن التمسك به، لكن أجاب الطيبي: بأن قولها: إنها حُبلى من الزنى، فيه إشارة إلى أن حالها مغايرة لحال ماعز؛ لأنهما وإن اشتركا في الزِّنى لكن العلة غير جامعة؛ لأن ماعزًا كان متمكنًا من الرجوع عن إقراره بخلافها، فكأنها قالت: أنا غير متمكنة من الإنكار بعد الإقرار؛ لظهور الحمل بها بخلافه، وتعقب: بأنه كان يمكنها أن تدعي إكراهًا أو خطأ أو شبهة.
وفيه: أن الإمام لا يشترط أن يبدأ بالرجم في من أقر وإن كان ذلك مستحبًا؛ لأن الإمام إذا بدأ مع كونه مأمورًا بالتثبت والاحتياط فيه كان ذلك أدعى إلى الزجر عن التساهل في الحكم، وإلى الحض على التثبت في الحكم؛ ولهذا يبدأ الشهود إذا ثبت الرجم بالبينة.
وفيه: جواز تفويض الإمام إقامة الحد لغيره، وفيه: جواز تلقين المقر بما يوجب الحد ما يدفع به عنه الحد، وأنه لا يجب إلا بالإقرار الصريح، ومن ثمَّ شرط على من شهد بالزنى أن يقول: رأيته ولج ذكره في فرجها، أو ما أشبه ذلك، ولا يكفي أن يقول: أشهد أنه زنى.
وثبت عن جماعة من الصحابة تلقين المقر بالحد كما أخرجه مالك، عن عمرو بن أبي شيبة، عن أبي الدرداء، وعن علي في قصة شراحة.
ومنهم من خص التلقين بمن يظن به أنه يجهل حكم الزنى، وهو قول أبي ثور، وعند المالكية: يُستثنى تلقين المشتهر بانتهاك الحرمات، ويجوز تلقين من عداه، وليس ذلك بشرط.
وفيه: ترك سجن من اعترف بالزنى في مدة الاستثبات، وفي الحامل حتى تضع، وقيل: إن المدينة لم يكن بها حينئذ سجن، وإنما كان يسلم كل جانٍ لوليه.
وقال ابن العربي[62]: إنما لم يُؤمر بسجنه ولا التوكيل به؛ لأن رجوعه مقبول فلا فائدة في ذلك مع جواز الإعراض عنه إذا رجع.
ويؤخذ من قوله: "هل أحصنت؟" وجوب الاستفسار عن الحال التي تختلف الأحكام باختلافها.
وفيه: أن المُقر بالزنى إذا أقر يُترك، فإن صرح بالرجوع فذاك، وإلا أتبع ورجم، وهو قول الشافعي[63] وأحمد[64]، ودلالته من قصة ماعز ظاهرة، وقد وقع في حديث نعيم بن هزَّال: "هلا تركتموه لعله يتوب، فيتوب الله عليه"، أخرجه أبو داود وصححه الحاكم[65].
وعند أبي داود من حديث بُريدة، قال: كنا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم نتحدث أن ماعزًا والغامدية لو رجعا لم يطلبهما[66].
وعند المالكية[67] في المشهور: لا يترك إذا هرب، وقيل: يشترط أن يؤخذ على الفور، فإن لم يؤخذ ترك، وعن ابن عيينة: إن أخذ في الحال كمل عليه الحد، وإن أخذ بعد أيام تُرك، وعن أشهب: إن ذكر عُذرًا يُقبل ترك، وإلا فلا، ونقله القعنبي عن مالك، وحكى الكجي عنه قولين في من رجع إلى شبهة، ومنهم من قيده بما بعد إقراره عند الحاكم.
واحتجوا: بأن الذين رجموه حتى مات بعد أن هرب لم يلزموا بديته، فلو شرع تركه لو جبت عليهم الدية.
والجواب: أنه لم يصرح بالرجوع، ولم يقل أحد: إن الرجم يسقط بمجرَّد الهرب، وقد عبَّر في حديث بريدة بقوله: "لعله يتوب".
وفيه: أن إقرار السكران لا أثر له، يؤخذ من قوله: استنكهوه، واستدل به على أن من وجد منه ريح الخمر وجب عليه الحد...
إلى أن قال: ومن المذاهب الظريفة فيه: قول الليث: يُعمل بأفعاله ولا يعمل بأقواله؛ لأنه يلتذ بفعله، ويشفي غيظه، ولا يفقه أكثر ما يقول، وقد قال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ ﴾ [النساء: 43][68]" انتهى ملخصًا.
[1] الروض المربع ص489.
[2] في الأصل: "عليها"، والمثبت من "المقنع".
[3] شرح منتهى الإرادات 6/ 190 و191، وكشاف القناع 14/ 58.
[4] الإنصاف مع المقنع والشرح الكبير 26/ 292، وكشاف القناع 14/ 59.
[5] الإنصاف مع المقنع والشرح الكبير 26/ 323.
[6] الإنصاف مع المقنع والشرح الكبير 26/ 326.
[7] الإنصاف مع المقنع والشرح الكبير 26/ 331 و332، وشرح منتهى الإرادات 6/ 196، وكشاف القناع 14/ 67.
[8] الإنصاف مع المقنع والشرح الكبير 26/ 338 - 340، وشرح منتهى الإرادات 6/ 197، وكشاف القناع 14/ 68.
[9] المقنع 3/ 458 - 467.
[10] شرح منتهى الإرادات 6/ 187، وكشاف القناع 14/ 54.
[11] حاشية المقنع 3/ 458.
[12] الإجماع 641، وفتح القدير 4/ 114، وحاشية ابن عابدين 4/ 7، والشرح الصغير 2/ 423، وحاشية الدسوقي 4/ 319، وتحفة المحتاج 9/ 112، ونهاية المحتاج 7/ 429 و430، وشرح منتهى الإرادات 6/ 193، وكشاف القناع 14/ 63.
[13] فتح القدير 4/ 117، وحاشية ابن عابدين 4/ 9 و10.
[14] شرح منتهى الإرادات 6/ 192، وكشاف القناع 14/ 61.
[15] الشرح الصغير 2/ 423، وحاشية الدسوقي 4/ 318.
[16] تحفة المحتاج 9/ 113، ونهاية المحتاج 7/ 430.
[17] فتح القدير 4/ 117، وحاشية ابن عابدين 4/ 10.
[18] شرح منتهى الإرادات 6/ 192، وكشاف القناع 14/ 61.
[19] فتح القدير 4/ 120، وحاشية ابن عابدين 4/ 10، وتحفة المحتاج 9/ 113، ونهاية المحتاج 7/ 431، وشرح منتهى الإرادات 6/ 193، وكشاف القناع 14/ 61.
[20] الشرح الصغير 2/ 423، وحاشية الدسوقي 4/ 318.
[21] الشرح الصغير مع حاشية 2/ 432، وحاشية الدسوقي 4/ 318.
[22] الشرح الصغير 2/ 432، وحاشية الدسوقي 4/ 319.
[23] الإفصاح 4/ 14 - 18.
[24] فتح القدير 4/ 14، وحاشية ابن عابدين 4/ 7، والشرح الصغير 2/ 423، وحاشية الدسوقي 4/ 318 و319، وتحفة المحتاج 9/ 112، ونهاية المحتاج 7/ 429 و430 وشرح منتهى الإرادات 6/ 193، وكشاف القناع 14/ 63.
[25] الشرح الصغير 2/ 423، وحاشية الدسوقي 4/ 318.
[26] تحفة المحتاج 9/ 113، ونهاية المحتاج 7/ 430.
[27] مختصر الإيصال الملحق بالمحلى 11/ 180 و181.
[28] فتح القدير 4/ 117، وحاشية ابن عابدين 4/ 10.
[29] شرح منتهى الإرادات 6/ 192، وكشاف القناع 14/ 61.
[30] فتح القدير 4/ 117، وحاشية ابن عابدين 4/ 10.
[31] أخرجه البخاري 2314، ومسلم 1697.
[32] أخرجه مسلم 1693.
[33] فتح القدير 4/ 120، وحاشية ابن عابدين 4/ 10، وتحفة المحتاج 9/ 113، ونهاية المحتاج 7/ 431، وشرح منتهى الإرادات 6/ 193، وكشاف القناع 14/ 61.
[34] الشرح الصغير 2/ 423، وحاشية الدسوقي 4/ 318.
[35] الشرح الصغير 2/ 432، وحاشية الدسوقي 4/ 318.
[36] الشرح الصغير 2/ 432، وحاشية الدسوقي 4/ 319.
[37] أخرجه أحمد 5/ 216 و217، وأبو داود 4377 و4419، والنسائي في الكبرى 4/ 290 و305 7205 و7274، من طريق "هشام بن سعد، وزيد بن أسلم" عن يزيد بن نعيم بن هزال، عن أبيه، به.
قال ابن حجر في التلخيص الحبير 4/ 58 1758: إسناده حسن.
[38] المجموع 22/ 243، وانظر: تحفة المحتاج 9/ 164، ونهاية المحتاج 8/ 8.
[39] فتح القدير 4/ 112، وحاشية ابن عابدين 4/ 4، والشرح الصغير 2/ 437، وحاشية الدسوقي 4/ 347.
[40] الإجماع 641، وفتح القدير 4/ 114، وحاشية ابن عابدين 4/ 7، والشرح الصغير 2/ 423، وحاشية الدسوقي 4/ 319، وتحفة المحتاج 9/ 112، ونهاية المحتاج 7/ 429 و430، وشرح منتهى الإرادات 6/ 193، وكشاف القناع 14/ 63.
[41] فتح القدير 4/ 117، وحاشية ابن عابدين 4/ 9 و10، وشرح منتهى الإرادات 6/ 192، وكشاف القناع 14/ 61.
[42] الشرح الصغير 2/ 357 و358، وحاشية الدسوقي 4/ 185 و186، وتحفة المحتاج 9/ 115، ونهاية المحتاج 7/ 432، وشرح منتهى الإرادات 6/ 193، وكشاف القناع 14/ 64.
[43] فتح القدير 4/ 167، وحاشية ابن عابدين 4/ 35.
[44] بداية المجتهد 2/ 403 - 405.
[45] البخاري 6824.
[46] فتح الباري 12/ 135.
[47] البخاري 6828.
[48] البخاري 6829.
[49] فتح الباري 12/ 137.
[50] ليست في الأصل، والسياق يقتضيها.
[51] أحكام القرآن لابن العربي 4/ 300.
[52] المنتقى شرح الموطأ 7/ 155.
[53] تقدم تخريجه 9/ 97.
[54] أخرجه أبو داود 4426.
[55] فتح القدير 4/ 114، وحاشية ابن عابدين 4/ 7.
[56] شرح منتهى الإرادات 6/ 193، وكشاف القناع 14/ 63.
[57] فتح القدير 4/ 117، وحاشية ابن عابدين 4/ 10.
[58] 1695.
[59] مسلم 1695، من حديث بريدة بن الحصيب رضي الله عنه.
[60] البخاري 2314، ومسلم 1697، من حديث أبي هريرة وزيد بن خالد الجهني رضي الله عنهما.
[61] الشرح الصغير 2/ 423، وحاشية الدسوقي 4/ 318، وتحفة المحتاج 9/ 112 و113، ونهاية المحتاج 7/ 430.
[62] أحكام القرآن لابن العربي 4/ 301.
[63] تحفة المحتاج 9/ 113، ونهاية المحتاج 7/ 431.
[64] شرج منتهى الإرادات 6/ 193، وكشاف القناع 14/ 61.
[65] تقدم تخريجه 9/ 97.
[66] أبو داود 4434، وأخرجه أيضًا النسائي في الكبرى 4/ 304 7271، والطحاوي 3/ 143، من طريق "أبي أحمد الزبيري، ومحمد بن فضيل، وأبي نعيم" عن بشير بن المهاجر، حدثني عبد الله بن بريدة، عن أبيه، به.
قال المنذري في المختصر 6/ 252 4272: في إسناده بشير بن مهاجر الكوفي. قال الألباني في الإرواء 8/ 28: بشير بن المهاجر - وإن أخرج له مسلم - فهو لين الحديث كما في التقريب، فلا يحتج به، لا سيما عند التفرد كما هنا، والله أعلم.
[67] الشرح الصغير 2/ 423، وحاشية الدسوقي 4/ 319.
[68] فتح الباري 12/ 125 - 127.