مفهوم البر
نور الدين قوطيط
3- الإيمان بالملائكة:
الركيزة الثالثة في العقيدة الإسلامية هي ركيزة: "الملائكة".
وعقيدة "الملائكة" في المنهج الإسلامي عقيدةٌ فريدة، وما تكْمُن فرائدُها الجليلة تلك إلاَّ في ذلك التصوُّر الكبير والجميل الذي يقدِّمه المنهج الإسلاميُّ للإنسان المسلم حول "الملائكة".
لقد تحدث القرآن الكريم عن الملائكة - عليهم السلام - من خلال محورين:
المحور الأوَّل: لقد أكد القرآن الكريم على أنَّ الملائكة - عليهم السلام - مخلوقاتٌ عابدةٌ لله - تعالى - وحده لا شريك له؛ قال الله - جلَّ جلالُه -: ï´؟ لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ وَلَا الْمَلَائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعًا ï´¾ [النساء: 172]، ï´؟ وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ دَابَّةٍ وَالْمَلَائِكَةُ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ * يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ ï´¾ [النحل: 50]، ï´؟ وَتَرَى الْمَلَائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ï´¾ [الزمر: 75 ]، ï´؟ تَكَادُ السَّمَوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنَّ وَالْمَلَائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَلَا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ï´¾ [الشورى: 5].
ثانيًا: أكَّد القرآن الكريم على أنَّ الملائكة - عليهم السلام - موَكَّل إليهم مهمةُ تدبير الكون بما فيه من أشياءَ وأشخاص وأحداث بحسب قوانين الحكمة الإلهية؛ ï´؟ لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلَا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ ï´¾ [الرعد: 11]، ï´؟ الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ والأَرْضِ جَاعِلِ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ï´¾ [فاطر: 1]، ï´؟ إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلِائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ ï´¾ [فصلت: 30]، ï´؟ إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاثَةِ آَلَافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُنْزَلِينَ ï´¾ [آل عمران: 124].
ومن هنا تجد أنَّ الملائكة - عليهم السلام - ضرورةٌ وجوديَّة، بمعنى أن الملائكة ضرورة تؤكدها الحكمة الإلهية؛ لأجل طبيعة الإنسان وطبيعة العالم - سواء الدنيوي والأخروي - اللتين تقتضيان الإمداد من الله - تعالى - إلى الأجل المحدد لهما، والإنسان المسلم عندما تترسَّخ في كينونته هذه العقيدة على هذا النحو تُجاه الملائكة - عليهم السلام - فإنَّ علاقة حميمة تنشأ بينه وبينهم، استشعارًا منه أنهم كائناتٌ تشترك معه في نفس المهمة التي خُلِق لأجلها "مهمة العبودية"، ومعرفة منه بعلاقتهم معه القائمة على أسس الإرشاد والاستغفار، والولاء والنصرة؛ قال الله - جلَّ جلالُه -: ï´؟ تَكَادُ السَّمَوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنَّ وَالْمَلَائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ [13] أَلَا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ï´¾ [الشورى: 5]، ï´؟ إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اُسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ * نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآَخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ * نُزُلًا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ ï´¾ [فصلت: 30 - 32].
وهكذا ينظر الإنسان المسلم - وقد تمكَّنت هذه العقيدة من نفسه، ووضُحتْ معانيها في ضميره - إلى نظرة الجاهليَّة والجاهليين، التي تعتقد أن الملائكة - عليهم السلام - بناتُ الله - تعالى الله عن قولهم علوًّا كبيرًا - أو أنهم آلهةٌ من دون الله - تعالى - أو أنهم شركاء لله - تعالى - وهي نظرة احتقار واشمئزاز وبغض؛ وما ذاك إلاَّ بمعرفته أنهم - عليهم السلام - مخلوقات خُلِقت للعبوديَّة لله - تعالى - وحده لا شريك له، وأنهم يسارعون في طاعة ربِّهم، ولا يملكون لأنفسهم نفعًا ولا ضرًّا، ولا موتًا ولا حياةً ونشورًا.
4- الإيمان بالكتب:
الركيزة الرابعة في العقيدة الإسلامية هي ركيزة الإيمان بـ"الكتب".
الإنسان - لأنه كائن مخلوق - لابُدَّ له من منهج كلِّيٍّ، شامل كامل، يُتيح له توفيق مقتضيات حياته الدنيوية بحسب المهمة التي خُلِق لأجلها في هذا العالم، "مهمة العبودية".
ولقد يكون الإنسان على قدر عظيم من الألمعيَّة العقليَّة، والإحساس المرْهَف، والحكمة الصائبة، ولكنْ كل أولئك لا يُمكِّنه من الاستغناء عن المنهج الرباني المطلق، الشامل الكامل الذي يضع له المعالم، ويرسم له الخطوط، ويُحدد له القوانين، التي من خلالها يستطيع أن يرقَى إلى مستوى الإنسانية الفاضلة التي خلقه الله - جلَّ جلالُه - عليها، والتي يريد الله - جلَّ جلالُه - من الإنسان أن يُكيِّف حياته وَفق تعاليمها، فالكتب إنما نزلتْ لأجل هذا المعنى، وتأكيد هذه الحقيقة، حقيقة أن الإنسان خُلق في هذا العالم لأجل مهمة معيَّنة، ومن ثم لابد له من منهج يعينه على السير في طريقه نحو الأبدية، نحو الله.
ومن هنا كان إنزال الكتب من لدن الله - سبحانه وتعالى - ضروريًّا، رحمةً وفضلاً، فهو ضرورة تُوجِبها طبيعة الإنسان، وتؤكدها الحكمة الإلهية، ويكون من المتعذر تصور وجود الإنسان دون شريعة من الله - تعالى - ترسم له الإطار الكلي - المتضمن للمعاني الجزئية - الذي يجب أن يسير فيه، وتُحدد له المنهج الذي يجب أن يلتزم به في حياته.
ولقد يظن البعض أن العقل الإنسانيَّ فيه كفايةٌ وقوة للقيام بهذه المهمة - مهمة التوجيه والإرشاد - ولكن هؤلاء البعض نسي أو تناسَى أن هذا العقل الذي يتحدثون عنه، لا يستطيع إلى ذلك سبيلاً، وأسباب ذلك ما يلي:
أوَّلاً: فالعقل الإنسانيُّ عقل قاصر ناقص مهما أُوتي من وسائل العلم والمعرفة؛ لأنه عقل نسبي محدود، لا يمكنه الانفلات من قبضة الزمان والمكان؛ أي: ليس بوسعه التعالي على مجريات التاريخ، والنظرُ إليها نظرةً عميقة تخوله فهم قوانين الاشتغال، سواءٌ في الكينونة البشرية، أم العلاقات التاريخية، وليس بإمكانه تجاوزُ الدنيا إلى العالم الآخر؛ لمعرفة مصير الإنسان هناك؛ ذلك لأن الإنسان قد خلق للعالم الآخر، للأبدية، وما هذه الدنيا التي يمارس فيها أفعاله وأعماله إلاَّ مرحلة التهيؤ والإعداد للعالم الآخر، ومن ثم لا يستطيع العقل أن يحدد نوعيَّة الأعمال والأفعال التي تحدد مصيره هنالك في العالم الآخر؛ ببساطة لأن الأمر غيب، وهو لا يستطيع خرق حجب الغيب.
ثانيًا: فالعقل الإنساني لابد له من مرجعيَّة عُليَا يرجع إليها وهو يتعامل مع الأشخاص والأشياء، والأحداث والحقائق الكبرى في هذا الوجود، إيجابًا أو سلبًا، ومن ثم كان من الضروري في الحكمة الإلهية إنزالُ الكتب؛ حتى تكون المرجعية العليا للإنسان، ونقطة المركز الذي يجب أن ينجذب إليه، مثله في ذلك مثل الكوكب الذي يجب أن يدور في فلكه؛ وما ذاك إلاَّ لأن الإنسان لا يجد بدًّا من مركزٍ ينجذب إليه، ومرجعيَّة عليَا مطلقة يَحْتكِم إليها في مجالات حياته كافة، ومن ثم لا يستطيع - وإن أراد أو زعم ذلك لنفسه - أن يمارس حياته منفلتًا من مركز كلي مطلق، ومنحرفًا عن مرجعية عليا مطلقة تحدد له منهج حياته؛ لأن الأمر - كما قلت آنفًا - أن الإنسان عقيدة قبل أن يكون حركة وفعلاً.
وهكذا العقل الإنساني تجاه المرجعية المطلقة، هو بين أحد أمرين: إمَّا أن تكون تلك المرجعية صادرةً عن غيره، سواءٌ كان هذا الغير: "الله" - سبحانه وتعالى، أم كان طاغوتًا من الطواغيت المتفلسفة، وهو هنا لا يملك إلاَّ الاتِّباع، علمًا بأن حقيقة الاتباع تختلف في المرجعية الإلهية، والمرجعية الطاغوتية، وإمَّا أن تكون مرجعية منبثقةً من ذات نفسه؛ أي: هو مَن يحدد مبادئَها وقوانينَها وقيمها، وإن لم يكن الأمر بشكل مطلق، أعني: أن الغير لابد أن يساهم - حتى في هذه الحالة - في تشكيل مرجعيته العليا.
إن الذين يقولون بكفاية العقل الإنساني هم في الحقيقة يجنحون إلى اعتلاء عرش الألوهية؛ لأجل محاولتهم فرض مرجعيتهم الذاتية على الآخر، فكأنَّ هؤلاء الطواغيت - سواء كانوا متفلسفةً، أم كانوا مفكرين، أم كانوا علماءَ، أم كانوا حكَّامًا - يقولون: نحن الآلهة وأنتم العبيد.
من أجل ذلك؛ قال الله - تعالى - في محكم التنزيل:
من أجل ذلك؛ قال الله - تعالى - في محكم التنزيل: ï´؟ رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا ï´¾ [النساء: 165]، فالله - تعالى - لا يؤاخذ العبد إلاَّ بعد إرسال الرسل والأنبياء، ولو كان في العقل الإنساني كفايةٌ ما كان لبعثتهم معنى، ولكنَّ الظالمين لا يأبون إلاَّ المعاندة والاستكبار.
إن المنهج الرباني يريد أن يحرِّر الإنسان من التبعية للإنسان؛ ارتقاءً إلى خالق الإنسان الذي هو أعلم بمن خَلق، وأدرى بمتطلبات وجوده الدنيوي، المحدد لمصيره الأخروي؛ ï´؟ أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُو اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ ï´¾ [الملك: 14]، وهذه الحقيقة هي التي ترجمها الصحابي الجليل رِبْعِيُّ بنُ عامر - رضي الله عنه - لقائد الفْرُس، وقد سأله: ما الذي جاء بكم إلى أرضنا؟ فكان الجواب: "إن الله ابْتَعثَنا؛ لنخرجَ العباد من عبادة العباد، إلى عبادة ربِّ العباد، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الآخرة، ومن جَور الأديان إلى عدل الإسلام"، وحسبنا هذه المقولة.
5- الإيمان بالرسل:
الركيزة الخامسة في العقيدة الإسلامية هي الإيمان بالرسل، وهذه العقيدة تنبثق من العقيدة السابقة، عقيدة الكتاب، فالأنبياء هم القدوة المُثْلَى للإنسان أثناء المسير إلى الله - تعالى - ولأجل تحقيق معاني الفطرة التي فطر الله عليه الإنسان، ويكون من المستحيل تصورُ وجود الإنسان دون عقيدة الأنبياء؛ لأن الإنسان من حيث هو كائن، عاقل، مريد، متحرك، لابد له من قدوة حسنة أو سيئة.
ولقد تحدَّث القرآن الكريم عن معشر الأنبياء كثيرًا، ومن خلال تلك الآيات نستطيع معرفة معالم شخصيَّتِهم - عليهم الصلاة والسلام - وفهم حقيقة التصوُّر الذي يقدِّمه القرآن الكريم عن الإنسان "النبي، والرسول".
هناك ثلاثة معالم كبرى تحدد شخصية الإنسان "النبي والرسول" في القرآن:
1- الإنسان "النبي والرسول" هو شخص كباقي الأناسي، يحمل بين جنباته كلَّ مقومات الشخصية البشرية، وتعتريه كلُّ العوامل الإنسانية، والفرق الوحيد الذي بينه وبين باقي الأناسي هو الوحي؛ قال الله - جلَّ جلالُه -: ï´؟ وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الأَسْوَاقِ لَوْلَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا ï´¾ [الفرقان: 7]، ï´؟ وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الأَسْوَاقِ وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرًا ï´¾ [الفرقان: 20].
2- يؤكِّد القرآن على أن الوحي الإلهيَّ المنزَّل على الرسل والأنبياء الكرام، إنما هو هبة محضة من الله - تعالى - يختار لها مَن يشاء مِن عباده، ومِن ثم لا دخل للإنسان النبيِّ في استحقاق الوحي، فالله - تعالى - وحده أعلم حيث يضع رسالته، ومن المؤهل - بفضله وجوده - لحمل منهج وحيه؛ قال الله - تعالى -: ï´؟ وَإِذَا جَاءَتْهُمْ آَيَةٌ قَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا صَغَارٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا كَانُوا يَمْكُرُونَ ï´¾ [الأنعام: 124].
3- المعلم الثالث في شخصية الإنسان "النبي والرسول" هو المهمة التي يجب عليه القيام بها في المجتمع الإنساني، تلك هي مهمة التوجيه والإرشاد، وتعليم الناس ما فيه الصلاح لهم، والتحذير لهم مما فيه فسادهم؛ قال الله - تعالى -: ï´؟ كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ï´¾ [البقرة: 213]، ï´؟ وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ï´¾ [إبراهيم: 4]، ï´؟ لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ ï´¾ [الحديد: 25]، ï´؟ كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آَيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ ï´¾ [البقرة: 151].
كما قلت - آنفًا - الإنسان في هذه الحياة الدنيا، لابدَّ له من طريق يسلكه إلى الغاية التي يعتقد أنها الحق، سواء كانت تلك الغاية هي: الله - جلَّ جلالُه - أم كانت غاية من الغايات الجاهلية، والطريق إلى الله - تعالى - طريق واحد لا تعدُّد فيه[14]، ولأنك لا تستطيع بلوغ الغاية إلاَّ إذا توسَّلتَ إليها بالمعالم التي تقتضيها تلك الغاية، فكذلك الله - تعالى - لا تستطيع التوصُّل إليه إلاَّ إذا توسلت إليه بالوسائل التي يرتضيها هو وحده، وتلك السبل أنت لا تعرفها لأنها غيب عنك، ومن ثم كان دور الأنبياء مهمًا جدًّا بالنسبة للإنسان حتى يستطيع اقتفاء آثارهم إلى الله - تعالى.
كانت تلك هي أهم أسس العقيدة الإسلامية، والقواعد التي يَبنِي عليها المنهج الإسلامي باقي التعاليم الأخرى، سواء تعلَّقتْ بالقيم والأخلاق، أم بالتشريع والقوانين، أم بالعلاقات والمعاملات؛ وما ذاك إلاَّ لأن الإنسان لابد له من عقيدة تحدد تصوره لحقائق الوجود "الله، الإنسان، الحياة، المصير" ومن ثم تحدد له نوعيَّة المنهج الذي يجب أن يسلكه في حياته، وهو يخوض السير نحو مصيره الأبدي، والله أعلم.
ثانيًا: الشريعة:
ï´؟ وَآَتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآَتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ ï´¾ [البقرة: 177].
بعد هذا التحديد لمعالم أصول العقيدة في المنهج القرآني، يجئ الحديث عن تعاليم الشريعة، وذلك من خلال الحديث عن العلاقات الاجتماعية، ومحاسن الأخلاق.
ولقد كان من الطبيعي جدًّا أن يجيء الحديث عن العلاقات الاجتماعية، والعبادة، والأخلاق، بعد التأسيس لأصول العقيدة؛ وما ذاك إلاَّ لما قلته لك آنفًا، من أنَّ الإنسان لابد له من قواعد تصوُّريَّة يرتكز عليها وهو يمارس حياته في عالم الواقع.
وإنه لمن العجيب أن تتناول الآية الكريمة الحديثَ عن العلاقات الاجتماعية، مركزةً الحديث عن التكافل الاجتماعي دون غيره من المجالات الأخرى، التي تتمثل فيها العلاقات الاجتماعية.
ويبدو لي - والله أعلم - أن الآية تريد أن توحي للمتلقي - وهي تتحدث عن مفهوم "البر" - أن العلاقات الاجتماعية هي المظهر الأعظم لترجمة فاعليَّة التعاليم الدينية التي يؤمن بها الإنسان، وخاصة أن التكافل الاجتماعي - وخاصة في جانب المال - يقتضي من صاحبه بعض التضحية لأجل الغير، ومن ثم فإنَّ الإنسان الزاعمَ الانتماءَ لهذا المنهج الرباني، والزاعمَ التقيُّدَ بتعاليمه، إذا لم يكن هناك ما يترجم تلك المزاعم في عالم الواقع؛ أي: إذا لم يمارس التكافل الاجتماعي مع الناس فإنها لا تعد شيئًا، بل تظل كما هي مزاعم فارغة.
والنقطة الثانية الملْفِتة للانتباه في توسط العبادة "الصلاة" في تأسيس العلاقات الاجتماعية، والأمر عندي - والله أعلم - أن الآية ترمي من وراء ذلك إلى ربط الإنسان الملتزم بالمنهج الرباني - وهو يمارس مفهوم التكافل الاجتماعي في الوسط الذي يعيش فيه بالله تعالى - حتى تتحقَّق بالنسبة إليه عدةُ أشياء:
1- منها الإخلاص: وهو أمر لابد منه، سواءٌ في حياة الإنسان الفرد أو في حياة الإنسان المجتمع، فبدون الإخلاص لا يستطيع الإنسان الارتقاءَ إلى المستوى الرفيع الذي يريد المنهج الرباني من الإنساني الارتقاءَ إليه، ومن ثم لا يجد الإنسان الذي لا يخلص في عمله - وهو هنا التكافل الاجتماعي - بدًّا من السقوط في حمئة الأخلاق الفاسدة وهي كثيرة.
2- منها القوة: التي يجدها الإنسان المرتبط بالله - تعالى - وهو يمارس تعاليم منهج الله - تعالى - في الحياة، تلك القوة التي تسكب في كينونته معاني الانتصار على الوَهَن الذي يُصيب الإنسان عندما يفقد علاقته مع الله - تعالى - والاستماتة في ممانعة هواتف السقوط التي تتجاذب الإنسان عندما يفقد علاقته مع الله - تعالى.
3- منها الأخوّة: التي يستشعرها الإنسان المخلص وهو يَمُدُّ يدَ العون لأخيه الإنسان، والتي تملأ نفسَه بمشاعر الحب والمساواة والأخلاق الحميدة تُجاه باقي أفراد المجتمع.
وهكذا يستطيع الإنسان المسلم أن يمارس حياته الاجتماعية بكل هدوء وسلام وحب واطمئنان.
والآية هنا تصور لنا العلاقات الاجتماعية من جهة مهمة في العلاقات الإنسانيَّة، وذلك من خلال الحديث عن:
1- التكافل الاجتماعي: من خلال إيتاء المال - على حبه – للأقارب: (الأهل، الإخوة، الأخوات، الأعمام، الأخوال) والأباعد: (اليتامى، المساكين، أبناء السبيل، السائلين، والمكاتبين وهو خاص بالرقيق).
وهذا الإيتاء يمثل الحد الأقصى في التكافل الاجتماعي، والحد الأدنى هو الذي تمثله فريضة الزكاة.
وأنت - أصلحك الله - إذا نظرتَ وأنصفت، وجدتَ التكافل الاجتماعيَّ ضرورةً تقتضيها طبيعة الإنسان؛ لأجل تهذيب نفسيته وتقويم شخصيَّته ï´؟ عَلَى حُبِّهِ ï´¾، وهو ضرورة توجبها الرابطة الاجتماعية القائمة بين بني الإنسان لها.
ومن المعلوم أنَّ أهمَّ مظاهر التكافل في المجتمع البشري هو التكافل المالي، الذي يعد الأساس الأول لكل تجلِّيات التكافل، والتعاون الأخوي بين الإنسان وأخيه الإنسان، ولأجل ذلك أوْلَت الشريعة الإسلامية هذا المظهر اهتمامًا عظيمًا؛ وما ذاك إلاَّ لأجل قيمته في حياة الإنسان، وطبيعة وجوده في هذا العالم.
ولنا أن نسأل أولاً: ما هي مهمة المال في الحياة؟ وما هي قيمته في وجود الإنسان؟
يبدو لي لو أنَّ الإنسان استطاع أن يفهم مهمةَ المال في الحياة بشكل جيِّد وعميق، ولو استطاع أن يحدِّد قيمته الحقيقيَّة في واقعه الوجوديِّ على هذه الأرض، إذًا لأراح نفسَه وأراح غيرَه من كثير من المشاكل والمتاعب، وكثير من المصائب والرزايا التي يفتحها عليه سُوءُ فهمه لطبيعة المال ودوره في الحياة.
إنَّ مهمة المال في الوجود تتحدَّد في أنه وسيلة، وليس غاية وهدفًا، وإذا فهمنا أن طبيعة الإنسان تقتضي الاجتماع، ولا يستقيم اجتماع الناس إلاَّ بتبادل المنافع والمصالح بينهم، والمال هو مادة تلك المنافع والمصالح؛ ذلك لأنَّ الإنسان - بحكم طبيعته التكوينيَّة، ومهمَّته الوجوديَّة - عاجزٌ عن القيام بكلِّ مهامه وتحصيل منافعه، وإصلاح شؤونه بمفرده، بعيدًا عن غيره من الأناسي، ومن ثم اقتضت الحكمة الإلهيَّة أن يقوم الإنسان بإنشاء علاقات اجتماعيَّة مع غيره من الناس؛ حتى يتسنَّى له تحصيل مصالحه ومنافعه الدينيَّة والدنيويَّة معًا، ولأنَّ تبادل المصالح والمنافع بين الناس لابدَّ له من قيمة محددة لقيمته الحقيقية، كان المال - وهو مصطلح جامع لكلِّ ما من شأنه تحديد قيم المنافع والمصالح المتداولة بين الناس - هو المحدِّد الرئيس لتلك القيم في ميزان الحقيقة الاجتماعية القائمة بين الناس، إذا فهمنا هذه الحقيقة فهمنا أنَّ المال وسيلةٌ وليس هدفًا في حد ذاته.
إذًا؛ المال هو في حقيقته وسيلة إلى غاية ما، وليس غاية في ذاته، ومهمَّتُه في حياة الإنسان تستند على منهج هذا الإنسان في الحياة، ورؤيته لحقائق الوجود: (الله، الإنسان، الحياة، الموت، الدنيا، الآخرة)، فعندما يحدد الإنسان مهمته هو نفسه في الحياة، وعندما يفهم هو نفسه غايته من وجوده في هذا العالم، حينها - وحينها فقط - يستطيع إضفاءَ القيمة الحقيقيَّة على هذا المال، وجعْلَه وسيلةً إلى تحقيق غايته من الوجود، وجعْلَه ذريعةً لأجل الوصول إلى مستوى "العدالة" في كلِّ تجلِّياتها في الحياة، المطلوبة منه في منهج الشريعة، وهكذا يكون قد بلغ مستوى "الإنسان البار".
ومن هنا فالمال - ككل الأشياء التي خلقها الله تعالى - ليس مكروهًا من حيث هو قيمة محددة للمنافع والمصالح المتداولة بين الناس، وإنما يكتسب قيمتَه - في حكم الشريعة - بالغاية التي يُتَوسَّل بها إليه، والهدف الذي يُتَذرَّع به إليه، إن خيرًا فخير، وإن شرًّا فشر، والخير والشر هنا إنما تحدد قيمته قوانين الشريعة، وليست أهواء الناس وشهواتهم.
ولقد أمرتِ الشريعة الإسلامية بإيتاء المال وإخراجه؛ لأجل معنيين اثنين:
الأول: ما ذكرتُه لك آنفًا، أعني: أنه ذريعةٌ إلى جلب المنافع والمصالح، ودرء المهالك والمفاسد بالنسبة للإنسان، حتى يستطيع أن يقوم بمهمته الكبرى الملقاة على عاتقه، مهمة العبودية: ï´؟ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ï´¾ [الذاريات: 56]، وهذا هو المعنى الاجتماعي.
والثاني: هو تحرير الإنسان من طغيان الشهوات الماديَّة، وسيطرة الأهواء النفسيَّة، والتي ليس لها حدود، فهذه النفس من أهم سماتها الاسترسال مع أهوائها الذاتيَّة، المحببة إليها، ورغباتها القريبة منها، والمنهج الرباني يريد من الإنسان أن يكون إنسانًا فاضلاً كريمًا كما خلقه الله - تعالى - لا تستعبده الشهوات الوقتيَّة، ولا تستبد به الأهواء العاجلة؛ لا لشيء إلاَّ لأن هذه الشهوات وتلك الأهواء تطمس نورَ الفطرة التي فطر الله عليها الإنسان، ومن ثَم تصدُّه عن رؤية حقائق الأشياء في هذا الوجود كما ينبغي، وتُثقله روحه عن الانطلاق إلى آفاق الفطرة الإنسانيَّة الرحبة، التي جاءت الشريعة لأجل الارتقاء بالإنسان إلى مستواها الفسيح الجميل؛ قال رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((لولا أن الشياطين يحومون على قلوب بني آدم لنظروا إلى ملكوت السموات))[15]، وهذا "الحومان" من قبل الشياطين لأجل صد الإنسان من الانفلات من قبضة الطين إلى فضاء الروح الفسيح، وهذا هو المعنى النفسي.
وانظر - أصلحك الله - إلى قوله - تعالى -: ï´؟ عَلَى حُبِّهِ ï´¾، فهذه الكلمة المعترضة هنا تصور لك هذا المعنى الذي حكيْتُه لك آنفًا، وإذا فهمت أن الله - تعالى - إنما أرسل الرسل، وأنزل الكتب؛ لأجل إخراج الإنسان من دواعي هواه، حتى يكون عبدًا لله اختيارًا، كما هو عبدٌ له اضطرارًا، كما يقول علماء الأصول والمقاصد - فهمت هذا المعنى جيِّدًا، وبالله التوفيق.
ومن هنا فالمنهج الرباني يقصد أن يعيش الإنسان المؤمن في مجتمع نظيف وطاهر من خبائث البخل والشُحِّ، ومفاسد طغيان الشهوات واستبداد الأهواء.
وهكذا تكون القيمة العمليَّة لهذا التشريع راجعةً بالدرجة الأولى على الإنسان في ذات نفسه، ثم على الناس في ذات اجتماعهم بكل خير وصلاح ومنفعة.
2- محاسن الأخلاق وجميل القيم والشمائل: فالشريعة أمرتْ بالأخلاق الكريمة؛ لأنَّ الإنسان في حقيقته "مجموعة من الأخلاق" ولا يستطيع أن يمارس نشاطه الإنسانيَّ في مستواه اللائق بإنسانيَّته في هذا العالم بدون تلك الأخلاق الفاضلة، فهي في حقيقة الأمر تدور معه وجودًا وعدمًا، أعني: أنَّ الإنسان بقدر ما يتخلَّق بأخلاق الفضيلة، وقيمِ الإنسانيَّة بقدر ما يكون وجوده الإنساني متحققًا في عالم الواقع، وتاريخ الحياة، وبقدر ما ينحرف عن منهج الأخلاق الفاضلة، والصفات الحميدة بقدر ما يكون وجوده الإنساني خامدًا في مسيرة التاريخ، وضعيفًا في صناعة الأحداث.
لقد تحدثتِ الآية الكريمة عن خُلُقَين عظيمين من الأخلاق الكريمة، هما: خلق الوفاء بالعهد، وخلق الصبر.
أ) خلق الوفاء بالعهد: خلقٌ عظيم أمرتْ به الشريعة، وحضَّت عليها الفطرة، وأوجبتْه طبيعةُ العمران البشري، إنَّ القيمة العمليَّة لهذا الخلق الرفيع سواء في ثمراتها في النفس الفرديَّة أو النفس الاجتماعية، قيمة كبيرة ولا شك، فهذا الخلق يترجم عظمة تلك النفس التي انبثق عنها، وهي تتعامل مع أفراد المجتمع البشري، ومن ثم كانت مظاهرُ تفعيل هذا الخلق الكريم في حياة الإنسان متعددةً وواسعة، فليست تقتصر على جانب دون آخر، ولا تنحصر في جهة دون غيرها، بل هو مفهومٌ خلقيٌّ رفيع، يشمل علاقاتِ الإنسان كافة، فمن علاقته مع الله - تعالى - إلى علاقته مع نفسه، إلى علاقته مع أقاربه، إلى علاقته مع أفراد المجتمع كلِّه، ولو لم يكن لهذا الخلق العظيم من القيمة إلاَّ توثيق أواصر الأخوة بين الناس، ونفي المفاسد الاجتماعية، وكذا تهذيب النفوس وتطهيرها من مفاسد الأمراض النفسيَّة (الغِل، الكذب، الخيانة)، لو لم يكن إلاَّ هذه الثمرة لكفى به خلقًا كريمًا، ولأجل هذا المعنى تجد الله - تعالى - في القرآن والرسول الكريم - صلَّى الله عليه وسلَّم - في أحاديثه قد حضَّا عليه وأمرا به ومدحا صاحبه.
ب) خلق الصبر: هو من الأخلاق الرفيعة التي أمرتْ بها الشريعة، وأوجبتْها الديانة، واقتضتْ طبيعة وجود الإنسان في هذا العالم المليء بالعقبات والمشاكل والتحديات، سواء على مستوى الفرد أم على مستوى الجماعة، والآية الكريمة تُنبِّه المتلقي إلى قيمة وضرورة هذا الخلق، سواء أثناء الجهاد والمدافعة للعدو، أم على بوائق الدهر ومصيبات الليالي والأيام (الفقر، المرض،...).
وخلق الصبر ينُمُّ عن شخصيَّة صاحبه، وعظمة النفس الكبيرة التي يحملها بين جنبيه، وهي تخوض لجةَ الصراع في هذه الحياة الدنيا، ولأجل ذلك كانت تجليات ممارسة خلق الصبر في حياة الإنسان المتحلي بهذا الخلق كثيرةً جدًّا، وليست محبوسةً على مجال دون مجال، فالإنسان المتخلِّق بخلق الصبر يمارس حقيقة هذا الخلق أثناء التعامل مع الله - جلَّ جلالُه - وذلك من خلال الصبر على القيام بالطاعات؛ لأن فيها مخالفةَ هوى النفس التي لا تحبذ مشقة التكاليف، والصبر على اجتناب المنهيات؛ لأنَّ فيها أهواءَ النفس ومشتهياتها التي تجنح إليها بكل سهولة لأجل اللذة التي تجدها في متابعة الهوى.
وهو يمارس هذا الخلق أثناء التعامل مع أفراد المجتمع، ابتداءً من الأهل والأقارب وانتهاءً إلى الأباعد والأقاصي، ممن لا تجمعه بهم إلاَّ رابطة المصالح والمنافع في غالب الأحيان.
وهو يمارس هذا الخلق عندما تقتضي الحاجة الدفاع عن الأمة، ويُصابر مصاعبَ الجهاد ابتغاءَ مرضاة الله - تعالى.
وهكذا نجد أنه لو لم يكن لهذا الخلق من منفعة سوى تهذيب النفس وتثبيتها وتعليمها الارتقاء إلى مستوى "البر" الذي يقتضي من صاحبه الأناة والتثبت، وأخذ الأمور أخذًا جِديًّا، لا تليق معه العجلة، ولا تستفزه الأهواء، ومن ثم ينظر إلى فرائض الشريعة على أنها ذرائع إلى مرضاة الله - تعالى - ووسائل نحو السعادة الأبدية، وينظر إلى أهواء النفس نظرةَ المستبصر الذي يعرف أنَّ أهواء النفس مصايدُ الشيطان، بل إنَّ متابعتها والاسترسال معها يؤدي إلى الهَلَكة المحققة في الدنيا قبل الآخرة، أقول: لو لم يكن لخلق الصبر عدا هذه المنفعة إذًا لكان لزامًا في قانون العقل وناموس الفضيلة التحلي به والاستماتة في مكابدة تكاليفه؛ ï´؟ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ ï´¾ [الزمر: 10].
وبعد هذه الجولة الطويلة تختم الآية بتقرير حقيقة مهمة: ï´؟ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ ï´¾، فهؤلاء المتَّصفون بهذا الأوصاف الجليلة، والمتفاعلون معاليم الدين بهذا الشمول والتكامل (العقيدة، الشريعة، الأخلاق، العبادة)، هؤلاء هم وحدهم الذين صدقوا في التزام تعاليم هذا الدين، ومارسوه في الواقع؛ واقعهم النفسي، وواقعهم الاجتماعي، وهؤلاء هم وحدهم -كذلك - المتقون، وحسبك بهذا الختام.
[1] لم أعتبرْ هنا ورودها بمعنى الأرض؛ أي: "البَر" بالفتح.
[2] انظر السيوطي: "الدر المنثور بالتفسير بالمأثور".
[3] رواه الإمام مسلم في صحيحه.
[4] رواه الإمام مسلم في صحيحه.
[5] رواه الإمام مسلم في صحيحه.
[6] رواه البخاري في: "الصحيح".
[7] رواه أبو داود في: "سُنَنه".
[8] لا يجب أن تقول مثل هذه الآيات نزلت في يهود حين كتموا ما كتموا من أمر الرسول محمد - صلَّى الله عليه وسلَّم - فإن العبرة بعموم المعنى لا بخصوص السبب.
[9] رواه ابن ماجة في: "السنن".
[10] سأحاول هنا إعطاء فكرة عامة - ولو يسيرة - عن العقيدة والشريعة والأخلاق، دون الدخول في التفصيلات وضرب الأمثلة الكثيرة؛ لأن هذا الفصل ليس مخصَّصًا لذلك، بل يحتاج كلُّ قسم لكتاب على حدة، وأن عسى أن يأذن الله - تعالى - يومًا للحديث عن نظام العقيدة والشريعة والأخلاق في الإسلام بشكل مفصل، والله الموفق.
[11] قد ورد حديث منسوب للنبي الكريم - صلَّى الله عليه وسلَّم - إلاَّ أنه ضعيف، وإن كان مجموع طرقه يقوي بعضُها بعضًا ، وورد موقوفًا على ابن عباس – رضي الله عنهما - كذلك من طريق صحيح، والله أعلم.
[12] رواه الإمام مسلم في الصحيح.
[13] هذا الاستغفار خاصٌّ بالإنسان المسلم.
[14] قال بعضهم: الطرق إلى الله بعدد أنفاس بني آدم، وهذا حق؛ لأن قائله بعني به تعدد الطرق داخل المنهج الإلهي، أو قُلْ - إن شئت -: الطرق الفرعية، كما نجد بعض الناس أعظم معالم علاقته مع الله: الصلاة، وبعضهم الصيام، وبعضهم تلاوة القرآن، وآخرون الجهاد، وغيرهم الصدقة، وإن كان ذلك لا يعني أنهم تاركون لغيرها من المعالم الرئيسة في المنهج الرباني، ومن ثم فقولي هنا أعني به: وحدانيَّة الطرق من حيث إطارها الكلي لا الجزئي، والله أعلم.
[15] رواه الإمام أحمد.