الموضوع: مفهوم البر
عرض مشاركة واحدة
  #3  
قديم 09-02-2020, 03:51 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 161,006
الدولة : Egypt
افتراضي رد: مفهوم البر

مفهوم البر
نور الدين قوطيط




ولا عجب بعد هذا أن نجد الله - تعالى - يعلِّق على هذا الموقف الذي اتَّخذه هذا الإنسان من منهجه في الحياة - القائم على تحقيق العدل سواء على المستوى النفسي بالنسبة للفرد، أم على المستوى الاجتماعي بالنسبة للأمة - بتقرير الحقائق التالية:
1- أنَّ هذا الإنسان - وهو يشتري بآيات الله ثمنًا قليلاً - إنما يأكل في حقيقته العميقة نارًا تتلظَّى، وهي نار يتلظَّى بها في الدنيا قبل الآخرة، وحسبُك في عذاب الدنيا ذلك العذابُ النفسيُّ الأليم الذي يجده ذلك الإنسان الذي اشترى بآيات الله ثمنًا قليلاً، وحسبك تلك المعاناة الأليمة التي لا تنتهي إلاَّ لتبدأ من جديد، وحسبك ذلك القلقُ المُمِضُّ الذي يُقاسيه وهو يلهث وراء تلك "الأثمان القليلة" التي - في الحقيقة - لا تستحق ذلك الجهد المبذول في سبيلها؛ ï´؟ أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ ï´¾.

2- أنَّ هذا الإنسان - وهو يشتري بآيات الله ثمنًا قليلاً - إنما هو في الحقيقة - بفعلته الشائنة، وسلوكه المنحرف - يُكثِّف ويُكاثِر من الحُجُب بيْنَه وبين الله - تعالى - يوم العرض الأكبر، وإن الأمر ليبدو طبيعيًّا جدًّا بالنسبة لهذا الإنسان الذي رضي أن يعرض عن منهج الله - سبحانه وتعالى - في تعامله مع الناس، ورضي أن يكتم عنهم ما فيه صلاحُهم في الدنيا والآخرة، فكما أنه سعى لأجل أثمان قليلة؛ لِأَنْ يصرف وجوهَ الناس عن الله - تعالى - وجاهَد لأجل أثمان قليلة؛ لِأَنْ ينحرف بالناس عن منهج الله، كان العقاب - وهو عقاب عادل بكل مقاييس العدالة ولا شك - أن يُعرض الله - تعالى - عنه ولا يُكلِّمه كلامًا حسنًا؛ فإن الجزاء من جنس العمل، ï´؟ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ï´¾.

3- أن هذا الإنسان - وهو يشتري بآيات الله ثمنًا قليلاً - إنما هو في الحقيقة - بما رضي لنفسه من الانحراف عن منهج الله والخيانة لأمانة العلم الذي أتاه الله له - قد رضي أن ينزل من مستوى الفضيلة، ودرجة الكرامة، وأُفُق الصفاء والنور الذي أكرمه الله - سبحانه وتعالى - به، إلى حضيض الرذيلة، ودرك المهانة، وسجن التلوث والظلام، وهو لم يقتصرْ على نفسه بمنهجه ذاك، وإنما دفع الناس إلى سلوك سبيله وانتهاج منهجه عندما كتم ما أنزل الله - تعالى - من الحق والهدى، فلا جرم أن يكون الجزاء عدم تزكيَتِه وتطهيره ورفع منزلته من لدن الله - تعالى - يوم يلقاه؛ ï´؟ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ï´¾.

وبعد تقرير هذه العقوبات النفسية والمادية التي يُعاقِب بها الله - تعالى - الذين يكتمون ما أنزل من الكتاب ويشترون به ثمنًا قليلاً؛ لأجل الفصام النكد الذي حدث في ضمائرهم جرَّاء مناقضتهم لتعاليم المنهج الرباني في الحياة، بعد هذا يأتي التعليق التالي:
1- أن هذا الإنسان هو في الحقيقة قد اشترى الضلالة بالهدى، والعذاب بالمغفرة، واستبدل الحق بالباطل، واستعاض بالظلمة عن النور، وانظر إلى لفظ ï´؟ اشْتَرَوْا ï´¾، واستحضر ما تقرَّر لديك آنفًا من معنى "الشراء" لتفهم الغبن الكبير، والصفقة الخاسرة التي مني بها هذا الإنسان البائس.

2- التعجب العميق لصبر هذا الإنسان - وهو المخلوق الضعيف الضئيل - على النار، وإنه عذاب ما أفظعه! وعقوبة ما أشدَّها وآلَمَها! إنَّها نار تصيب صاحبَها في الدنيا قبل الآخرة، أما في الدنيا فهي نار القلق والاضطراب، والفوضى والانفصام، والتي يعاني منها الإنسان المنحرف عن منهج الله، سواء على المستوى النفسي والفكري أم على المستوى الاجتماعي والتاريخي، وأما نار الآخرة فهي كما وصفها الله - تعالى - لك في القرآن.

إنه كما يوجد في الآخرة جنة ونار، كذلك يوجد في الدنيا جنة ونار، فمن دخل جنة الدنيا لا جرم أن يدخل جنة الآخرة، ومن أَبَى إلاَّ دخول النار في الدنيا لا محالة أنه واردها في الآخرة، نسأل الله العفو والعافية.

3- لماذا كلُّ هذا الجزاء الأليم، والعقاب الشديد لمثل هذا الإنسان الذي كتم ما أنزل الله من الكتاب والبيِّنات؟ الجواب يتكفَّل به الله - تعالى - نفسه: ï´؟ ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ ï´¾.

لقد خلق الله - جلَّ جلالُه - هذا الكون الفسيح الشاسع، وخلق كلَّ تلك المخلوقات المنظورة والمحجوبة، المعلومة والمجهولة؛ لأجل غاية محددة، تلك هي غاية "العبودية" : ï´؟ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ï´¾ [الذَّارِيَات: 56]، ولأن حكمة الله - تعالى - اقتضتْ أن يكون في هذا العالم فريقٌ مسخَّرٌ للعبودية المطلقة، وفريقٌ آخر مسخرٌ للمعصية المطلقة، اقتضتْ كذلك أن يكون هناك فريق آخر مخيَّر بين العبودية والمعصية؛ أي: له القابليَّة للحقيقتين معًا، ذلك هو فريق الإنس والجن، ثم إنَّ رحمة الله - تعالى - استوجبتْ أن يُعِينَ هذا الإنسان على سلوك سبيل الحق، ويُمِدَّه بمعالمَ تَهدِيه في طريقه إلى الله، فكان لزامًا في الحكمة الإلهيَّة أن كلَّ مَن يصد الإنسان عن سلوك هذا المنهج، ويصرف كينونته عن هذا الرشد - ولو بشطر كلمة - أن يُجازيَه أشدَّ العذاب ويُنزِلَ به آلام العقوبة؛ وما ذاك إلاَّ لأن الله - تعالى - لا يرضى إلاَّ أن يأتي هذا المخلوق الضعيف إلى قُدُسه وجلاله طائعًا مختارًا، لا مجبرًا مكرهًا.

إنَّ هذه الحملة الشديدة على هذا الإنسان الزاعمِ الانتماءَ لدين الله، والزاعم الالتزامَ بمنهج الله في الحياة، وهو خلو من معانيهما، هذه الحملة إنما تُتَرْجم نكران تلك العقليَّة الساذجة التي تجعل همَّها الأكبر، وغايتَها المنشودة في الحياة هو الصرامة في الالتزام بمظاهر التعاليم الدينية، والشدة في الأخذ بالمظاهر الخارجية، دون أن يكون لها رصيدٌ قوي هنالك في أعماق الضمير، وأبعاد القلب، ومجاهل الشعور، وحركة فاعلة في عالم الواقع.

إن هذا الكائن المسمَّى "الإنسان" مركب من حقيقتين اثنتين لا ثالث لهما: حقيقة الروح وحقيقة الجسد، الروح هي الجوهر، وهي الأساس، وهي الأصل في الحقيقة الإنسانية، أما الجسد فهو المظهر، وهو الفرع لذلك الجوهر الروحاني، إنه مظهر تجليات حركة تلك اللطيفة الربانية المودعة هنالك في أعماقه، ومن ثم فالأساس الذي تتوجَّه إليه تعاليم الشريعة، والمقصود بحقائق الديانة هي النفس التي يحملها الإنسان بين جنبيه، فمهما كان جوهر الإنسان طاهرًا نقيًّا كان مظهره كذلك، ومهما كان خبيثًا مدنسًا كان مظهره كذلك؛ قال الرسول الكريم - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((ألاَ وإنَّ في الجسد مضغة، إذا صلُحَتْ صلُح الجسد كلُّه، وإذا فسدتْ فسد الجسد كلُّه، ألاَ وهي القلب))[9]، وأنا لست أعني بهذا المظهر الإنسان الفرد فقط، بل أعني الإنسان المجتمع من حيث إن الإنسان الفرد لابد له من حركة متفاعلة مع أفراد مجتمعه، فكل ما انصبغت به نفسه من المعاني - سواء كانت حقًّا أم باطلاً - انعكس على مظهره الخارجي أولاً ثم على حركته في المجتمع ثانيًا، ومن ثم كان الالتزام بتعاليم الشريعة يقتضي التفاعل بها والتجاوب معها على مستوى النفس الباطنة أولاً ثم على مستوى المجتمع الخارجي ثانيًا؛ إن دين الله - تعالى - عقيدة قبل أن يكون سلوكًا، هو إحساس نفسي قبل أن يكون حركة اجتماعية.

وقد مثَّلْتُ بآيات ثلاث فقط من القرآن الكريم تصوِّرُ تنديد الله - سبحانه وتعالى - بأولئك الذين يزعمون أنهم حَمَلةُ الشريعة والملتزمون بتعاليم الديانة، ولك بعد هذا أن تتتبع الآيات الواردة في شأن هؤلاء القوم التُّعساء، سواء كانوا ممن يدَّعي العلم والفهم في الشريعة، أو كان من الأتباع والأذناب؛ لتخرج بنتائج أُخَر، تزيدك معرفة بحقيقة الفرق الكبير بين الالتزام المزوَّر الذي ليس له من معنى الالتزام إلاَّ القشور، والالتزام الصادق الذي يملأ أبعاد شعور صاحبه وأعماق عاقلته بجماليَّة المنهج الرَّباني، وحقانيَّة وجوده في حياة الإنسان، ومن ثم يروح باذلاً جهده - حسب استطاعته - لترجمة ذلك الإحساس، وممارسة ذلك الفهم في عالم الواقع وتاريخ الوجود وحضارة الإنسان.

وقد أطلْتُ النَّفَس بعض الشيء في تبيين حقيقة أولئك الذين يزعمون أنهم ملتزمون بحقائق الشريعة وهم في الحقيقة في خلاء من معانيها الجميلة.

حقيقة مفهوم "البر" في القرآن:
ولنا الآن أن نتساءل عن مفهوم البر الذي تُقدِّمه هذه الآية الكريمة، وهي تُندِّد بأولئك الذين اعتقدوا - جهلاً - أن لُبَّ الشريعة هو إقامة مظاهرها الخارجية دون أن يكون لها رصيد في أعماق الضمير وأبعاد العقل.

إن الآية الكريمة تُقدِّم لنا مفهوم البر على أنه مفهومٌ واسع يشمل مجالاتِ الكينونة الإنسانيَّة كافة، من عقيدة، وأخلاق، وشريعة، وعلاقات، وحضارة.

أولاً: ركائز العقيدة[10]:
ولقد كان انطلاق الآية في إعادة صياغة تصور الإنسان لحقائق المنهج الرباني، من خلال أسس العقيدة التي يجب على الإنسان أن يعتقدها، وهو يمارس فعله في الواقع الوجودي، وما ذاك إلاَّ لأنَّ العقيدة هي الأساس العظيم الذي تقوم عليه إنسانيَّة الإنسان، سواء التصوُّر العقلي، أم القيم الأخلاقيَّة، أم الواقع المعاش، فبحسب طبيعة العقيدة التي يعتقدها الإنسان، تتشكَّل طبيعة تصوراته العقلية، وقِيَمه الأخلاقية، ونوعية العلاقات الاجتماعية التي يُنشِئُها مع باقي أفراد المحيط الاجتماعي الذي يعيش فيه، ليشمل أفراد البشرية جمعاء، من أجل ذلك تجد المنهج الربانيَّ يركز على العقيدة كأشدِّ ما يكون التركيز، ويفصِّل فيها القول، ويضرب لها الأمثال، ولا يترك شيئًا يمكن أن يساهِم في بناء عقيدة تليق بإنسانية الإنسان، وتترجم حقائق الوجود الكبرى كما هي عليه، إلاَّ وعرَّج عليه ونبَّه إليه، وما ذاك إلاَّ لأن العقيدة هي الأساس النفسي الذي ستقام عليها كلُّ التعاليم والإرشادات التي أتى بها المنهج القرآني، إنَّ العقيدة هي الإنسان، والإنسان هو عقيدة في الأساس الأوَّل.

لقد قدَّمتِ الآية الكريمة أسسَ العقيدة في المنهج الإسلامي على الشكل التالي:
1- الإيمان بالله - تعالى -:
وعقيدة الإيمان بالله تعالى - كباقي العقائد الأخرى في المنهج القرآني - تختلف كلَّ الاختلاف عن كلِّ المذاهب والفلسفات والأديان التي عرفتها البشرية قديمًا وحديثًا، وهي تتعامل مع هذه الحقيقة، وحسبنا أن نعرف أن الله - تعالى - في التصوُّر الجاهلي لا يملك من صفات الإله إلاَّ الاسم فقط.

أما في المنهج الرباني، فالله - جلَّ جلالُه - إلهٌ مطلق له صفات الجلال والجمال والكمال، وعندما تنظر في القرآن الكريم تجد أنه تناول موضوع الذات الإلهيَّة من خلال محورين رئيسين:
1- الله - جلَّ جلالُه - ضرورة وجوديَّة.
2- الله - جلَّ جلالُه - ليس كمثله شيء.

1- أما أنَّ الله - تعالى - ضرورة وجوديَّة: فالقرآن يعتبر أنَّ وجود الله ضرورةٌ حتميَّة، لا يمكن التفكير في عدم جدواها، بمعنى أن وجود الله - تعالى - ضرورة تُحتِّمها الفطرة، ويُوجِبُها العقل، وتقتضيها طبيعة الاجتماع، ويُقررها نظام العالم، ويستحيل تصور وجود الإنسان، ووجود هذا العالم دون عقيدة وجود الله - تعالى -ومن ثم فالقرآن - حسب فهمي - يعتبر وجود الله - جلَّ جلالُه - قضيَّة مسَلَّمٌ بها من قبل الفطرة البشرية، بل هي حقيقة متغلغلة في أعماق الضمير وأبعاد الكينونة، بحيث إن الإنسان لا يجد بُدًّا من الإقرار بوجود الله - سبحانه وتعالى -: ï´؟ قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى قَالُوا إِنْ أَنتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونَا عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آَبَاؤُنَا فَأْتُونَا بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ ï´¾ [إبراهيم: 10]، بل إنَّ القرآن الكريم يقرِّر حقيقة أخرى، وهي أنَّ كلَّ كائنات الوجود المعلومة والمجهولة "الملائكة، الجن، الحيوان"، وكذا كل أشيائه من الذرة الحقيرة التافهة، إلى المجرة العظيمة الهائلة إلى الكون الفسيح، كل أولئك يُقرُّ بوجود الله - تعالى - ومن ثم يتوجَّه إليه بالعبادة الخالصة؛ ï´؟ تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدَهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا ï´¾ [الإسراء: 44].

ولقد يجادل الإنسان في هذه الحقيقة في لحظة من لحظات جاهليَّته - ما في هذا شك - ولكن الحقيقة الكبرى تظل هي هي، حتى وإن جادل فيها المجادلون، على أن الحقيقة المقابلة التي يجب إقرارُها هنا، هي أنه حتى هذا الإنسان المجادل العنيد، لا يجد بُدًّا من الرجوع إلى هذه الحقيقة الكبيرة، في مواقف الحرج والخوف والشدَّة التي يجد فيها نفسه أمام هول المجهول، وشبح الفناء، لا لشيء إلاَّ لأن عقيدة رجوعه وإيوائه إلى ذات متجاوزة لذاته؛ أي: كائن مطلق لا تحده الحدود، يملك النفع والضر، ويستطيع مد العون له حتى في أحلك اللحظات، هذه العقيدة ممزوجة ببنية التكوين النفسي للإنسان، ولا يستطيع اقتلاع جذورها من كينونته مهما حاول إلى ذلك سبيلاً، إلاَّ أن يقتلع نفسه الشخصية.

ولقد أشار القرآن نفسُه إلى هذه الحقيقة، حقيقة أن وجود الله - جلَّ جلالُه - حقيقة متجذِّرة (متأصلة) في كيان الفطرة، وأنها - لأجل ذلك - لا تستطيع الانفكاك منها، وحتى في لحظات المجادلة والعناد، لا تستطيع الكينونة الإنسانية الاستمرارَ في عنادها وجدالها مهمَا واجهت موقفًا حَرِجًا يُضَعْضِع (يُضْعِف) كيانَها، ويَهزُّ مداَركها، ويكشف عنها حجب الجاهلية، ومن ثم لا تجد بُدًّا من البحث عن شيء ما تلجأ إليه وتأوي إليه في لحظة الحرج والخوف والضعف، انظر في هذه الآيات: ï´؟ وَهُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُاْ اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنِّ مِنَ الشَّاكِرِينَ * فَلَمَّا أَنْجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنفُسِكُمْ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَينَا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ï´¾ [يونس:22 - 23].

تلك هي حقيقة وجود الله - جلَّ جلالُه - وعلاقته بالفطرة البشرية، بل بأشخاص الوجود وأشيائه كما يصوِّرها القرآن الكريم، إنها حقيقة أن هذا الإنسان - وهو فرد من أفراد هذا العالم الكبير - لا يجد بدًّا من الإيمان بضرورة وجود الله - سبحانه وتعالى - وهو يمارس حياته في هذا العالم، ويغذي السير نحو الأبديَّة.

إن التاريخ يحدثنا أننا بإمكاننا أن نجد أقوامًا كثيرة لم تكن لها حضارة، ولكنَّه يؤكد لنا أننا لن نستطيع أن نجد قومًا معيَّنين خلَّوا مجتمعَهم من دُور العبادة؛ وما ذاك إلاَّ لأن فكرة التقديس لشيء مطلق، والإيواء إلى موجود متجاوز للكينونة الإنسانيَّة، فكرة عميقة في الروح البشري، عمق الروح نفسه.

إن الإنسان لا معنى لوجوده بدون الإيمان بوجود الله - تعالى - وهذه الحقيقة كما تنطبق على الإنسان، فهي كذلك تنطبق على كائنات الوجود وأشيائه كافة.

2- وأما أن الله - سبحانه وتعالى - ليس كمثله شيء، فالقرآن يعتبر الله - تعالى - إلهًا مطْلقًا، له صفات الجلال والجمال والكمال؛ ï´؟ فَاطِرُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَمِنَ الْأَنْعَامِ أَزْوَاجًا يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ ï´¾ [الشورى: 11].

وإذا كان الله - جلَّ جلالُه - ليس كمثله شيء في المنهج القرآني، فهذا لا يعني مطلقًا أن هذا الإله سرٌّ مكتوم لا سبيلَ إلى معرفته، ولا سبيل إلى فهم علاقته بمخلوقاته، بل على العكس من ذلك تمامًا، لقد تحدَّث القرآن الكريم، وأيضًا الرسولُ الكريم - صلَّى الله عليه وسلَّم - طويلاً عن الله - تعالى - سواء من حيث أسماؤه وصفاته، أو من حيث أفعالُه وعلاقتُه بالوجود.

إن الله - تعالى - في القرآن - كما قلت آنفًا - إلهٌ مطلق، له صفات الجلال والجمال والكمال، هذه الحقيقة الإلهيَّة - أعني: صفة المطلق - هي التي يترجمها القرآن عند الحديث عن الحياة، والقيُّوميَّة، والسمع، والبصر، والخلق، والقدرة، والحكمة، وغير ذلك مما تحدّث عنه القرآن الكريم، والرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - عن وجود الله - تعالى.

وإذا كان كلٌّ مِن القرآن والرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - قد تحدَّثا عن الله - جلَّ جلالُه - حديثًا مفصَّلاً حول أسمائه وصفاته، وكذا حول أفعاله وعلاقته بالوجود، فإنَّ الحقيقة الأخرى التي يجب ألاَّ نغفل عنها ونحن نتحدث عن الله - تعالى - هي أن كلَّ تلك المعارف عن الله - تعالى - إنما جاءت بما يناسب المدارك العقليَّة والنفسيَّة للإنسان، بمعنى أنَّ القرآن يعرف طبيعة الكينونة الإنسانية، ويعرف طبيعة المهمة المطلوب منها القيام بها في هذا العالم، ومن ثم تطرَّق أثناء الحديث عن الذات الإلهية المقدسة عن الحقائق التي تناسب طبيعة الإنسان النفسية والعقلية، وتعينه على القيام بمهمته في هذا الوجود؛ لأجل ذلك حرص القرآن والرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - على التأكيد على أنَّ الله - تعالى - إلهٌ مطْلَق، لا تجد المدارك الإنسانية - مهما أوتيت من العلم والمعرفة - إلى إدراك الذات الإلهية من سبيل: ï´؟ لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ ï´¾ [الأنعام: 103]، وقد ورد: ((تفكَّروا في كلِّ شيء، ولا تفكَّروا في ذات الله))[11]، وانظر كذلك إلى دعاء النبيِّ - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((اللهم إِنَّي أعوذ برضاك من سخطك، وبعفوك من عقوبتك، وبك منك، لا أُحْصي ثناءً عليك، أنتَ كما أَثنيتَ على نفسك))[12]، وعن يوم القيامة عندما يشفع الرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - إلى ربِّه - جلَّ جلالُه - لأجل البشرية قال: ((فيفتح عليَّ من محامده بما لا أحسنه الآن)).

إن القرآن يعرف مهمَّة الإنسان في هذا العالم، ويعرف المسؤولية الملقاة على كينونته، ويعرف ضآلة المدارك العقلية والنفسية التي تحد شخصيَّة الإنسان؛ لأنَّه يعرف كلَّ ذلك، فهو لا يبحث في ماهيَّة الذات الإلهيَّة؛ ï´؟ لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ ï´¾ [الأنعام: 103].

لأجل ذلك لا تجد في القرآن حديثًا عن الذات الإلهيَّة من حيث الماهيَّة والحقيقة المشتملة عليها، إلاَّ حديثًا عن ضرورة وجود الله - جلَّ جلالُه - في حياة الإنسان، ونظام العالم، وتثبيت قيم الأخلاق الفاضلة، وهذا النهي عن البحث في الذات الإلهية نهي منطقي، ينسجم سواء مع حقيقة الذات الإلهية المطْلَقة، أم مع حقيقة الذات الإنسانيَّة المخلوقة المحدودة، وما كان لمخلوق محدود أن يحيط علمًا بخالق مطلق أبدًا، ولك أن تراجع مقولاتِ وحياةَ الذين غرَّتْهم أنفسُهم وغرَّهم بالله الغرور، فراحوا يبحثون في أسرار الذات الإلهيَّة، وماهيَّتِها الحقيقية، ثم بعد طول العناء والتعب والشقاء والجهد لم يظفروا بشيء، ولَيْتَهم حين لم يغنموا سَلِموا، بل كانت المصيبة الصماء أنهم عادوا بما فرُّوا منه، لقد عادوا بالشك والحيرة، وبالقلق والكفر، وذلك جزاء الظالمين حينما تُعجبُهم عقولُهم القاصرة، فيخوضون لُجَّةَ الأسرار التي ليست في إمكانهم معرفةُ حقائقها.

2- الإيمان باليوم الآخر:
الركيزة الثانية التي يبني عليه القرآن نظامه العقدي هي عقيدة "الآخرة"، وعقيدة الآخرة في المنهج القرآني عقيدة لها خصائصها المميَّزة تضفي عليها معاني جليلة لا تجدها في باقي العقائد والمذاهب.

إن القرآن الكريم يعتبر الآخرة ضرورة وجوديَّة، بمعنى أن الآخرة ضرورة تحتِّمها طبيعة الإنسان، وتؤكدها طبيعة هذا العالم الذي يعيش فيه الإنسان، ويكون من العبث السخيف بل المقيت تصورُ وجود الإنسان دون عقيدة الآخرة.

لقد أقام القرآن عقيدة الإيمان بالآخرة على ركيزتين كبيرتين:
1- اعتبر القرآن الآخرةَ دارَ جزاء لِمَا قدَّمه الإنسان لنفسه في دار الدنيا.
2- اعتبر القرآن الآخرة دار الإنسان الحقيقيَّة.

1- أما اعتبار القرآن الآخرة دار جزاء لما قدمه الإنسان لنفسه في دار الدنيا، فذلك لأجل أنه ينظر إلى الإنسان نظرةً مغايرةً لنظرة المذاهب والفلسفات الجاهلية له، فهو يعتبر الإنسان كائنًا مخلوقًا لأجل مهمَّة معيَّنة ووظيفة محددة، عليه القيام بها في عالم الدنيا، وهو بعد ذلك مجزيٌّ عن ممارسته لمهمته تلك في الدار الآخرة؛ ï´؟ اقْرَأْ كَتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا ï´¾ [الإسراء: 14]، ï´؟ وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِن شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ ï´¾ [الطور: 21]، ï´؟ أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى * وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى * وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى * ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاء الْأَوْفَى ï´¾ [النجم: 38 - 41].

2- وأما اعتبار القرآن الآخرة دار الإنسان الحقيقية، فذلك لأجل حقيقة الطبيعة الإنسانية في المنهج القرآني، تلك الطبيعة التي تستوجب - في عقيدة القرآن - عالَمًا آخر غير عالَم الدنيا، يستطيع فيه الإنسان تفعيل مكنونات ضميره، وطاقات روحه المذخورة، التي لا يجد سبيلاً في عالم الدنيا لممارستها وتفعيل حقائقها في الواقع؛ ولأن الله - جلَّ جلالُه - لا يخلق شيئًا عبثًا، ولا يبدع شيئًا لا معنى لوجوده، فالإنسان وهو الكائن المليء بالأسرار والخفايا، والمليء بالطاقات والقوى المتعددة، كان لزامًا في الحكمة الإلهية أن يتيح له عالمًا يتناسب مع طاقات نفسه وأبعاد روحه، حتى لا تبقى تلك الحقائق المودعة ضمير الإنسان عبثًا لا معنى لوجودها؛ ï´؟ أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ * فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ ï´¾ [المؤمنون: 115 - 116].

ومن خلال هاتين الركيزتين - ركيزة أنَّ الآخرة دار جزاء، وركيزة أنَّ الآخرة دار الإنسان الحقيقيَّة - يقرِّر القرآن حقيقةً أخرى في إعادة صياغة إنسانية الإنسان، صياغةً تتناسب مع حقائق فطرته التي فطره الله عليها، تلك هي حقيقة مسؤولية الإنسان عن أفعاله وممارساته في هذه الدنيا.

لقد استطاع القرآن الكريم أن يُعيد تنبيه الإنسان - بعد طول غفلة ونسيان - إلى حقيقة وجوده في هذا العالم، وحقيقة دوره في تقرير مصيره الأبدي، وذلك من خلال تأكيده على أن الإنسان رهينٌ بطبيعة أفعاله ونوعيَّة ممارساته في هذه الدنيا، ومن ثم تجد القرآنَ الكريم يؤكِّد - بشتَّى ضروب التأكيد - على مسؤولية الإنسان في هذا العالم، سواءٌ في شخص نفسه، أم في شخص مجتمعه، وبالتالي فإن طبيعة مصيره الأبديِّ تتعلَّق بمدى قيامه بواجبات المسؤولية الملقاة عليه؛ ï´؟ وَاتَّقُواْ فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ ï´¾ [الأنفال: 25].

ولقد كان القرآن الكريم عارفًا بطبيعة الفطرة الإنسانية، وهو يقرِّر عقيدة الآخرة ضمن عقائده التي جاء بها لأجل الإنسان، هذه الطبيعة التي تستلزم دافعَي "الخوف والرجاء"؛ حتى تستطيع العمل والحركة في عالم الواقع، ومن ثم استثمر القرآن دافعَي الخوف والرجاء في النفسية الإنسانية في تقرير عقيدة الآخرة، التي قرَّر فيها وجودَ الجنة ووجودَ النار؛ لتفعيل معاني الخوف والرجاء في الكينونة البشرية، كيما تستقيم على المنهج الإلهي.

إن الإنسان لا يجد بدًّا من اعتقاد عقيدة ما؛ تدفعه نحو الفعل والحركة، وتفتح أمامه أبواب الرجاء في الظفر بالنجاح والسعادة، ولا يجد بدًّا كذلك من اعتقاد عقيدة ما؛ تمنعه من الهجوم على أعمال محددة لا تليق بإنسانيَّته الكريمة، والتي قد تحرمه من الحصول على النجاح والسعادة التي يبحث عنها، ومن هنا فالرجاء والخوف مكونان رئيسان من مكونات الفطرة البشرية، اعتمد عليهما القرآن في تقرير حقيقة الجنة والنار، والله - تعالى - أعلم.

يتبع


__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 36.80 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 36.17 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (1.71%)]