خلو الزمان من مجتهد
الشيخ وليد بن فهد الودعان
الخلو: أصل يدل على تعري الشيء من الشيء، يقال: خِلْوٌ من كذا: إذا كان عِرْوًا منه، ودخلت الدار فإذا هي خالية، والمكان الخلاء الذي لا شيء به، وخلا المكان إذا فرغ[1].
والمراد بالخلو هنا: الفراغ.
والمراد بالمسألة بحث موضوع مهم طال فيه النقاش والجدال، وهو هل يجوز أن يتعرى الزمان ويفرغ من المجتهدين أو لا؟!
وقبل بيان رأي الشَّاطبي في المسألة نحدد محل النزاع فيها.
تحرير محل النزاع:
أولًا: اتفق الأصوليون على أن محل الخلاف هو المجتهد مطلقًا، سواء كان مستقلًّا أو مقيدًا بالمذهب؛ وقد صرح جماعة منهم بأن النزاع في المجتهد مطلقًا؛ كالجويني[2]، والصفي الهندي[3]، وعنه العبادي[4]، وقرره ابن عبدالشكور، والأنصاري اللكنوي[5]، وأشار إليه الآمدي[6]، والبرماوي[7]، والسيوطي[8].
ورأى بعضهم أن الخلاف في المجتهد المطلق[9].
والأول هو الأظهر؛ إذ الحنابلة لا يجيزون خلوَّ الأرض من قائم لله بالحجة، ويطلقون دون تفصيل، بينما الجمهور يجيزون الخلو، حتى من المجتهد المطلق، أو ممن تسند له الفتوى عمومًا، بل صرح الجويني بجواز خلو الزمان من المجتهد المقلد ومِن نقلة المذاهب[10]، وصرح الآمدي في جوابه على الحنابلة بأن الاجتهاد فرض كفاية إذا لم يمكن للعوام الاعتماد على الأحكام المنقولة إليهم من عصر سبق عصرهم، ثم قال: "لا نسلم امتناع ذلك"[11]، ويعني بذلك خلو الزمان من مجتهد مع هذه الحالة، وعلى هذا فيلزم أن يكون الخلو شاملًا حتى لغير المجتهد المطلق؛ لأن غير المجتهد المطلق يمكنه أن يقيم للناس الأحكام.
ثانيًا: اتفق الأصوليون على إمكان الخلو من مجتهد بعد أشراط الساعة الكبرى، وأن الخلاف إنما هو فيما قبل أشراط الساعة، ونقل الاتفاق على ذلك الأنصاري اللكنوي[12]، وقال ابن أمير الحاج: "ما أظن أن أحدًا يخالف في هذا، أو الظاهر أن إطلاق المنع محمول على ما دون هذا"[13].
وأجاب الأنصاري اللكنوي عن الاعتراض بعيسى - عليه السلام - بأنه يفتي بإلهام إلهي بأن الحكم في المسألة في الدين المحمدي كذا، فيفتي به[14].
لكن خالف هؤلاء من أطلق الخلاف؛ كابن السبكي؛ حيث قال: "ويجوز خلو الزمان عن مجتهد خلافًا للحنابلة مطلقًا، ولابن دقيق العيد ما لم يتداعَ الزمان بتزلزل القواعد"[15]، وقال المحلي في شرح رأي ابن دقيق: "فإن تداعى بأن أتَتْ أشراط الساعة الكبرى؛ كطلوع الشمس من مغربها، وغير ذلك، جاز الخلوُّ عنه"[16].
ومما يؤيد أن قول ابن دقيق إنما هو شرح لقول الحنابلة، وليس قولًا منفردًا، أن بعض العلماء - كالبرماوي[17]، وعنه ابن النجار[18] - جعلا قول ابن دقيق ضمن قول الحنابلة، ولم يفرقا بينهما، وأيضًا ما استدل به بعض من يقول بعدم جواز الخلو من حديث: ((لا تقوم الساعةُ إلا على شِرار الناس))[19]؛ فإن هذا يفيد أن الخلوَّ قد يقع قبل قيام الساعة بفترة.
وبهذا يظهر أن الخلاف منحصر فيما قبل الأشراط القريبة من الساعة، التي بها يتداعى الزمان، وتتزلزل القواعد، ويرفع العلم، ويهلِك أهلُه.
ثالثًا: نقل اتفاق الأصوليين على جواز خلو الزمان من مجتهد عقلًا، أشار التفتازاني إلى ذلك، وأن الخلاف إنما هو في الجواز الشرعي لا العقلي[20]، وذكر هذا ابن الهمام، وحمَل خلاف الحنابلة ومن معهم على عدم الجواز الشرعي لا العقلي، وتبعه ابن أمير الحاج[21]، وأمير بادشاه[22]، وابن عبدالشكور، والأنصاري اللكنوي[23].
واستدل لهذا: بأن الحنابلة استدلوا بحديث: ((لا تزال طائفة من أمتي... إلخ))[24]، وهذا الحديث إنما يفيد عدم الوقوع، لا الاستحالة العقلية؛ إذ لا يمكن أن يمنع من ذلك أحد[25].
وبعضهم خالف هذا؛ فقال بأن النزاع في جوازه عقلًا وشرعًا[26]، ويفهم هذا من كلام ابن السبكي[27]، وصرح به السيوطي[28]، ويمكن أن يستدل لهذا: بأن المثبتين لجواز الخلو يستدلون على إثباته عقلًا بقولهم: وذلك لأنه لو امتنع لامتنع إما لذاته، أو لأمر من خارج؛ الأول محال؛ فإننا لو فرضنا وقوعه لم يلزم عنه لذاته محال عقلًا[29].
وهذا يدل على أنهم فهموا أن إنكاره من جهة العقل أيضًا، فاستدلوا على الإثبات بالعقل، وأردفوه بالنقل، ثم إنهم جعلوا مما استدل به الحنابلة: أنه لو جاز خلوُّ العصر عن مجتهد، للزم منه اتفاق الأمة على الخطأ والضلالة؛ حيث فرَّطوا في واجب كفائي، وهذا ممتنع[30]، وأيضًا أنه يؤدي إلى اندراس التكليف والأحكام، وهو ممتنع[31]، ويبدو أن امتناعَ هذا من جهة العقل.
وقد أشار التفتازاني إلى الجواب عن الأول: بأنه لو سلم أن الدليل في الجواز العقلي، والخلاف في الامتناع الشرعي، فالمراد لو امتنع شرعًا لكان لمانع شرعي، والأصل عدمه[32]، فهو قد حمَل المنع هنا على المنع الشرعي.
ويؤيد بعضُهم هذا بأن الأصوليين والفقهاء يطلقون الجواز ويعنون به الجواز الشرعي، إلا إذا وُجد صارف يصرفه للجواز العقلي[33]، ولكن قد يشكل على هذا كله قولهم في الجواب، كما صرح به الآمدي: "محال عقلًا"؛ فاستدلالهم من جهة العقل صراحة، فكيف يحمل على الجواز الشرعي؟ ويشكل على هذا أيضًا أن الأنصاري اللكنوي ذكر أن من الناس من قال بوجوب الخلو، ولكن علق عليه بأنه هوس لا يعوَّل عليه[34].
ولذا؛ فالذي يظهر لي من خلال تأمل كلام الأصوليين أن الخلاف في الجواز عقلًا وشرعًا، أما من قال بالوجوب، فهو قول لا يستحق الذكر فضلًا عن الاعتبار، كما أن قائله لا يضاف إلى جملة العلماء؛ إذ هو بالعوامِّ أولى وأحرى.
رابعًا: اختلف الأصوليون هل يجوز عقلًا أو شرعًا أن يخلو زمان من الأزمان إلى قبيل الساعة من مجتهد مستقل أو مقيد؟، وهذا هو محل النزاع في المسألة.
رأي الشَّاطبي:
سبق أن قررنا أن الشَّاطبي قسم الاجتهاد من حيث الانقطاع وعدمه إلى قسمين:
القسم الأول: اجتهاد لا يمكن أن ينقطع إلى قيام الساعة: وهو - كما سبق إيضاحه - تحقيق المناط الشخصي العام، أو بعبارة أخرى: تطبيق القاعدة الكلية، والحكم الكلي على الأجزاء العينية.
ولما أن كان هذا النوع مرتبطًا بالتكليف، والتكليف محال أن ينقطع في زمن دون آخر، أو في زمن ويدوم انقطاعه أبدًا، كان هذا النوع من الاجتهاد المناطي لا يمكن أن يخلو الزمان من مجتهد فيه، ولا يجوز القول بذلك لا عقلًا ولا شرعًا، لا سيما وأنه غير خاص بالعلماء، بل هو عام لكل مكلف، وأهل التكليف وأعيان الناس لا ينقطعون مطلقًا حتى تقوم الساعة.
قال الشَّاطبي وهو يتحدث عن الاجتهاد في تحقيق المناط النوعي: "ولكن هذا الاجتهاد في النوع لا يُغني عن الاجتهاد في الأشخاص المعينة، فلا بد من هذا الاجتهاد في كل زمان"[35].
أما الثاني: فهو الاجتهاد الذي يمكن انقطاعه، وهذا النوع يتضمن بقية أنواع الاجتهاد في العلة، وهي تنقيح المناط، وتخريجه، وتحقيق المناط النوعي، وتحقيق المناط الشخصي الخاص[36].
قال الشَّاطبي مفرقًا بين النوعين: "إن الفرق بينهما ظاهر من جهة أن هذا النوع الخاص كلي في كل زمان، عام في جميع الوقائع أو أكثرها، فلو فرض ارتفاعه لارتفع معظم التكليف الشرعي أو جميعه، وذلك غير صحيح؛ لأنه إن فرض في زمان ما ارتفعت الشريعة ضربة لازب بخلاف غيره، فإن الوقائع المتجددة التي لا عهد بها في الزمان المتقدم قليلة بالنسبة إلى ما تقدم؛ لاتساع النظر والاجتهاد من المتقدمين، فيمكن تقليدهم فيه؛ لأنه معظم الشريعة، فلا تتعطل الشريعة بتعطل بعض الجزئيات، كما لو فرض العجز عن تحقيق المناط في بعض الجزئيات دون السائر، فإنه لا ضرر على الشريعة في ذلك، فواضح أنهما ليسا سواءً، والله أعلم"[37].
ومِن خلال هذا النقل، يتبين أن الشَّاطبي يرى أنه يمكن انقطاع هذا النوع من الاجتهاد، وعليه يمكن أن يخلو الزمان من مجتهد فيه[38].
ولكن قوله في بداية تقسيمه: "والثاني: يمكن أن ينقطع قبل فَناء الدنيا"[39]، وخصوصًا قوله: "يمكن" تفيد جواز الوقوع عقلًا وشرعًا، ولكنها لا تفيد وقوعه فعلًا.
وكأن هذا يتأيَّد بقوله في موضع آخر: "وعلى هذا لو فرضنا خلو الزمان عن مجتهد لم يمكن اتباع العوام لأمثالهم... بل يتنزل النقل عن المجتهدين منزلة وجود المجتهدين، فالذي يلزم العوام مع وجود المجتهدين هو الذي يلزم أهل الزمان المفروض الخالي عن المجتهد"[40].
وفيما يبدو أن أكثر الأصوليين موافقون للشاطبي في القول بعدم انقطاع تحقيق المناط العام، لا سيما وقد نقل الإجماع عليه، وأنه من ضرورة كل شريعة[41]، ولا شك أن الشريعة باقيةٌ إلى قيام الساعة، فإذًا مِن ضرورة بقائها بقاء هذا النوع من الاجتهاد.
ومَن قال بإمكان اندراس الشريعة، فإنه يخالف الشَّاطبي في ذلك[42].
ولا يندرج هذا النوع فيما ذكروه في مسألة خلو الزمان من مجتهد؛ لأن هذا النوع ليس هو الاجتهاد الذي يريده الأصوليون، وإنما هو اجتهاد عام مندرج ضمن مسمى الاجتهاد في اصطلاح الشَّاطبي، وما يريده الأصوليون إنما هو الاجتهاد الخاص؛ ولذا نقل الإجماع على بقائه وعدم خلو الزمان من مجتهد فيه[43].
وأما الاجتهاد الخاص فقد وافق الشَّاطبي فيه الحنفية[44]، وأكثر المالكية[45]، وأكثر الشافعية[46]، ونقله بعضهم إجماعًا[47]، وقال الرافعي: "الخَلْق كالمتفقين على أنه لا مجتهد اليوم"[48]، ونسب للأكثرين[49].
وهؤلاء اختلفوا:
فقيل بالوقوع، وعبارة هؤلاء خاصة بالمطلق، وهذا ظاهر من قول الغزالي، والقفال: "خلا العصر من مجتهد مستقل"[50]، وأيضًا من قول الرافعي السابق.
واختار هذا النووي[51]، وابن الصلاح[52]، والعضد[53]، والأنصاري[54]، وقال ابن حمدان من الحنابلة: "ومن زمن طويل عُدِم المجتهد المطلق..."[55]، وقال والد ابن دقيق العيد مجد الدين علي بن وهب، وجده لأمه أبو العز مظفر بن عبدالله المشهور بالمقترح: "عزَّ المجتهد في هذه الأعصار"[56].
وقيل بعدم الوقوع، أو بعدم ثبوته: واختاره ابن السبكي[57]، والأنصاري اللكنوي[58]، ويلاحظ هذا من قول الآمدي: "فإنا لو فرضنا وقوعه"[59]، وقول الصفي الهندي في جوابه عن أدلة الحنابلة: "بل لو دلَّ فإنما يدل على عدم الوقوع، ولا يلزم منه عدم الجواز"[60]، ومثله الأسنوي[61]، والبرماوي[62].
وعبارة الجويني محتملة؛ فإنه قال: "وتقدير خلو الدهر عن حملة الشريعة اجتهادًا ونقلًا نادرٌ في التصوير والوقوع جدًّا، ولو فُرض - والعياذ بالله - كان تقديرُ عودِ العلماء أبدعَ مِن كل بديع"[63].
وخالَفه القائلون بعدم جواز خلو الزمان من مجتهد: وبه قال الحنابلة[64]، واختاره ابن رشد[65] من المالكية، وبعض الشافعية؛ كأبي إسحاق الشيرازي[66]، والزبيري[67]، ونقل عن العز بن عبدالسلام[68]، وهو ظاهر تبويب الخطيب؛ حيث قال: "ذكر الرواية أن الله تعالى لا يُخْلي الوقت من فقيه، أو متفقِّه"[69]، واختاره ابن حزم[70]، ونسب لطوائف دون تعيين[71]، واختاره الشوكاني[72]، وكثير من المعاصرين[73].
وضِمن هذا القول - كما سبق بيانه - يندرج قول ابن دقيق العيد: وهو منعُ خلوِّ الزمان من مجتهد، ما لم يتداعَ الزمان، وتتزلزل القواعد[74].
والقول الثالث في المسألة: خلو الزمان من مجتهد مطلق – أي: مستقل - دون مجتهد في المذهب، واختاره الزركشي[75]، والسيوطي[76].
أدلة الشَّاطبي ومن وافقه:
استدل الشَّاطبي على أن الاجتهاد العام لا يخلو عصر من مجتهد فيه بدليلين:
الدليل الأول: أنه لو قيل بارتفاع وخلو الزمان من مجتهد فيه، للزم منه المحال؛ لأن الأحكام الشرعية قد وردت عامة مطلقه، فلا يمكن أن تتنزل على أفعال المكلفين إلا في الأذهان، والأفعال لا تقع في الوجود مطلقة، وإنما تقع معينة مشخصة، فلا بد إذًا من معرفة الأعيان الذين يشملهم ذلك المطلق حتى يوقع الفعل عليهم، وهذا لا يتم إلا عن طريق تحقيق المناط العام؛ فلذا كان لا بد منه لكل عصر؛ لارتباطه بإنزال التكليف على العباد، ولما أن كان التكليف غير منقطع كان هذا غير منقطع أيضًا.
الدليل الثاني: أن هذا التكليف مرتبط بالعالم والحاكم والمفتي والعامي، ومن المعلوم أنه لا يمكن خلو الزمان من هذه الفئات جميعًا؛ ولذا كان الاجتهاد المرتبط بهم باقيًا كبقائهم.
واستدل الشَّاطبي على إمكان خلو الزمان من مجتهد في غير ما قرر بقاءه من تحقيق المناط العام: بأن بقية أنواع الاجتهاد لا يتوقف عليها التكليف؛ إذ يمكن أن يتم التكليف وتعرف الأحكام عن طريق التقليد؛ ولذا جاز القول بانقطاعها.
مناقشته: نوقش هذا الدليل من وجهين:
الوجه الأول: أن قولك بالجواز مخالف للأدلة الشرعية؛ كقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((لا تزال طائفة مِن أمتي على الحق ظاهرين، لا يضرُّهم مَن خذَهم حتى يأتي أمر الله))[77]، وقوله صلى الله عليه وسلم: ((إن العلماءَ ورثة الأنبياء))[78]، وأحق الأمم بالوراثة للعلم هذه الأمة، وأحق الأنبياء بإرث العلم عنه النبي صلى الله عليه وسلم [79]، وقوله صلى الله عليه وسلم: ((لن تخلوَ الأرض مِن قائم لله بحجة))[80].
جواب المناقشة: وأجيب عن هذه المناقشة بثلاثة أجوبة:
الجواب الأول: أن هذه الأدلة معارَضة بما يدل على نقيضها؛ كقوله صلى الله عليه وسلم: ((بدأ الإسلام غريبًا، وسيعودُ غريبًا كما بدأ؛ فطوبى للغرباء))[81]، وقوله: ((إن اللهَ لا يقبِض العلم انتزاعًا ينتزعه من العباد، ولكن يقبِض العلم بقَبْض العلماء، حتى إذا لم يُبْقِ عالِمًا اتخذ الناس رؤوسًا جهالًا، فسُئلوا، فأفتَوْا بغير علم؛ فضَلُّوا وأضَلُّوا))[82]، وإذا تعارضت النصوص تساقطت[83]، وبقي لنا دليلنا العقلي، وهو أنه لو امتنع لامتنع؛ إما لذاته أو لأمر خارج، والأول محال؛ لأنه لو وقع لم يلزم عنه لذاته محال عقلًا، وإن كان الثاني فالأصل عدمه، وعلى مدَّعيه بيانه[84].
يتبع