قطع يد السارق
الشيخ فيصل بن عبدالعزيز آل مبارك
واختلفوا هل يقطع الأقارب سوى الآباء: الإخوة والعمومة والخؤولة إذا سرق بعضهم مال بعض؟
فقال أبو حنيفة[90]: لا يقطع إذا سرق من ذي رحم محرم كالأخ والعم.
وقال مالك[91] والشافعي[92] وأحمد[93]: يُقطع.
واتفقوا على أنه لا يقطع الوالدون وإن علوا فيما سرقوه من مال أولادهم[94].
واختلفوا في الولد إذا سرق من مال أبويه أو أحدهما:
فقال أبو حنيفة[95] والشافعي[96] وأحمد[97]: لا يقطع.
وقال مالك[98]: يقطع الولد بسرقة مال أبويه؛ فإنه لا شبهة له في مالهما.
واتفقوا على أن من كسر صنمًا من ذهب أنه لا ضمان عليه[99]، ثم اختلفوا فيما إذا سرقه:
فقال أبو حنيفة[100] وأحمد[101]: لا قطع عليه.
وقال مالك[102] والشافعي[103]: عليه القطع.
واختلفوا فيما إذا سرق من الحمام ثيابًا عليها حافظ:
فقال أبو حنيفة[104]: إذا سرق منه ليلًا قُطع، وإن سرق نهارًا لم يُقطع.
وقال الشافعي[105] وأحمد في إحدى روايته[106]: يُقطع إذا سرق ثيابًا من الحمام وعليها حافظ، وسواء كانت سرقته منه ليلًا أو نهارًا.
وعن أحمد رواية أخرى[107]: لا يُقطع على الإطلاق.
وقال مالك[108]: من سرق ما كان من الحمام مما يُحرس فعليه القطع، ومن سرق ما لا يحرس وكان في الحمام موضوعًا فلا قطع عليه.
واختلفوا في من سرق عدلًا أو جوالقًا وثم حافظ:
فقال أبو حنيفة[109]: لا يُقطع، وقال مالك[110] والشافعي[111] وأحمد[112]: يجب عليه القطع.
واختلفوا فيما إذا سرق العين المسروقة من السارق، أو سرق العين المغصوبة من الغاصب:
فقال أبو حنيفة[113]: يُقطع سارق العين المغصوبة 984أ، ولا يُقطع سارق العين المسروقة إن كان السارق الأول قد قطع فيها، فإن كان لم يُقطع قطع الثاني.
وقال مالك[114]: يقطع كل واحد منهما.
وقال الشافعي[115] وأحمد[116]: لا يجب القطع على واحد منهما، أعني: السارق من السارق، والسارق من الغاصب.
واختلفوا فيما إذا ادعى السارق أن ما أخذه من الحرز ملكه بعد قيام البينة عليه أنه سرق من الحرز نصابًا:
فقال مالك[117]: يجب القطع عليه بكل حال، ولا يُقبل دعواه.
وقال أبو حنيفة[118] والشافعي[119]: لا يُقطع.
وسمَّاه الشافعي: السارق الظريف، وعن أحمد روايات: إحداها[120]: لا يجب عليه القطع، وهي الظاهرة. والأخرى[121]: عليه القطع بكل حال كمذهب مالك. والأخرى عنه[122]: كمذهب أبي حنيفة.
والشافعي[123]: يقبل منه إذا لم يكن معروفًا بالسرقة، ويسقط القطع عنه، وإن كان معروفًا بالسرقة قُطع.
واختلفوا، هل يقف القطع في السرقة على مطالبة من سرق منه المال؟
فقال أبو حنيفة[124] وأحمد[125] في أظهر روايتيه[126] وأصحاب الشافعي[127]: يفتقر إلى مطالبة المسروق منه.
وقال مالك[128]: لا يفتقر إلى المطالبة، وعن أحمد رواية أخرى[129] نحوه.
واختلفوا فيما إذا قتل رجل رجلًا في دار القاتل، وقال: دخل عليَّ ليأخذ مالي ولم يندفع إلا بالقتل:
فقال أبو حنيفة[130]: لا قود عليه إذا كان الداخل معروفًا بالفساد، فإن لم يكن معروفًا بالفساد فعليه القود.
وقال مالك[131] وأحمد[132]: عليه القصاص إلا أن يأتي ببينة، إلا أن مالكًا زاد فقال: إن كان مشتهرًا بالتلصص والجراءة قبل قول القاتل وسقط عنه القود.
واختلفوا فيما إذا سرق من المغنم وكان من أهله، هل يقطع؟
فقال أبو حنيفة[133] وأحمد[134]: لا يُقطع.
وقال مالك في المشهور عنه[135]: يُقطع، وقال عبد العزيز بن الماجشون[136] - من أصحاب مالك -: 984ب لا يُقطع إذا كان ما سرقه مثل نصيبه أو دونه، فإن كان فوق نصيبه بربع دينار فصاعدًا قطع، وعن الشافعي قولان[137] كالمذهبين.
واتفقوا على أنه إذا سرق من المغنم وهو من غير أهله أنه يُقطع[138].
واختلفوا في وجوب القطع بسرقة الصيود المملوكة من حرزها:
فقال مالك[139] والشافعي[140] وأحمد[141]: يُقطع فيها، وفي جميع المتمولات التي تتمول في العادة، ويجوز أخذ الأعواض عليها، وسواء كان أصلها مباحًا كالصيد والماء والحجارة، أو غير مباح.
وقال أبو حنيفة[142]: كلُّ ما أصله مباح فلا قطع فيه.
واختلفوا في وجوب القطع بسرقة الخشب إذا بلغ قيمته نصابًا:
فقال مالك[143] والشافعي[144] وأحمد[145]: يجب القطع في ذلك على الإطلاق.
وقال أبو حنيفة[146]: لا يجب القطع إلا في الساج والأبنوس والصندل والقنا.
وأجمعوا على أن السارق إذا وجب عليه القطع، وكان ذلك أول سرقة وهو صحيح الأطراف فإنه يُبدأ بقطع يده اليمنى من مفصل الكف، ثم تحسم الكف[147].
وأجمعوا على أنه إذا عاد فسرق ثانيًا ووجب عليه القطع: أن تُقطع رجله اليسرى، وأنها تُقطع من مفصل الكعب ثم تحسم[148].
وأجمعوا على أنه من لم يكن له الطرف المستحق قطعه قطع ما بعده[149]، وكذلك إن كان أشل من الطرف المستحق قطعه بحيث لا يقطع فيه قُطع ما بعده، إلا أبا حنيفة[150] فإنه قال: تُقطع يمينه، وإن كانت شلاء.
وقال الشافعي[151]: إذا سرق ويمينه شلاء - وقال أهل الخبرة: إنها إذا قطعت وحسمت رفأ دمها - فإنها تقطع، وإن قالوا: إنها إذا قطعت لم يرفأ 985أ دمها وأدى إلى التلف لم تُقطع وقطع ما بعدها.
ثم اختلفوا فيما إذا سرق ابتداء فوجب عليه قطع يده اليمنى كما ذكرنا، فغلط القاطع فقطع يُسرى يديه:
فقال مالك[152] وأبو حنيفة[153]: قد أجزأ ذلك عن قطع اليمين ولا إعادة عليه.
وقال الشافعي[154] وأحمد[155]: على القاطع المخطئ الدية، وفي وجوب إعادة القطع قولان عن الشافعي[156]، وروايتان عن أحمد[157].
واختلفوا فيما إذا سرق نصابًا ثم ملكه بشراء أو هبة أو إرث أو غيره، هل يسقط القطع؟
فقال مالك[158] والشافعي[159] وأحمد[160]: لا يسقط القطع عنه، سواء ملكه بذلك قبل الترابع أو بعده.
وقال أبو حنيفة[161]: متى وهبت له، أو بيعت منه سقط القطع عنه.
واختلفوا فيما إذا سرق مسلم من مال مستأمن نصابًا من حرزه:
فقال أبو حنيفة[162]: لا يُقطع، وقال الباقون[163]: يُقطع.
واختلفوا في المستأمن والمعاهد إذا سرقا:
فقال أبو حنيفة[164]: لا يجب عليهما قطع.
وقال مالك[165] وأحمد[166]: يُقطعان، وعن الشافعي قولان[167] كالمذهبين، واتفقوا على أن المختلس والمنتهب والغاصب والخائن على عظم جناياتهم وآثامهم فإنهم[168] لا قطع على واحد منهم[169]"[170].
وقال ابن رشد: "بسم الله الرحمن الرحيم، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم تسليمًا، كتاب السرقة.
والنظر في هذا الكتاب في حد السرقة، وفي شروط المسروق الذي يجب به الحد، وفي صفات السارق الذي يجب عليه الحد، وفي العقوبة، وفيما تثبت به هذه الجناية؟
فأما السرقة فهي أخذ مال الغير مستترًا من غير أن يؤتمن عليه. وإنما قلنا هذا؛ لأنهم أجمعوا أنه ليس في الخيانة، ولا في الاختلاس قطع[171]، إلا إياس بن معاوية فإنه أوجب في الخلسة القطع، وذلك مروي عن النبي صلى الله عليه وسلم[172].
وأوجب أيضًا قومٌ القطع على من استعار حليًا أو متاعًا ثم جحده لمكان حديث المرأة المخزومية المشهور أنها كانت تستعير الحلي، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قطعها لموضع جحودها، وبه قال أحمد[173] وإسحاق، والحديث حديث عائشة قالت: كانت امرأة مخزومية تستعير المتاع وتجحده، فأمر النبي عليه السلام بقطع يدها فأتى أسامةَ أهلها فكلموه فكلم أسامة النبي صلى الله عليه وسلم، فقال النبي عليه السلام: "يا أسامة، لا أراك تتكلم في حد من حدود الله"، ثم قام النبي صلى الله عليه وسلم خطيبًا فقال: "إنما أهلك من كان قبلكم أنه إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف قطعوه، والذي نفسي بيده، لو كانت فاطمة بنت محمد لقطعتها"[174].
وردَّ الجمهور هذا الحديث؛ لأنه مخالف للأصول، وذلك أن المعار مأمون، وأنه لم يأخذ بغير إذن، فضلًا أن يأخذ من حرز، قالوا: وفي الحديث حذف، وهو: أنها سرقت مع أنها جحدت، ويدل على ذلك: قوله عليه السلام: "إنما أهلك من كان قبلكم أنه إذا سرق فيهم الشريف تركوه"[175]، قالوا: وروى هذا الحديث الليث بن سعد، عن الزهري بإسناده فقال فيه: إن المخزومية سرقت[176]، قالوا: وهذا يدل على: أنها فعلت الأمرين جميعًا الجحد والسرقة.
وكذلك أجمعوا أنه ليس على الغاصب، ولا على المكابر المغالب قطع[177]، إلا أن يكون قاطع طريق مُشاهرًا للسلاح على المسلمين مخيفًا للسبيل، فحكمه حكم المحارب على ما سيأتي في حد المحارب.
وأما السارق الذي يجب عليه حد السرقة: فإنهم اتفقوا على أن من شرطه أن يكون مكلفًا[178]، وسواء كان حُرًا أو عبدًا، ذكرًا أو أنثى، مسلمًا أو ذميًا إلا ما رُوي في الصدر الأول من الخلاف في قطع يد العبد الآبق إذا سرق "986أ".
ورُوي ذلك عن: ابن عباس وعثمان ومروان وعمر بن عبد العزيز، ولم يُختلف فيه بعد العصر المتقدم، فمن رأى أن الإجماع ينعقد بعد وجود الخلاف في العصر المتقدم كانت المسألة عنده قطعية.
ومن لم ير ذلك تمسك بعموم الأمر بالقطع، ولا حجة لمن لم يرد القطع على العبد الآبق إلا تشبيهه سقوط الحد عنه بسقوط شطره - أعني: الحدود التي تنشطر في حق العبيد - وهو تشبيه ضعيف.
وأما المسروق: فإن له شرائط مختلفًا فيها، فمن أشهرها: اشتراط النصاب، وذلك أن الجمهور على اشتراطه[179] إلا ما رُوعي عن الحسن البصري أنه قال: القطع في قليل المسروق وكثيره؛ لعموم قوله تعالى: ï´؟ وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا ï´¾... الآية [المائدة: 38].
وربما احتجوا بحديث أبي هريرة خرجه البخاري ومسلم عن النبي عليه السلام أنه قال: "لعن الله السارق يسرق البيضة فتقطع يده، ويسرق الحبل فتقطع يده"[180]، وبه قالت الخوارج، وطائفة من المتكلمين.
والذين قالوا باشتراط النصاب في وجوب القطع - وهم الجمهور - اختلفوا في قدره اختلافًا كثيرًا، إلا أن الاختلاف المشهور من ذلك الذي يستند إلى أدلة ثابتة، وهو قولان:
أحدهما: قول فقهاء الحجاز: مالك والشافعي وغيرهم.
والثاني: قول فقهاء العراق.
أما فقهاء الحجاز[181]: فأوجبوا القطع في ثلاثة دراهم من الفضة وربع دينار من الذهب.
واختلفوا فيما تُقوَّم به سائر الأشياء المسروقة مما عدا الذهب والفضة:
فقال مالك في المشهور[182]: تُقوَّم بالدراهم لا بالربع دينار، أعني: إذا اختلفت الثلاثة دراهم مع الربع دينار لاختلاف الصرف، مثل أن يكون الربع دينار في وقت درهمين ونصفًا.
وقال الشافعي[183]: الأصل في تقويم الأشياء: هو الربع دينار، وهو الأصل أيضًا للدراهم فلا يقطع عنده في الثلاثة دراهم إلا أن تساوي ربع دينار.
وأما مالك[184]، فالدراهم والدنانير عنده كل واحد منهما معتبر بنفسه.
وقد روى بعض البغداديين عنه: أنه ينظر في تقويم العروض إلى الغالب في نقود أهل ذلك البلد، فإن كان الغالب الدراهم قومت بالدراهم، وإن كان الغالب الدنانير قومت بالربع دينار، وأظن أن في المذهب من يقول: إن الربع دينار يقوم بالثلاثة دراهم، وبقول الشافعي في التقويم قال أبو ثور والأوزاعي وداود[185]، وبقول مالك المشهور قال أحمد[186]، أعني: بالتقويم بالدراهم.
وأما فقهاء العراق[187]: فالنصاب الذي يجب القطع فيه هو عندهم عشرة دراهم لا يجب في أقل منه، وقد قال جماعة منهم ابن أبي ليلى وابن شبرمة: لا تُقطع اليد في أقل من خمسة دراهم، وقد قيل: في أربعة دراهم، وقال عثمان البتي: في درهمين.
فعُمدة فقهاء الحجاز: ما رواه مالك عن نافع، عن ابن عمر: أن النبي عليه الصلاة والسلام قطع في مِـجن قيمته ثلاثة دراهم[188]، وحديث عائشة: أوقفه مالك، وأسنده البخاري ومسلم إلى النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال: "تُقطع اليد في ربع دينار فصاعدًا"[189].
وأما عُمدة فقهاء العراق: فحديث ابن عمر المذكور، قالوا: ولكن قيمة المجن هو عشرة دراهم، ورُوي ذلك في أحاديث، قالوا: وقد خالف ابن عمر في قيمة المِجن من الصحابة كثير ممن رأى القطع في المجن كابن عباس وغيره.
وقد روى محمد بن إسحاق، "عن أيوب بن موسى، عن عطاء، عن ابن عباس"[190]، قال: وكان ثمن المجن على عهد النبي صلى الله عليه وسلم: عشرة دراهم، قالوا: وإذا وجد الخلاف إلى ثمن المجن وجب ألا تُقطع اليد إلا بيقين، وهذا الذي قالوه هو كلام حسن لولا حديث عائشة، وهو الذي اعتمده الشافعي في هذه المسألة، وجعل الأصل هو الربع دينار.
وأما مالك: فاعتضد عنده حديث ابن عمر بحديث عثمان الذي رواه، وهو أنه قطع في أترجة وقومت بثلاثة دراهم[191]، والشافعي يعتذر عن حديث عثمان من قبل أن الصرف كان عندهم في ذلك الوقت اثنا عشر درهمًا، والقطع في ثلاثة دراهم أحفظ للأموال[192]، والقطع في عشرة دراهم أدخل في باب التجاوز والصفح عن يسير المال وشرف العضو، والجمع بين حديث "ابن عمر[193]" وحديث عائشة، وفعل عثمان ممكن على مذهب الشافعي، وغير ممكن على مذهب غيره، فإن كان الجمع أولى من الترجيح فمذهب الشافعي أولى المذاهب، فهذا هو أحد الشروط المشترطة في القطع.
واختلفوا من هذا الباب في فرع مشهور، وهو: إذا سرقت الجماعة ما يجب فيه القطع - أعني نصابًا - دون أن يكون حظ كل واحد منهم نصابًا، وذلك بأن يخرجوا النصاب من الحرز معًا، مثل: أن يكون عدلًا أو صندوقًا يُساوي النصاب:
فقال مالك[194]: يُقطعون جميعًا، وبه قال الشافعي[195] وأحمد[196] وأبو ثور وقال أبو حنيفة[197]: لا قطع عليهم حتى يكون ما أخذه كل واحد منهم نصابًا، فمن قطع الجميع رأى العقوبة إنما تتعلق بقدر مال المسروق، أي: أن هذا القدر من المال المسروق هو الذي يُوجب القطع لحفظ المال، ومن رأى أن القطع إنما عُلق بهذا القدر لا بما دونه لمكان حرمة اليد قال: لا تُقطع أيد كثيرة فيما أوجب الشرع فيه قطع يد واحدة.
يتبع