حكم المرتد في الإسلام
الشيخ فيصل بن عبدالعزيز آل مبارك
واختلف القائلون بالاستتابة: هل يُكتفى بالمرة أو لا بد من ثلاث؟
وهل الثلاث في مجلس أو في يوم أو في ثلاثة أيام؟
وعن علي: يُستتاب شهرًا، وعن النخعي: يُستتاب أبدًا، كذا نُقل عنه مطلقًا، والتحقيق: أنه في من تكررت منه الردة[124]. ثم ذكر في الباب حديثين: قوله: أتي علي - هو علي بن أبي ط الب - تقدم في باب لا يُعذب بعذاب الله، من كتاب الجهاد، من طريق سفيان بن عيينة عن أيوب بهذا السند أن عليًا "1034ب" حرَّق قومًا، وذكرت هناك أن الحميدي رواه عن سفيان بلفظ: حرق المرتدين، ومن وجه آخر عند ابن أبي شيبة: كان أُناس يعبدون الأصنام في السِّر[125].
وعند الطبراني في "الأوسط" من طريق سويد بن غفلة: أن عليًا بلغه أن قومًا ارتدوا عن الإسلام فبعث إليهم فأطعمهم، ثم دعاهم إلى الإسلام فأبوا فحفر حفيرة ثم أتى بهم فضرب أعناقهم ورماهم فيها، ثم ألقى عليهم الحطب فأحرقهم، ثم قال: صدق الله ورسوله[126].
وزعم أبو المظفر الإسفرايني في "الملل والنحل"[127]: أن الذين أحرقهم علي طائفة من الروافض ادعوا فيه الإلهية، وهم السبائية، وكان كبيرهم عبد الله بن سبأ يهوديًا، ثم أظهر الإسلام وابتدع هذه المقالة.
وهذا يمكن أن يكون أصله ما رُويناه في الجزء الثالث من حديث أبي طاهر المُخلص من طريق عبد الله بن شريك العامري، عن أبيه، قال: قيل لعلي: إن هنا قومًا على باب المسجد يدعون أنك ربهم، فدعاهم فقال لهم: ويلكم ما تقولون؟! قالوا: أنت ربنا وخالقنا ورازقنا، فقال: ويلكم إنما أنا عبدٌ مثلكم، آكل الطعام كما تأكلون، وأشرب كما تشربون، إن أطعت الله أثابني إن شاء، وإن عصيته خشيت أن يعذبني، فاتقوا الله وارجعوا، فأبوا، فلما كان الغد غدوا عليه فجاء قنبر، فقال: قد والله رجعوا يقولون ذلك الكلام فقال: أدخلهم، فقالوا كذلك، فلما كان الثالث قال: لئن قلتم ذلك لأقتلنكم أخبث قتلة، فأبوا إلا ذلك فقال: يا قنبر، ائتني بفعلة معهم مرورهم، فخد لهم أخدودًا بين باب المسج والقصر، وقال: احفروا فأبعدوا في الأرض، وجاء بالحطب فطرحه بالنار في الأخدود وقال: إني طارحكم فيها أو ترجعوا، فأبوا أن يرجعوا فقذف بهم فيها حتى إذا احترقوا قال: إني إذا رأيت أمرًا مُنكرًا أوقدت ناري ودعوت قنبرًا "1035أ"
وهذا سند حسن.
وأما ما أخرجه ابن أبي شيبة من طريق قتادة: أن عليًا أُتي بناس من الزط يعبدون وثنًا فأحرقهم[128]، فسنده منقطع، فإن ثبت حُمل على قصة أخرى، فقد أخرج ابن أبي شيبة أيضًا من طريق أيوب بن النعمان: شهدت عليًا في الرَّحبة فجاءه رجل فقال: إن هنا أهل بيت لهم وثنٌ في دار يعبدونه، فقام يمشي إلى الدار، فأخرجوا إليه تمثال رجل قال: فألهب عليهم علي الدار[129].
قوله: بزنادقة، جمع: زنديق، قال أبو حاتم السجستاني وغيره: الزنديق: فارسي مُعرب، أصله: "زنده كرداي"، يقول بدوام الدهر؛ لأن زنده: الحياة، وكرد: العمل، ويطلق على من يكون دقيق النظر في الأمور. وقال ثعلب: ليس في كلام العرب زنديق وإنما قالوا: زندقي لمن يكون شديد التحيل، وإذا أرادوا ما تريد العامة قالوا: مُلحدي ودهري، أي: يقول بدوام الدهر، وإذا قالوها بالضم أرادوا كبر السن، وقال الجوهري: الزنديق: من الثنوية، كذا قال، وفسره بعض الشُّراح بأنه الذي يدعي أن مع الله إلهًا آخر، وتُعقب: بأنه يلزم منه أن يُطلق على كل مُشرك.
والتحقيق: ما ذكره من صنف في الملل: أن أصل الزنادقة: أتباع ديصان ثم ماني ثم مزدك، وحاصل مقالتهم: أن النور والظلمة قديمان، وأنهما امتزجا فحدث العالم كله منهما، فمن كان من أهل الشر فهو من الظلمة، ومن كان من أهل الخير فهو من النور، وأنه يجب السعي في تخليص النور من الظلمة، فيلزم إزهاق كل نفس، وإلى ذلك أشار المتنبي حيث قال في قصيدته المشهورة:
وكم لظلام الليل عندك من يد*** تُخبر أن المانوية تكذب
وكان بهرام جد كسرى تحيل على ماني حتى حضر عنده، وأظهر له أنه قبل مقالته ثم قتله، وقتل أصحابه وبقيت منهم بقايا اتبعوا مزدك المذكور، وقام الإسلام.
والزنديق: يُطلق على من يعتقد ذلك، وأظهر جماعة منهم الإسلام؛ خشية القتل، ومن ثم أطلق الاسم "1035ب" على كل من أسر الكفر وأظهر الإسلام حتى قال مالك[130]: الزندقة ما كان عليه المنافقون.
وكذا أطلق جماعة من الفقهاء الشافعية[131] وغيرهم أن الزنديق: هو الذي يُظهر الإسلام ويخفي الكفر، فإن أرادوا اشتراكهم في الحكم فهو كذلك، وإلا فأصلهم ما ذكرت.
وقد قال النووي[132] في لغات "الروضة": الزنديق: الذي لا ينتحل دينًا.
وقال محمد بن معن في التنقيب على "المهذب": الزنادقة من الثنوية يقولون ببقاء الدهر وبالتناسخ.
قال: ومن الزنادقة الباطنية، وهم قوم زعموا أن الله خلق شيئًا ثم خلق منه شيئًا آخر فدبر العالم بأسره، ويسمونهما العقل والنفس، وتارة العقل الأول والعقل الثاني، وهو من قول الثنوية في النور والظلمة، إلا أنههم غيروا الاسمين.
قال: ولهم مقالات سخيفة في النبوات وتحريف الآيات وفرائض العبادات.
وقد قيل: إن سبب تفسير الفقهاء الزنديق بما يفسر به المنافق قول الشافعي[133] في "المختصر": وأي كفر ارتد إليه بما يُظهر أو يُسر من الزندقة وغيرها ثم تاب سقط عنه القتل، وهذا لا يلزم منه اتحاد الزنديق والمنافق، بل كل زنديق منافق من غير عكس، وكان من أطلق عليه في الكتاب والسنة المنافق يُظهر الإسلام ويُبطن عبادة الوثن أو اليهودية.
وأما الثنوية: فلا يُحفظ أن أحدًا منهم أظهر الإسلام في العهد النبوي، والله أعلم.
وقد اختلف النقلة في الذين وقع لهم مع علي ما وقع على ما سأبينه، واشتهر في صدر الإسلام الجعد بن درهم فذبحه خالد القسري في يوم عيد الأضحى، ثم كثروا في دولة المنصور، وأظهر له بعضهم مُعتقده فأبادهم بالقتل، ثم ابنه المهدي فأكثر من تتبعهم وقتلهم، ثم خرج في أيام المأمون "1036أ" بابك الخُرمي فغلب على بلاد الجبل، وقتل في المسلمين وهزم الجيوش إلى أن ظفر به المعتصم فصلبه، ولهم أتباع يقال لهم: الخُرمية، وقصصهم في التواريخ معروفة.
قوله: فبلغ ذلك ابن عباس وكان حينئذ أميرًا على البصرة من قبل علي.
قوله: لنهي رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تُعذبوا بعذاب الله"[134]، أي: لنهيه عن القتل بالنار.
قوله: ولقتلتهم؛ لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من بدل دينه فاقتلوه"[135].
وعن أبي داود: فبلغ ذلك عليًا فقال: ويح أم ابن عباس[136]، وهو محتمل أنه لم يرض بما اعترض به، ورأى أن النهي للتنزيه، وأن الإمام إذا رأى التغليظ بذلك فعله، ويحتمل أن يكون قالها رضًا بما قال، وأنه حفظ ما نسيه.
واستدل به على قتل المرتدة كالمرتد، وخصه الحنفية[137] بالذَّكر، وتمسكوا بحديث النهي عن قتل النساء[138]، وحمل الجمهور[139] النهي على الكافرة الأصلية غذا لم تُباشر القتال ولا القتل.
واحتجوا أيضًا بأن "مَن" الشرطية لا تعم المؤنث.
وتُعقِّب: بأن ابن عباس راوي الخبر قد قال: تُقتل المرتدة.
وقتل أبو بكر في خلافته امرأة ارتدت[140]، والصحابة متوافرون، فلم يُنكر ذلك أحد عليه، وقد أخرج ذلك كله ابن المنذر.
وقد وقع في حديث مُعاذ: أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أرسله إلى اليمن قال له: "أيما رجلٌ ارتد عن الإسلام فادعه، فإن عاد وإلا فاضرب عنقه، وأيما امرأة ارتدت عن الإسلام فادعها، فإن عادت وإلا فاضرب عنقها"[141]، وسنده حسن.
وهو نص في موضع النزاع فيجب المصير إليه، ويؤيده: اشتراك الرجال والنساء في الحدود كلها.
وتمسك به بعض الشافعية[142] في قتل من انتقل من دين كُفر إلى دين كُفر، سواء كان ممن يقر أهله عليه بالجزية أو لا، وأجاب بعض الحنفية: بأن العموم في الحديث في المُبدل لا في التبديل، فأما التبديل فهو مطلق لا عموم فيه، وعلى تقدير التسليم فهو متروك الظاهر اتفاقًا في الكافر، "ولو أسلم[143]" فإنه يدخل في عموم الخبر وليس مرادًا.
واحتجوا أيضًا: بأن الكُفر ملة واحدة، فلو تنصر اليهودي لم يخرج عن دين الكفر "1036ب"، وكذا لو تهود الوثني، فوضح أن المراد من بدل دين الإسلام بدين غيره؛ لأن الدين في الحقيقة هو الإسلام، قال الله تعالى: ï´؟ إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ ï´¾ [آل عمران: 19] وما عداه فهو بزعم المدعي...
إلى أن قال: واستدل به على قتل الزنديق من غير استتابة.
وتُعقب: بأن في بعض طرقه: أن عليًا استتابهم، وقد نص الشافعي على القبول مطلقًا، وقال: يُستتاب الزنديق كما يُستتاب المرتد[144].
وعن أحمد وأبي حنيفة روايتان[145]:
إحداهما: لا يُستتاب، والأخرى: إن تكرر منه لم تُقبل توبته، وهو قول الليث وإسحاق. انتهى مُلخصًا.
الحديث الثاني: حديث أبي موسى الأشعري: قوله: فإذا رجل عنده موثق قال: ما هذا؟ قال: كان يهوديًا فأسلم، ثم تهود، قال: اجلس، قال: لا أجلس حتى يُقتل، قضاء لله ورسوله، ثلاث مرات، أي: كرر هذا الكلام ثلاثًا[146].
قوله: فأُمر به فقُتل، في رواية أيوب: فقال: والله لا أقعد حتى تضربوا عنقه، فضرب عنقه.
وأخرج أبو داود من طريق طلحة بن يحيى ويزيد بن عبد الله كلاهما عن أبي بُردة، عن أبي موسى، قال: قدم عليَّ مُعاذ فذكر قصة اليهودي، وفيه: لا أنزل عن دابتي حتى يُقتل، فقُتل.
قال أحدهما: وكان قد استُتيب قبل ذلك[147]"[148].
وقال البخاري أيضًا: "باب قتل من أبى قبول الفرائض وما نسبوا إلى الردة.
حدثنا يحيى بن بُكير، حدثنا الليث، عن عقيل، عن ابن شهاب، أخبرني عبيد الله بن عبد الله بن عُتبة: أن أبا هريرة قال: لما تُوفي النبي صلى الله عليه وسلم واستخلف أبو بكر وكفر من كفر من العرب قال عمر: يا أبا بكر، كيف تُقاتل الناس وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أُمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله، فمن قال: لا إله إلا الله فقد عصم مني ماله ونفسه إلا بحقه وحسابه على الله[149]"؟ قال أبو بكر: والله لأُقاتلن من فرَّق بين الصلاة والزكاة، فإن الزكاة حق المال، والله لو منعوني عناقًا كانوا يؤدونها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لقاتلتهم على منعها، قال عمر: فو الله ما هو "1037أ" إلا أن رأيت أن قد شرح الله صدر أبي بكر للقتال، فعرفت أنه الحق"[150].
قال الحافظ: "قوله: "باب قتل من أبى قبول الفرائض"، أي: جواز قتل من امتنع من التزام الأحكام الواجبة والعمل بها.
قال المُهلب: من امتنع من قبول الفرائض نُظر فإن أقر بوجوب الزكاة مثلًا، أخذت منه قهرًا ولا يُقتل، فإن أضاف إلى امتناعه نصب القتال قُوتل إلى أن يرجع.
قال مالك في "الموطأ": الأمر عندنا في من منع فريضة من فرائض الله تعالى فلم يستطع المسلمون أخذها منه كان حقًا عليهم جهاده[151].
قال ابن بطال[152]: مراده إذا أقر بوجوبها لا خلاف في ذلك.
قوله: "وما نُسبوا إلى الردة"، أي: أطلق عليهم اسم المرتدين.
قال الكرماني: "ما" في قوله: "وما نُسبوا" نافية، كذا قال، والذي يظهر لي: أنها مصدرية، أي: ونسبتهم إلى الردة، وأشار بذلك إلى ما ورد في بعض طرق الحديث.
قال القاضي وغيره: كان أهل الردة ثلاثة أصناف: صنف عادوا إلى عبادة الأوثان، وصنف تبعوا مسيلمة والأسود العنسي، وكان كل منهما ادعى النبوة قبل موت النبي صلى الله عليه وسلم فصدق مسيلمة أهل اليمامة وجماعة غيرهم، وصدق الأسود أهل صنعاء وجماعة غيرهم، فقتل الأسود قبل موت النبي صلى الله عليه وسلم بقليل، وبقي بعض من آمن به فقتلهم عمال النبي صلى الله عليه وسلم في خلافة أبي بكر.
وأما مسيلمة فجهَّز إليه أبو بكر الجيش، وعليهم خالد بن الوليد فقتلوه، وصنف ثالث استمروا على الإسلام "لكنهم[153]" جحدوا الزكاة، وتأولوا بأنها خاصة بزمن النبي صلى الله عليه وسلم، وهم الذين ناظر عمر أبا بكر في قتالهم.
وقال أبو محمد ابن حزم في "الملل والنحل"[154]: انقسمت العربُ بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم على أربعة أقسام:
طائفة بقيت على ما كانت عليه في حياته، وهم الجمهور.
وطائفة بقيت على الإسلام أيضًا إلا أنهم قالوا: نُقيم الشرائع إلا الزكاة، وهم كثير، لكنهم قليل بالنسبة "1037ب" إلى الطائفة الأولى.
والثالثة: أعلنت بالكفر والرِّدة، كأصحاب طليحة وسجاح، وهم قليل بالنسبة لمن قبلهم، إلا أنه كان في كل قبيلة من يُقاوم من ارتد.
وطائفة توقفت فلم تطع أحدًا من الطوائف الثلاثة، وتربصوا لمن تكون الغلبة، فأخرج إليهم أبو بكر البُعوث، وكان فيروز ومن معه غلبوا على بلاد الأسود وقتلوه وقُتل مسيلمة باليمامة، وعاد طُليحة إلى الإسلام وكذا سجاح، ورجع غالب من كان ارتد إلى الإسلام، فلم يحل الحول إلا والجميع قد راجعوا دين الإسلام، ولله الحمد.
قوله: "أُمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله".
وفي حديث ابن عمر: "حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله، ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة[155]"...
إلى أن قال: قال الخطابي: زعم الروافض أن حديث الباب متناقض؛ لأن في أوله أنهم كفروا وفي آخره أنهم ثبتوا على الإسلام إلا أنهم منعوا الزكاة، فإن كانوا مسلمين فكيف استحل قتالهم وسبي ذراريهم؟ وإن كانوا كفارًا فكيف احتج على عمر بالتفرقة بين الصلاة والزكاة؟ فإن في جوابه إشارة إلى أنهم كانوا مُقرِّين بالصلاة.
قال: والجواب عن ذلك: أن الذين نُسبوا إلى الردة كانوا صنفين: صنف رجعوا إلى عبادة الأوثان، وصِنف منعوا الزكاة وتأولوا قوله تعالى: ï´؟ خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ ï´¾ [التوبة: 103]، فزعموا أن دفع الزكاة خاصٌّ به صلى الله عليه وسلم؛ لأن غيره لا يُطهرهم ولا يُصلي عليهم، فكيف تكون صلاته سكنًا لهم؟! وإنما أراد عمر بقوله: تقاتل الناس: الصنف الثاني؛ لأنه لا يتردد في جواز قتل الصنف الأول، كما أنه لا يتردد في قتال غيرهم من عُباد الأوثان والنيران، واليهود والنصارى، قال: وكأنه لم يستحضر من الحديث إلا القدر الذي ذكره.
وقد رواه عبد الرحمن بن يعقوب بلفظ يعم جميع الشريعة، حيث قال فيها: "ويؤمنوا بي وبما جئت به[156]" "1038أ"، فإن مُقتضى ذلك: أن من جحد شيئًا مما جاء به صلى الله عليه وسلم ودُعي إليه فامتنع ونصب القتال أنه يجب قتاله وقَتله إذا أصر.
قال: وإنما عرضت الشبهة لما دخله من الاختصار، وكأن راويه لم يقصد سياق الحديث على وجهه، وإنما أراد سياق مناظرة أبي بكر وعمر، واعتمد على معرفة السامعين بأصل الحديث.
قال الحافظ: وفي هذا الجواب نظر؛ لأنه لو كان عند عمر في الحديث: حتى يقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة، ما استشكل قتالهم؛ للتسوية في كون غاية القتال ترك كل من التلفظ بالشهادتين، وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة.
قال عياض[157]: حديث ابن عمر نصٌّ في قتال من لم يصلِّ ولم يزكِّ، كمن لم يقر بالشهادتين، واحتجاج عمر على أبي بكر، وجواب أبي بكر دلَّ على أنهما لم يسمعا في الحديث الصلاة والزكاة، إذ لو سمعه عمر لم يحتج على أبي بكر، ولو سمعه أبو بكر لرد به على عمر ولم يحتج إلى الاحتجاج بعموم قوله: إلا بحقه.
قال الحافظ: إن كان الضمير في قوله: "بحقه" "للإسلام[158]" فمهما ثبت أنه من حق الإسلام تناوله؛ ولذلك اتفق الصحابة على قتال من جحد "الزكاة"[159].
قوله: "لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة".
والمراد بالفرق: من أقر بالصلاة وأنكر الزكاة، جاحدًا أو مانعًا مع الاعتراف، وإنما أطلق في أول القصة الكفر؛ ليشمل الصنفين، فهو في حق من جحد حقيقة، وفي حق الآخرين مجازًا تغليبًا، وإنما قاتلهم الصديق ولم يعذرهم بالجهل؛ لأنهم نصبوا القتال فجهَّز إليهم من دعاهم إلى الرجوع، فلما أصروا قاتلهم.
قال المازري[160]: ظاهر السياق: أن عمر كان موافقًا على قتال من جحد الصلاة، فألزمه الصديق بمثله في الزكاة؛ لورودهما في الكتاب والسنة موردًا واحدًا.
قوله: "فإن الزكاة حق المال".
يُشير إلى دليل منع التفرقة التي ذكرها أن حق النفس: الصلاة "1038ب" وحق المال: الزكاة، فمن صلى عصم نفسه، ومن زكى عصم ماله، فإن لم يُصل قُوتل على ترك الصلاة، ومن لم يُزك أُخذت الزكاة من ماله قهرًا، وإن نصب الحرب لذلك قوتل، وهذا يوضح: أنه لو كان سمع في الحديث: "ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة"، لما احتاج إلى هذا الاستنباط، لكنه يحتمل أن يكون سمعه واستظهر بهذا الدليل النظري.
قوله: "والله لو منعوني عناقًا".
ووقع في رواية قتيبة عن الليث عند مسلم: عِقالًا[161].
واختلفوا في هذه اللفظة: فقال قوم: هي وهم.
قال عياض[162]: واحتج بذلك من يُجيز أخذ العناق في زكاة الغنم إذا كانت كلها سِخالًا، وهو أحد الأقوال، وقيل: إنما ذكر العناق مبالغة في التقليل...
إلى أن قال: وقيل: العِقال: يُطلق على صدقة عام، ونقل عياض عن ابن وهب: أنه الفريضة من الإبل، وذهب الأكثر على حمل العقال على حقيقته، وأن المراد به: الحبل الذي يُعقل به البعير.
وقال ابن التيمي: والصحيح: أن المراد بالعِقال: ما يُعقل به البعير.
قال: والدليل على أن المراد به المبالغة: قوله في الرواية الأخرى: عناقًا، وفي الأخرى: جديًا.
قال: فعلى هذا: فالمراد بالعقال: قدر قيمته.
قال الحافظ: والراجح: أن العِقال لا يُؤخذ في الزكاة لوجوبه بعينه، وإنما يؤخذ تبعًا للفريضة التي تعقل به، أو أنه قال ذلك مبالغة على تقدير أن لو كانوا يؤدونه إلى النبي صلى الله عليه وسلم. انتهى مُلخصًا.
قوله: "فو الله، ما هو إلا أن رأيت أن قد شرح الله صدر أبي بكر للقتال فعرفت أنه الحق".
قال الحافظ: أي: ظهر له من صحة احتجاجه لا أنه قلَّده في ذلك.
وفي الحديث من الفوائد غير ما تقدم في كتاب الإيمان: الاجتهاد في النوازل وردها إلى الأصول، والمناظرة على ذلك، والرجوع إلى الراجح "1039أ" والأدب في المناظرة بترك التصريح بالتخطئة، والعدول إلى التلطف، والأخذ في إقامة الحجة إلى أن يظهر للمناظر، فلو عاند بعد ظهورها فحينئذ يستحق الإغلاظ بحسب حاله.
وفيه: الحلف على الشيء لتأكيده.
وفيه: منع قتل من قال: لا إله إلا الله، ولو لم يزد عليها وهو كذلك، لكن هل يصير بمجرد ذلك مسلمًا؟
الراجح: لا، بل يجب الكف عن قتله حتى يُختبر، فإن شهد بالرسالة والتزم أحكام الإسلام حُكم بإسلامه، وإلى ذلك الإشارة بالاستثناء بقوله: "إلا بحق الإسلام".
قال البغوي: الكافر إذا كان وثنيًا أو ثنويًا لا يُقر بالوحدانية، فإذا قال: لا إله إلا الله، حُكم بإسلامه ثم يُجبر على قبول جميع أحكام الإسلام، ويبرأ من كل دين خالف دين الإسلام، وأما من "كان[163]" مُقرًا بالوحدانية منكرًا للنبوة فإنه لا يحكم بإسلامه حتى يقول: محمد رسول الله، فإن كان يعتقد أن الرسالة المحمدية إلى العرب خاصة فلا بد أن يقول: إلى جميع الخلق، فإن كان كفر بجحود واجب أو استباحة محرم فيحتاج أن يرجع عما اعتقده، ومقتضى قوله: "يجبر" أنه إذا لم يلتزم تجري عليه أحكام المرتد، وبه صرح القفال...
إلى أن قال: واستدل بها على أن الزكاة لا تسقط عن المرتد.
وتُعقِّب: بأن المرتد كافر، والكافر لا يُطالب بالزكاة، وإنما يطالب بالإيمان، وليس في فعل الصديق حجة لما ذكر، وإنما فيه قتال من منع الزكاة، والذين تمسكوا بأصل الإسلام ومنعوا الزكاة بالشبهة التي ذكروها لم يحكم عليهم بالكفر قبل إقامة الحجة.
يتبع