المسافة التي تقصر فيها الصلاة
محمود علي التلواني
المناقشة والردود:
روي عن علي - رضي الله عنه - أنه خرج من قصره بالكوفة حتى أتى النخيلة فصلى بها الظهر والعصر ركعتين ثم رجع من يومه، فقال: أردت أن أعلمكم سنتكم.
وعن جبير بن نفير، قال: (خرجت مع شرحبيل بن السمط إلى قرية على رأس سبعة عشر ميلا، أو ثمانية عشر ميلا، فصلى ركعتين، فقلت له، فقال: رأيت عمر بن الخطاب يصلي بالحليفة ركعتين، وقال: إنما فعلت كما رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم – يفعل). رواه مسلم.
وروي (أن دحية الكلبي خرج من قرية من دمشق مرة إلى قدر ثلاثة أميال في رمضان، ثم إنه أفطر، وأفطر معه أناس، وكره آخرون أن يفطروا، فلما رجع إلى قريته، قال: والله لقد رأيت اليوم أمرا ما كنت أظن أني أراه، إن قوما رغبوا عن هدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. يقول ذلك للذين صاموا قبل) رواه أبو داود.
وروى سعيد، ثنا هاشم عن أبي هارون العبدي عن أبي سعيد الخدري، قال: (كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا سافر فرسخا قصر الصلاة)[19].
وقال أنس: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم – (إذا خرج مسيرة ثلاثة أميال، أو ثلاثة فراسخ، صلى ركعتين). شعبة الشاك. رواه مسلم. وأبو داود.
واحتج أصحابنا بقول ابن عباس وابن عمر، قال ابن عباس: يا أهل مكة، لا تقصروا في أدنى من أربعة برد من عسفان إلى مكة.
قال الخطابي: وهو أصح الروايتين عن ابن عمر.
ولأنها مسافة تجمع مشقة السفر، من الحل والشد، فجاز القصر فيها، كمسافة الثلاث، ولم يجز فيما دونها؛ لأنه لم يثبت دليل يوجب القصر فيه.
وقول أنس إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان إذا خرج مسيرة ثلاثة أميال، أو ثلاثة فراسخ، صلى ركعتين. يحتمل أنه أراد به إذا سافر سفرا طويلا قصر إذا بلغ ثلاثة أميال.
كما قال في لفظه الآخر: (إن النبي -صلى الله عليه وسلم- صلى بالمدينة أربعًا، وبذي الحليفة ركعتين).
قال المصنف: ولا أرى لما صار إليه الأئمة حجة، لأن أقوال الصحابة متعارضة مختلفة، ولا حجة فيها مع الاختلاف.
وقد روي عن ابن عباس، وابن عمر، خلاف ما احتج به أصحابنا.
ثم لو لم يوجد ذلك لم يكن في قولهم حجة مع قول النبي -صلى الله عليه وسلم- وفعله، وإذا لم تثبت أقوالهم امتنع المصير إلى التقدير الذي ذكروه؛ لوجهين:
أحدهما، أنه مخالف لسنة النبي -صلى الله عليه وسلم- التي رويناها، ولظاهر القرآن؛ لأن ظاهره إباحة القصر لمن ضرب في الأرض، لقوله تعالى: ï´؟ وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ ï´¾ [النساء: 101].
وقد سقط شرط الخوف بالخبر المذكور عن يعلى بن أمية. فبقي ظاهر الآية متناولا كل ضرب في الأرض.
وقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: (يمسح المسافر ثلاثة أيام). جاء لبيان أكثر مدة المسح، فلا يصح الاحتجاج به هاهنا، وعلى أنه يمكنه قطع المسافة القصيرة في ثلاثة أيام، وقد سماه النبي -صلى الله عليه وسلم- سفرا، فقال: (لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تسافر مسيرة يوم إلا مع ذي محرم)[20].
والثاني: أن التقدير بابه التوقيف، فلا يجوز المصير إليه برأي مجرد، سيما وليس له أصل يرد إليه، ولا نظير يقاس عليه[21].
المطلب الرابع: الراجح وسبب الترجيح:
الراجح أن مسافة القصر: والمتبادر من الآية أن أي سفر في اللغة طال أم قصر تقصر من أجله الصلاة وتجمع ويباح فيه الفطر، ولم يرد من السنة ما يقيد هذا الإطلاق.
وقد نقل ابن المنذر وغيره في هذه المسألة أكثر من عشرين قولا ونحن نذكر هنا أصح ما ورد في ذلك:
روى أحمد ومسلم وأبو داود والبيهقي عن يحيى بن يزيد قال: سألت أنس بن مالك عن قصر الصلاة فقال أنس: ((كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا خرج مسيرة ثلاثة أميال أو فراسخ يصلي ركعتين)).
قال الحافظ ابن حجر في الفتح: وهو أصح حديث ورد في بيان ذلك وأصرحه.
والتردد بين الأميال والفراسخ يدفعه ما ذكره أبو سعيد الخدري قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سافر فرسخا يقصر الصلاة.
رواه سعيد بن منصور وذكره الحافظ في التلخيص وأقره بسكوته عنه.
ومن المعروف أن الفرسخ ثلاثة أميال فيكون حديث أبي سعيد رافعا للشك الواقع في حديث أنس ومبينا أن أقل مسافة قصر فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم الصلاة كانت ثلاثة أميال والفرسخ 5541 مترا والميل 1748 مترًا.
وأقل ما ورد في مسافة القصر ميل واحد رواه ابن أبي شيبة بإسناد صحيح عن ابن عمر.
وبه أخذ ابن حزم، وقال محتجا على ترك القصر فيما دون الميل: بأنه صلى الله عليه وسلم خرج إلى البقيع لدفن الموتى وخرج إلى الفضاء لقضاء الحاجة ولم يقصر[22].
الخاتمة:
بسم الله والحمد لله، في الختام عرفنا من خلال هذه الدراسة أنه قد كثُرت أقوال العلماء في تحديد المسافة التي تقصر فيها الصلاة، والراجح "أنَّه لا حدَّ لذلك أصلاً، إلاَّ ما سُمّي سفراً في لغة العرب التي بها خاطبهم عليه السلام، إِذ لو كان لمقدار السفر حدّ غير ما ذكَرنا لما أغفل عليه السلام بيانه البته، ولا أغفلوا هم سؤاله عليه السلام عنه، ولا اتفقوا على تَرْك نقْل تحديده في ذلك إِلينا"[23].
قال شيخ الإِسلام في "الفتاوى" (24/ 12): "وقد تنازع العلماء: هل يختص بسفر دون سفر؟ أم يجوز في كلّ سفر؟ وأظهر القولين أنّه يجوز في كل سفر قصيراً كان أو طويلاً، كما قصر أهل مكة خلف النّبيّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بعرفة ومنى، وبين مكة وعرفة نحو بريد: أربع فراسخ.
المراجع:
1- القرآن الكريم.
2- المعجم الوسيط. المؤلف: مجمع اللغة العربية بالقاهرة. (إبراهيم مصطفى / أحمد الزيات / حامد عبد القادر / محمد النجار). الناشر: دار الدعوة.
3- المفردات في غريب القرآن. المؤلف: أبو القاسم الحسين بن محمد المعروف بالراغب الأصفهاني (المتوفى: 502هـ). المحقق: صفوان عدنان الداودي. الناشر: دار القلم، الدار الشامية - دمشق بيروت. الطبعة: الأولى-1412هـ.
4- المغني لابن قدامة. المؤلف: أبو محمد موفق الدين عبد الله بن أحمد بن محمد بن قدامة الجماعيلي المقدسي ثم الدمشقي الحنبلي، الشهير بابن قدامة المقدسي (المتوفى: 620هـ).
الناشر: مكتبة القاهرة. الطبعة: بدون طبعة. تاريخ النشر: 1388هـ-1968م.
5- بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع. المؤلف: علاء الدين، أبو بكر بن مسعود بن أحمد الكاساني الحنفي (المتوفى: 587هـ). الناشر: دار الكتب العلمية. الطبعة: الثانية، 1406هـ - 1986م.
6- بداية المجتهد ونهاية المقتصد. المؤلف: أبو الوليد محمد بن أحمد بن محمد بن أحمد بن رشد القرطبي الشهير بابن رشد الحفيد (المتوفى: 595هـ). الناشر: دار الحديث - القاهرة الطبعة: بدون طبعة. تاريخ النشر: 1425هـ-2004م.
7- كشاف القناع عن متن الإقناع. المؤلف: منصور بن يونس بن صلاح الدين بن حسن بن إدريس البهوتي الحنبلي (المتوفى: 1051هـ). الناشر: دار الكتب العلمية.
8- فقه السنة. المؤلف: سيد سابق (المتوفى: 1420هـ).
9- لسان العرب. المؤلف: محمد بن مكرم بن منظور الأفريقي المصري. الناشر: دار صادر – بيروت. الطبعة الأولى.
[1] طه / 114.
[2] النساء: 101.
[3] أخرجه أحمد والترمذي وقال: حديث حسن صحيح، وانظر "الإِرواء" (3/ 6).
[4] أخرجه مسلم: 686، وهذا قد أفاد الوجوب عند أبي حنيفة وكثيرين، ويرى الشافعي ومالك أفضلية القصر وجواز الإِتمام وانظر "شرح النووي" (5/ 694).
[5] أخرجه البخاري: 3935، ومسلم: 685.
[6] أخرجه الطحاوي في "معاني الآثار" وغيره وانظر تفصيله في "الصحيحة": (2814).
[7] المعجم الوسيط، لمجمع اللغة العربية. (2/738).
[8] لسان العرب، لابن منظور. (5/95).
[9] المفردات في غريب القرآن، للراغب الأصفهاني (المتوفى: 502هـ). (673)، والمغني لابن قدامة. (2/188).
[10] البدائع 1 / 93، وبداية المجتهد 1 / 162.
[11] أخرجه مسلم (1 / 232 - ط. الحلبي).
[12] بدائع الصنائع، للكاساني 1 / 93، وبداية المجتهد، لابن رشد 1 / 162.
[13] بدائع الصنائع، للكاساني 1 / 93، 94، والمهذب، للشيرازي 1 / 102.
[14] أخرجه الدارقطني (1 / 387 ط دار المحاسن) من حديث ابن عباس، وضعف إسناده ابن حجر في التلخيص (2 / 46 ط شركة الطباعة الفنية).
[15] كشاف القناع، للبهوتي 1 / 325.
[16] أخرجه مسلم (1 / 232 - ط. الحلبي).
[17] أخرجه مسلم (2 / 975 - ط. الحلبي) من حديث ابن عمر.
[18] بدائع الصنائع، للكاساني 1 / 93، 94.
[19] مصنف ابن أبي شيبة. رقم (8113).
[20] صحيح البخاري رقم (1038).
[21] المغني، لابن قدامة. (2/189).
[22] فقه السنة، للسيد سابق. (1/284).
[23] ذكره الشيخ عبد العظيم في "الوجيز" (ص 138).