المسافة التي تقصر فيها الصلاة
محمود علي التلواني
مقدمة:
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهده الله فهو المهتدي ومن يضلل فلا هادي له وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمدًا عبده ورسوله.
أما بعد، فإن خير الكلام كلام الله تعالى وخير الهدى هدى محمد -صلى الله عليه وسلم- وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار.
فإن من أجل القرب والطاعات التي ينبغي للمسلم السعي فيها، والمسارعة إليها والازدياد منها؛ الاشتغال بعلوم الشريعة الغراء، مع حسن النية، سائرا في ذلك على منهاج النبوة المحمدية، ومقتفيًا آثار السلف العلية.
قال الحق جل في علاه: ﴿ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا ﴾ [طه: 114][1].
أما بعد:
قال الله تعالى: ﴿ وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا ﴾ [النساء: 101][2].
ولولا ورود ما يأتي من النصوص لقال العلماء بتقييد القصر بالخوف.
فعن ابن سيرين عن ابن عبّاس: (أنَّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سافر من المدينة لا يخاف إلاَّ الله عزّ وجلّ، فصلّى ركعتين حتى رجع)[3].
وعن يعلى بن أميّة قال: (قلت لعمر بن الخطاب: ﴿ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا ﴾ [النساء: 101] فقد أمِنَ النّاس! فقال: عجبتُ ممّا عجبتَ منه. فسألتُ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن ذلك فقال: صدقةٌ تصدّق الله بها عليكم، فاقبلوا صدقته)[4].
وعن عائشة زوج النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قالت: (فرض الله الصلاة، حين فرضها ركعتين ثمَّ أتمّها في الحضر، فأُقرّت صلاة السفر على الفريضة الأولى)[5].
وعنها -رضي الله عنها- قالت: (أولُ ما فُرضت الصلاة ركعتين ركعتين، فلمّا قدم - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - المدينة صلى إِلى كلِّ صلاةٍ مثلها غير المغرب؛ فإِنّها وتر النهار، وصلاة الصبح لطول قراءتها، وكان إِذا سافر عادَ إِلى صلاته الأولى)[6].
أهمية الموضوع:
1- كثُرة أقوال العلماء في تحديد المسافة التي تقصر فيها الصلاة.
2- جهل كثير من الناس بهذه المسألة فتجده لا يقصر إلا في المسافة الكبيرة.
المبحث الأول: تعريف القصر لغةً واصطلاحًا:
المطلب الأول: لغةً:
(قصر) عن الأمر قصورًا عجز، وكف عنه والسهم عن الهدف لم يبلغه والطعام نقض وغلا والنفقة بالقوم لم تبلغ بهم مقصدهم، والشيء قصرًا أخذ من طوله فجعله أقل طولًا والقيد ضيقه ويقال: قصر له من قيده قارب والصلاة، ومنها صلى ذات الأربع الركعات اثنتين بحسب ترخيص الشرع والشعر قص منه شيئًا ولم يستأصله[7].
وفي اللسان قصر: القصر والقصر في كل شيء: خلاف الطول؛ أنشد ابن الأعرابي:
عادت محورته إلى قصر.
قال: معناه إلى قصر، وهما لغتان. وقصر الشيء، بالضم، يقصر قصرًا: خلاف طال؛ وقصرت من الصلاة أقصر قصرًا. والقصير: خلاف الطويل.
وفي حديث سبيعة: نزلت سورة النساء القصرى بعد الطولى[8].
المطلب الثاني: اصطلاحًا:
قصر القصر: خلاف الطول، وهما من الأسماء المتضايفة التي تعتبر بغيرها، وقصرت كذا: جعلته قصيرًا، والتقصير: اسم للتضجيع، وقصرت كذا: ضممت بعضه إلى بعض، ومنه سمي القصر، وجمعه: قصور. قال تعالى:
﴿ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ ﴾ [الحج: 45]، ﴿ وَيَجْعَلْ لَكَ قُصُورًا ﴾ [الفرقان: 10]، ﴿ إِنَّهَا تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ ﴾ [المرسلات: 32]، وقيل: القصر أصول الشجر، الواحدة قصرة، مثل: جمرة وجمر، وتشبيهها بالقصر كتشبيه ذلك في قوله:
﴿ كَأَنَّهُ جِمَالَتٌ صُفْرٌ ﴾ [المرسلات: 33]، وقصرته جعلته: في قصر، ومنه قوله تعالى:
﴿ حُورٌ مَقْصُورَاتٌ فِي الْخِيَامِ ﴾ [الرحمن: 72]، وقصر الصلاة: جعلها قصيرة بترك بعض أركانها ترخيصًا. قال: ﴿ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ ﴾ [النساء: 101]، وقصرت اللقحة على فرسي: حبست درها عليه، وقصر السهم عن الهدف، أي: لم يبلغه، وامرأة قاصرة الطرف: لا تمد طرفها إلى ما لا يجوز. قال تعالى: ﴿ فِيهِنَّ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ ﴾ [الرحمن/ 56]. وقصر شعره: جز بعضه، قال: ﴿ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ ﴾ [الفتح: 27]، وقصر في كذا، أي: توانى، وقصر عنه لم: ينله، وأقصر عنه: كف مع القدرة عليه، واقتصر على كذا: اكتفى بالشيء القصير منه، أي: القليل، وأقصرت الشاة: أسنت حتى قصر أطراف أسنانها، وأقصرت المرأة: ولدت أولادا قصارًا، والتقصار: قلادة قصيرة، والقوصرة معروفة[9].
المبحث الثاني: المسافة التي تقصر فيها الصلاة:
المطلب الأول:تحرير محل النزاع:
اختلف أهل العلم في تقدير مسافة القصر.
فذهب المالكية والشافعية والحنابلة والليث والأوزاعي:
إلى أن أقل مدة السفر مسيرة يومين معتدلين بلا ليلة، أو مسيرة ليلتين معتدلتين بلا يوم، أو مسيرة يوم وليلة.
وذلك؛ لأنهم قدروا السفر بالأميال، واعتبروا ذلك ثمانية وأربعين ميلًا، وذلك أربعة برد، وتقدر بسير يومين معتدلين[10].
وذهب الحنفية إلى أن أقل مسافة السفر مسيرة ثلاثة أيام ولياليها، لما روي عن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - أنه سئل عن المسح على الخفين فقال: (جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثة أيام ولياليهن للمسافر ويوما وليلة للمقيم)[11].
المطلب الثاني: الأقوال:
أقل هذه المسافة مقدر عند عامة العلماء، ولكنهم اختلفوا في التقدير.
القول الأول:
ذهب المالكية والشافعية والحنابلة والليث والأوزاعي: إلى أن أقل مدة السفر مسيرة يومين معتدلين بلا ليلة، أو مسيرة ليلتين معتدلتين بلا يوم، أو مسيرة يوم وليلة[12].
القول الثاني:
ذهب الحنفية إلى أن أقل مسافة السفر مسيرة ثلاثة أيام ولياليها.
وقد استحب ذلك الإمام الشافعي للخروج من الخلاف[13].
والعبرة بالسير هو السير الوسط، وهو سير الإبل المثقلة بالأحمال، ومشي الأقدام على ما يعتاد من ذلك، مع ما يتخلله من نزول واستراحة وأكل وصلاة.
ويحترز بالسير الوسط عن السير الأسرع، كسير الفرس والبريد، وعن السير الأبطأ، كسير البقر يجر العجلة، فاعتبر الوسط؛ لأنه الغالب.
والسير في البحر يراعى فيه اعتدال الرياح؛ لأنه هو الوسط، وهو ألا تكون الرياح غالبة ولا ساكنة، ويعتبر في الجبل ما يليق به، فينظر كم يسير في مثل هذا مسافة القصر فيجعل أصلا، وذلك معلوم عند الناس فيرجع إليهم عند الاشتباه.
المطلب الثالث:أدلة الأقوال والمناقشة والردود:
دليل القول الأول:
قدروا السفر بالأميال، واعتبروا ذلك ثمانية وأربعين ميلا، وذلك أربعة برد، وتقدر بسير يومين معتدلين.
واستدلوا بأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يا أهل مكة: لا تقصروا الصلاة في أدنى من أربعة برد، من مكة إلى عسفان)[14]؛ ولأن ابن عمر وابن عباس كانا يقصران ويفطران في أربعة برد فما فوقها، ولا يعرف لهما مخالف، وأسنده البيهقي بسند صحيح، مثل هذا لا يكون إلا عن توقيف، وعلقه البخاري بصيغة الجزم، وقال الأثرم: قيل لأبي عبد الله: في كم تقصر الصلاة؟ قال: في أربعة برد، قيل له: مسيرة يوم تام؟ قال: لا، أربعة برد: ستة عشر فرسخا: مسيرة يومين. وقد قدره ابن عباس من عسفان إلى مكة مستدلا بالحديث السابق[15].
دليل القول الثاني:
ما روي عن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه – (أنه سئل عن المسح على الخفين فقال: جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثة أيام ولياليهن للمسافر ويوما وليلة للمقيم)[16]، فقد جعل النبي صلى الله عليه وسلم لكل مسافر أن يمسح ثلاثة أيام ولياليها، ولن يتصور أن يمسح المسافر ثلاثة أيام ولياليها، ومدة السفر أقل من هذه المدة.
وكذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تسافر مسيرة ثلاث ليال إلا ومعها محرم)[17]، فلو لم تكن المدة مقدرة بالثلاث لم يكن لتخصيص الثلاث معنى[18].
يتبع