في مكاتبة الحسن البصري الخلفاء ومعاملاته مع الأمراء وولاة الأمور
د. أحمد عبدالوهاب الشرقاوي
روي عنه - رحمه الله - أنه كان يقول: إن الله - سبحانه وتعالى - أخذ على الخلفاء والأمراء والحكام ثلاثة أشياء، فمن أوفى بعهد الله منهم نجا، ومن قصر هلك، أخذ عليهم: ألا يتَّبعوا الهوى، ولا يخشوا الناس ويخشوه، وألا يشتروا بآياته ثمنًا قليلاً.
وكان إذا ذكر الملوك قال: لا تنظروا إلى شرف عيشِهم، ولين رياشِهم؛ ولكن انظروا إلى سرعة ظعنِهم، وسوء منقلبِهم.
واتصل به عن بعضهم: أنه كان يأكل الخَشِنَ، ويلبس الدنيءَ من الثياب، فقال: يا ويحه! علامَ جُبِي له من الخراج، وملك من أطراف البلاد؟ فقالوا: إنه يفعل ذلك بُخلاً، فقال: الحمد الله الذي حرَمَه من دنياه ما لأجله ترك دينه.
وكان يقول: إذا أراد الله بقوم شرًّا، جعل أمراءَهم سفهاءَهم، وفيئَهم[1] عند بُخلائِهم.
وكان يقول: لقد حُدِّثتُ عن بعض الصحابة رضوان الله عليهم أنه كان يقول: إن من أشراط الساعة أن يكون في الأرض أمراءُ فجرةٌ، ووزراء كَذَبة، وأمناءُ خونة، وعلماءُ فَسَقَة، وعرفاء[2] ظَلَمة، وإني لأتخوف أن يكون وقتَنا هذا.
وقيل: أحضر النضرُ بن عمرو[3] - وكان واليًا على البصرة - الحسنَ يومًا، فقال: يا أبا سعيد، إن الله - عز وجل - خلق الدنيا وما فيها من رياشها وبهجتها وزينتها، لعباده، وقال - عز وجل -: ﴿ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ ﴾ [الأعراف: 31]، وقال - عز من قائل -: ﴿ قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ﴾ [الأعراف: 32]، فقال الحسن: أيها الرجل، اتق الله في نفسك، وإياك والأمانيَّ التي ترخصت فيها؛ فتهلك، إن أحدًا لم يُعطَ خيرًا من خير الدنيا، ولا من خير الآخرة بأمنيته، وإنما هي داران، من عَمِل في هذه، أدرك تلك، ونال ما قُدِّر له منها، ومن أهمل نفسه، خسرهما جميعًا، إن الله سبحانه اختار محمدًا صلى الله عليه وسلم لنفسه، وبعثه برسالته ورحمته، وجعله رسولاً إلى كافة خلقه، وأنزل عليه كتابًا مهيمنًا، وحد له في الدنيا حدودًا، وجعل له فيها أجلاً، ثم قال - عز وجل -: ﴿ لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ ﴾ [الممتحنة: 6]، وأمرنا أن نأخذ بأمره، ونهتدي بهديه، وأن نسلك طريقته، ونعمل بسنته، فما بلغنا إليه، فبفضله ورحمته، وما قصَّرنا عنه، فعلينا أن نستعين ونستغفر، فذلك باب مخرجنا، وأما الأمانيُّ، فلا خير فيها، ولا في أحد من أهلها، فقال النضر: يا أبا سعيد، إن الله - عز وجل - قدَّر علينا ما شاء، وإنا لنحب ربَّنا.
فقال الحسن: لقد قال ذلك قوم على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله تعالى عليه: ﴿ قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّه ﴾ [آل عمران: 31]، فجعل سبحانه اتباعه - عليه السلام - علمًا للمحبة، وأكذَبَ من خالف ذلك، فاتقِ اللهَ يا أيها الرجل في نفسك، وايم الله! لقد رأيت أقوامًا، كانوا قبلك في مكانك يعلون المنابر، وتُهزُّ لهم المراكب، ويجرُّون الذيول بطرًا ورئاءَ الناس، يبنون المدر[4]، ويؤثرون الأثر[5]، ويتنافسون في الثياب، أُخرِجوا من سلطانهم، وسُلِبوا ما جمعوا من دنياهم، وقدموا على ربهم، فنزلوا على أعمالهم، فالويل لهم، والويل لهم يوم التغابن[6]! ويا ويحهم! ﴿ يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ * لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ ﴾ [عبس: 34 - 37].
وقيل: دخل عليه يومًا آخر، فقال: أيها الأمير- أيدك الله - إن أخاك من نصَحك في دينك، وبصَّرك عيوبَك، وهداك إلى مراشدك، وإن عدوك من غرَّك ومنَّاك.
أيها الأمير، اتق الله؛ فإنك أصبحت مخالفًا للقوم في الهدي والسيرة، والعلانية والسريرة، وأنت مع ذلك تتمنى الأماني، فترجح في طلب العذر.
والناس - أصلحك الله – طالبان: فطالبُ دنيا، وطالب آخرة.
وايم الله! لقد أدرك طالب الآخرة واستراح، وتعب الآخر وحُرِم، فاحذر أيها الأمير أن تسعى لطلب الفاني، وتترك الباقي، فتكون من النادمين.
واعلم أن حكيمًا قال:
أين الملوك التي عن حظها غفلت ** حتى سقاها بكأس الموت ساقيها؟[7]
نعوذ بالله من الحَوْرِ بعد الكَوْرِ، ومن الضلالة بعد الهدى.
لقد حُدِّثتُ أيها الأمير عن بعض الصالحين أنه كان يقول: كفى المرءَ جنايةً أن يكون للخونة أمينًا، وعلى أعمالهم معينًا.
وقيل لآخر فقير: ألا تذهب إلى السلاطين، فتصيبَ من خيرهم؟ فقال: نعوذ بالله مما يكرَهُ تعالى؛ لأن أموت مؤمنًا مهزولاً؛ أحب إليَّ من أن أموت منافقًا سمينًا.
وأحضر ابنُ هُبَيْرةَ[8] الحسنَ والشَّعْبيَّ، فقال لهما: أصلحكما الله، إن أمير المؤمنين يزيد بن عبدالملك[9] يكتب إليَّ كتبًا، أعرف في تنفيذها الهَلَكَة، فأخاف إن أطعته غضب الله، وإن عصيته لم آمَنْ سطوتَه، فما تريان لي؟ فقال الحسن للشعبي: يا أبا عمرو، أجِب الأمير، فرفق له في القول، وانحطَّ في هوى ابن هُبَيْرةَ.
وكان ابن هُبَيْرةَ لا يستشفي دون أن يسمع قولَ الحسن، فقال: قل ما عندك يا أبا سعيد، فقال الحسن: أوَليس قد قال الشعبي؟ فقال ابن هُبَيْرةَ: ما تقول أنت؟ فقال: أقول - واللهِ - يوشك أن ينزِلَ بك ملكٌ من ملائكة الله، فظٌّ غليظ لا يعصي اللهَ ما أمره، فيُخرجك من سَعة قصرك، إلى ضيق قبرك، فلا يغني عنك ابنُ عبدالملك شيئًا، فبكى عمر بنُ هبيرة بكاءً شديدًا، وأجزل جائزة الحسن، وقصَّر في جائزة الشعبي.
ثم خرج الشعبي إلى المسجد، فلما اجتمع أهل مجلسه، قال: أيها الناس، من استطاع منكم أن يؤثر الله - عز وجل - على خلقه، فليفعل؛ إن الأمير ابن هبيرة أرسل إليَّ وإلى الحسن، فوالذي نفسي بيده! ما علم الحسنُ شيئًا جهلته، ولكن راعيتُ ابنَ هُبَيْرةَ، وأردت رضاه، وقصَّرت في قولي له، فأقصاني الله وأبعدني، وكان الحسن مع الله - عز وجل - فقرَّبه وأدناه، وسخَّر ابن هُبَيْرَة فآثره وحَبَاه.
وقيل: خرج الحسن يومًا من عند ابن هبيرة، فإذا هو بالقراء على بابه، فقال: ما جاء بكم هاهنا؟ لا كثر الله جمعكم، تريدون الدخول على هؤلاء الجَرْبَى! فوالله ما مخالطتهم مخالطة الأبرار، ولا مجالسهم مجالس الأخيار، تفرَّقوا فرَّق الله بين أرواحكم وأجسادكم، ولا كثر الله في المسلمين مثلكم، حذوتُم نعالكم، وشمرتم ثيابكم، وجزَرْتم رؤوسَكم، وكحلتم أعينكم، فكنتم شر عصابة، حلقوا الشوارب للطمع، فضحتم القراء، لا جمع الله شملكم.
أمَا - والله - لو زهدتم فيما عندَهم، لرغبوا فيما عندكم، فأبعد الله من أبعد، وما أحسبَه غيرَكم، ثم انصرف مغضبًا.
وروي أن الحجاج بنى دارًا بواسط[10]، وأحضر الحسنَ ليراها، فلما دخلها، قال: الحمد لله، إن الملوك ليرون لأنفسهم عزًّا، وإنا لنرى فيهم كل يوم عبرًا، يَعمِدُ أحدهم إلى قصر فيشيِّده، وإلى فرش فينجده، وإلى ملابس ومراكب فيحسِّنها، ثم تحفُّ به ذئاب طمع، وفراش نار، وأصحاب سوء، فيقول: انظروا ما صنعت. فقد رأينا أيها المغرور! فكان ماذا يا أفسق الفاسقين؟! أما أهل السموات، فقد مقتوك، وأما أهل الأرض، فقد لعنوك، بنَيْتَ دار الفناء، وخرَّبتَ دار البقاء، وعززت في دار الغرور، لتذل في دار الحُبور، ثم خرج وهو يقول: سبحانه أخذ عهده على العلماء ليبيننه للناس ولا يكتمونه. وبلغ الحجاج ما قال، فاشتد غضبه، وجمع أهل الشام، فقال: يشتمني عبيد أهل البصرة وأنتم حضور، فلا تنكرون! ثم أمر بإحضار الحسن، فجاء وهو يحرك شفتيه بما لم يسمع، حتى دخل على الحجاج، فقال: يا أبا سعيد، أمَا كان لإمارتي عليك حق حين قلت ما قلت؟ فقال: يرحمك الله أيها الأمير؛ إن مَن خوَّفك حتى تبلغ أمنك أرفقُ بك وأحبُّ فيك ممن أمَّنك حتى تبلغ الخوف، وما أردت الذي سبق إلى وَهمك، والأمران بيدك: العفو والعقوبة، فافعل الأَوْلَى بك، وعلى الله فتوكل، وهو حسبنا ونعم الوكيل. فاستحيا الحجاج منه، واعتذر إليه، فأكرمه وحباه.
وقيل: جاء رجل من الشُّرَطِ كان على هنأة إلى الحسن، فقال: عزمت على ترك النبيذ، فقال الحسن: هلاَّ بدأت بترك ما هو أولى بك، أخِّر التوبة من النبيذ حتى يكون هو شر عملك، وحينئذٍ فتب منه.
وقيل: سمع الحسن رجلاً من أصحاب الحجاج يذكر عليًّا - عليه السلام - بسوءٍ، فقال: لقد استوجبَها، فقال الرجل: النار يا أبا سعيد؟ فقال: نعم! وبئس المصير، قال: فهل توبة عافاك الله؟ فقال الحسن: ثكِلتْك أمُّك! وهل لك إن لم تتب بعذاب الله من طاقة؟! إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين.
قيل: لما ولي ابنُ أرطأةَ[11] البصرة، عزم على أن يولي الحسن القضاء، فهرب الحسن واستتر، وكتب إليه: أما بعد: أيها الأمير، فإن الكارهَ للأمر غيرُ جدير بقضاء الواجب فيه، وإن العامل للعمل بغير نية حقيق ألا يعان عليه، ولك في المختارين للأمر الذي دعوتني إليه كفاية وقناعة، وقصدك إيَّاهم، وتعويلك عليهم: أولى بك، وأصون لعملك، وإنه لا خير في الاستعانة بمن لا يرى أن العمل الذي يُدْعَى إليه واجب عليه، ولا فرض لازم له، فعافني أيها الأمير عافاك الله، وأحسن إليَّ بترك التعرض لي؛ فإن الله لا يضيع أجر من أحسن عملاً. فأعفاه، وأكرمه، وقال: والله ما كنت لأبتليَه بما يكرهُه.
روي أن عمر بن عبدالعزيز - رحمه الله - كتب إلى الحسن: اكتب إليَّ يا أبا سعيد بموعظة وأوجز، فكتب إليه:
أما بعد: يا أميرَ المؤمنين، فكأن الذي كان لم يكن، وكأن الذي هو كائن قد نزل، واعلم يا أمير المؤمنين أن الصبر وإن أذاقك تعجيلَ مرارته، فلنعم ما أعقبك من طيب حلاوته، واعلم يا أمير المؤمنين، أن الفائز مَن حرص على السلامة في دار الإقامة، وفاز بالرحمة فأُدخل الجنة.
يتبع