عرض مشاركة واحدة
  #2  
قديم 05-02-2020, 04:07 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 159,873
الدولة : Egypt
افتراضي رد: الشيخ محمد بن عبدالوهاب في التاريخ

الشيخ محمد بن عبدالوهاب في التاريخ
أ. د. عبدالحليم عويس



ثم يتعرض للمتصوف الحقيقي، فيصفه بقوله:
واعلم بأن الولي الرباني
لتابع السنة والقرآن

والفرق بين الإفك والصواب
يعرف بالسنة والكتاب

والشرع ميزان الأمور كلها
وشاهد بفرعها وأصلها

والشرع نور الحق منه قد بدَا
فانفجرت منه ينابيع الهدى


ثم ينتقل إلى وصف حالة البلاد إذ ذاك، فيقول:
هذا زمان كثُرت فيه البدع
واضطربت عليه أمواج الخدع

وخسفت شمس الهدى وأفلت
من بعد ما قد بزغت وكملت


وقد حظيت هذه المنظومة بشروح قيمة، أهمها شرح الحسين الورتلاني صاحب الرحلة؛ لأنه ألقى فيه أضواء على حالة المجتمع الجزائري، وأحصى تأثير العادات السيئة التي أُلصقت بالدين.

وعلى خطى (الأخضري)، ظهر أعلام آخرون عزَّزوا الاتجاه السلفي، وذلك خلال القرنين الحادي عشر والثاني عشر للهجرة، ومنهم الشيخ عبدالكريم بن الفكون القسنطيني المتوفي سنة1073هـ، وصاحب كتاب (منشورات الهداية في كشف حال من ادَّعى العلم والولاية)، وهو كتاب من أحسن ما ألَّف في بابه، بل فريد في بابه؛ كما يقول الشيخ البوعبدلي، وهو يُبيِّن هدفه من الكتاب في مقدمته، فيقول: "أما بعد، فلما رأيت الزمان بأهله تعثَّر، وسفائن النجاة من أمواج البدع تنكسِر، وسحائب الجهل خسيسًا، وصاحب أهل الطريقة قد أصبح وأعلام الزندقة على رأسه لائحة، وروائح السلب والطرد من المولي فائحة".

وقد ظهر خلال العصر بعض (المنظومات) التي اقتفَت أثر منظومة الأخضري (القدسية) كمنظومة عبدالرحمن بن محمد على المجاجي، وظهرت بمستغانم منظومة الشيخ محمد بن حواء من علماء القرن الثاني عشر، وقد سماها "سبيكة العقيان فيمن حل بمستغانم وأحوازها من الأعيان"، تعرض فيها لتراجم علماء الجزائر، وتكلم عن البدع المنتشرة.

ثم ظهرت رسالة الشيخ/ محمد بن عبدالله الجلالي، كتبها إلى زميله في الدراسة بفاس الشيخ/ أحمد التيجاني (انظر المرجع السابق)، مؤسس الطريقة التيجانية عندما أبلغه أنه بصدد إنشاء الطريقة التيجانية، فأرسل إليه ينهاه ويحذره من مغبة ذلك، وينصحه بالاقتداء بالسلف الصالح والبعد عن الطريقة، لكن ذلك لم يكن له تأثير في الشيخ التيجاني، ومضى في سبيله!!

ونحن نستطيع بعد هذا الذي أوردناه أن نقول: إن ثمة حقيقة مؤكدة هي أن كل هذه الجهود التي بذلت في الجزائر لعودة المسلمين إلى الإسلام الصحيح، حتى نهاية القرن الثاني عشر للهجرة، والتي ألمحنا إلى بعضها كانت أشبه بجهود فردية، ولم تصل إلى مستوى (التيار العام) المؤثر، بل إن العكس هو الصحيح، فالتيار العام المؤثر والشائع كان تيار الطريقة الصوفية، والخرافات والبدع، والاستغاثة والتوسل والشفاعة لغير الله، والتعصُّب المغالَى فيه لمذهب الإمام مالك، لدرجة أن المغرب كله يكاد يخلو من المذاهب الأخرى، ومن المجتهدين المتصلين اتصالاً مباشرًا بفقه القرآن والسنة.

ونتيجة للسيطرة الطاغية التي يتمتع بها الصوفية، وغيرهم من المبتدعة، كان أكثر المصلحين الذين ظهروا خلال القرون المنصرمة يميلون إلى لون من (الإصلاح)، لا يذهب بهم إلى درجة الصراع المباشر الواضح مع الصوفية، فكان بعضهم يَعمِد إلى القول بأنه إنما يريد تنقية الطرق الصوفية وتقويمها، وقد ألف (أحمد زورق) - الذي تحدثنا عنه - كتبًا من هذا القبيل (قواعد التصوف)، و(أصول الطريقة)، وكتاب البدع، كما أن عبدالرحمن الأخضري نفسه صاحب المقطوعات الطويلة في تصحيح العقيدة ومقاومة البدع، يورد نظمًا نحس منه كأنه يستميل الصوفية، فيقول:
وقال بعض السادة الصوفية
مقالة جليلة صفِية

إذا رأيت رجلا يطيرُ
أو فوق ماء البحر قد يسيرُ

ولم يقف عند حدود الشرعِ
فإنه مستدرج وبدعيْ


وفي إطار هذا المستوى من الفردية والإصلاح الجزئي المحدود، يجب أن نضع كل المحاولات التي سبقت تيار السلفية العام القوي الذي سيطر على الجزائر، ممثَّلاً في جيل جمعية العلماء المسلمين الجزائريين، وفيمن سبقه من روَّاد مهَّدوا له بعد أن تأثَّروا بالدعوة الإصلاحية التي قامت في جزيرة العرب.

دخول حركة الشيخ محمد بن عبدالوهاب إلى الجزائر:
مع تلك التخوم التي تفصل بين القرنين الثاني عشر والثالث عشر للهجرة بدأت إشعاعات حركة الإصلاح في الجزيرة تنفذ إلى الجزائر عبر منافذ متعددة سوف نتعرض لها بالبحث.

وكان أول من حمل الدعوة إلى الجزائر المؤرخ الجزائري (أبو رواس الناصري)؛ (الأصالة عدد (53) الشيخ المهدي البو عبدلي)، الذي قدر له أن يجتمع بتلاميذه الإمام محمد بن عبدالوهاب في موسم الحج، ويذاكرهم في أمور انتهى بعدها إلى الاقتناع باتجاه حركة الشيخ ابن عبدالوهاب، وكان ذلك بحضور وفد الحجيج المغربي الذي كان يرأسه ولي عهد المغرب آنذاك.

وقد أشاد المؤرخ (أبو رواس) بآراء ابن عبدالوهاب عندما دون تفاصيل رحلته للحج بعد عودته إلى الجزائر.

والحق أنه بعد (أبي رواس) كان من الممكن أن تَنفُذ حركة الشيخ محمد بن عبدالوهاب إلى الجزائر في النصف الأول من القرن الثالث عشر للهجرة من طرق أقوى وأفسح مجالاً، إلا أن تطورت الظروف على النحو الذي أدَّى إلى وقوع الجزائر تحت قبضة الاحتلال الفرنسي سنة 1246هـ (1830م) حال دون ذلك.

نقول: إنه كان من الممكن حدوث ذلك التأثير لولا هذا الحدث الكئيب، بل إننا لنعتقد أن ذلك كان أمرًا توجبه طبيعة الأمور، ولا سيما أن تلك الحركة التجديدية الكبرى التي أصبحت تنتسب إلى ليبيا، وهي الحركة السنوسية، كانت حركة جزائرية الأصل، فإن إمام هذه الحركة السيد/ محمد بن على السنوسي الخطابي، إنما هو جزائري وُلِد في بلدة مستغانم بالغرب الجزائري سنة 1202هـ (1787م) - ولولا أن العثمانيين - من جانب - قد تربَّصوا به، وراقبوه على امتداد الحواضر المغربية كلها، ثم ظهر الفرنسيون منذ 1246هـ فتربصوا به، وبكل حركة تجديد- من جانب آخر- لولا هذا لكان أمرا طبيعيا أن تكون الجزائر هي محضن الحركة السنوسية ولما اضطر السيد السنوسي إلى اللجوء إلى الصحراء، وإلى واحة جغبوب من أرض ليبيا.

وأن التشابه في كثير من الأُسس بين حركتي الشيخ محمد بن عبدالوهاب والسيد محمد السنوسي، لا يحتاج إلى دليل، فالدعوتان - كما يقول الأستاذ العقاد: "تتشابهان في حماسة الدعوات، وفي نبذ البدع والخُرافات والرجوع بالإسلام إلى الكتاب والسنة، ولكنهما تختلفان بعد ذلك في أمور كثيرة؛ (الإسلام في القرن العشرين ص 81، طبع نهضة مصر).

أمَّا تعرف السيد السنوسي على الدعوة الوهابية، فقد تَمَّ له حين جاب بعض بلدان العالم الإسلامي؛ كالمغرب، ومصر، وتونس، وحين ذهب لأداء فريضة الحج؛ (انظر المهدية مريم المجدلية: الإسلام بين النظرية والتطبيق، ص 106 بمكتبة الفلاح بالكويت ومحمد السلمان: رشيد رضا 66 (ماجستير) بكلية العلوم الاجتماعية)؛ "حيث بقِي مدة يأخذ من أساتذتها الوهابيين"؛ (ستودارد: حاضر العالم الإسلامي 1/259، وانظر كمال جمعة: انتشار دعوة الشيخ محمد بن عبدالوهاب 216).

ومع ذلك فنحن لم نعدم أن نجد في الجزائر - خلال القرن الثالث عشر - بالرغم من كل الظروف التي وقعت تحتها إشعاعات سلفية نفَذت؛ إما عن طريق الاتصال بمدرسة الشيخ محمد بن عبدالوهاب في الجزية مباشرة، وإما عن طريق تأثير الدعوة السنوسية الجزائرية الأصل والقريبة من الحدود، وإما عن طريق الجامعة الزيتونية التي تعلم فيها كثير من الجزائريين، وقد ظهرت في قسنطينة بالشرق الجزائري - خلال هذا القرن حملة ضد البدع والخرافات، وكان مركزها (نادي صالح باي)، الذي ألقى فيه بعد تأسيسه مباشرة الشيخ (ابن الموهوب) سلسة محاضرات ضد الخرفات والبدع.

كما ظهر بقسنطينة أيضًا العالم السلفي الشهير (صالح بن مهنا) الذي كان قد تخرج من الزيتونة بتونس والأزهر بالقاهرة، وبعد رجوعه انتصب للتدريس بمدينة قسنطينة، وكتب رسالة يهاجم فيها شيوخ الطرق الذين يسميهم الناس (الأشراف)، حينما بالغ في تعظيمهم بعض المنحرفين، وسمَّى رسالته: "تنبيه المغتربين في الرد على إخوان الشياطين"، ومما جاء في رسالته عن هؤلاء الأشراف: "أن من خالف السنة والشرع غير معتبر، ولو كان مُدَّعيًا للصلاح أو الشرف أو العلم".

وأن الشريف الفاسق لا يعتبر حتى ولو أنكر ذلك بعض الأرذال ممن قرأ مستلتين، ونعلم باب مسح الخفين"!؛ (البو عبدلي مرجع سابق 31).

وقد أحدث صالح بن مهنا وكتابه ضجةً كبيرة، وثارت عليه طائفة المتصوفة والدجالين، وألَّفوا في الرد عليه الرسائل والكتب، وسبُّوه بقصائد كثيرة.

طريق الجزائر إلى الإسلام الصحيح:
وفي سنة 1264 هـ (1847م) استسلم الأمير عبد القادر الجزائري بعد مقاومة للاحتلال الفرنسي استمرت سبعة عشر عاما، ضرب فيها أروع أمثلة البطولة الإسلامية التي أعادت ذكرى بطولات المسلمين الأول من فاتحي إفريقية والمغرب، وتحمل فيها من المشاق ما نوه به المؤرخون الفرنسيون أنفسهم.

وباستسلام الأمير عبدالقادر فرضت فرنسا أبشع إجراءات الاضطهاد، وأقسى أنواع الملاحقة للإسلام الصحيح واللغة العربية، وبذَلت جهودًا كبيرة في سبيل طمْس معالم الحضارة الإسلامية في الجزائر؛ سواء بواسطة المبشرين النصارى، أو بواسطة إجراءات (الفَرنْسَة) التي ترمي إلى إزالة كل ما هو إسلامي وعربي.

وفي الوقت نفسه سلَّطت فرنسا على الجزائر المسلمة قوافل (المتصوفة)، ينشرون البدع والخرافات ويحاربون كل بادرة وعي إسلامي صحيح!

وقد زاد الطين بلة أنه خلال السنوات الأخيرة من هذا القرن احتلت فرنسا تونس سنة (1299هـ)، واحتلت إيطاليا ليبيا في العقد الثالث من القرن التالي!

ولقد بدا من خلال الأسوار العالية المحكمة أن إسلامية الجزائر وعروبتها في محنة شديدة، وكان يُخيل لبعض المؤرخين أن تاريخ الجزائر سيتَّجه إلى الفرنسية والتغريب أكثر من اتجاهه إلى الإسلام والتعريب، أما الفرنسيون، فكانوا يعتبرون الجزائر (ولاية) فرنسية إلى الأبد.

لكن الحقيقة أن هناك منافذَ مضادة، إذا لم يكن المؤرخ العَجِل قادرًا على إبصارها، فإن الباحث الحضاري كان باستطاعته أن يَلمسها، وأن يحس بآثارها الهادئة البطيئة والحاسمة في الوقت نفسه!

إنها منافذ تتصل بطبيعة الحضارة الإسلامية نفسها في الدرجة الأولى.

فإن فرنسا على كثرة ما اتَّخذت من إجراءات - لم تستطع أن تلغي - كل الإلغاء أداء المسلم الجزائري لركن من أركان دينه هو الركن الخامس من أركان الإسلام "الحج".

ولَمَّا كانت حركة الشيخ محمد بن عبدالوهاب - بقوتها وريادتها ونقائها قد نشأت في البلد الذي تؤدَّى فيه شعيرة الحج، فقد أدَّى هذا الارتباط دورًا كبيرًا في نشر الدعوة على امتداد العالم الإسلامي كله.

فعن طريق "الحج" (انظر محمد كمال جمعة: انتشار دعوة الشيخ محمد بن عبدالوهاب خارج الجزيرة 73، 80، 84، 90، 94، 99، 106 وغيرها)، انتشرت دعوة الشيخ محمد بن عبدالوهاب في الهند والبنجال بواسطة السيد أحمد شهيد بريلي، وزميله الشهيد إسماعيل، والحاج شريعة الله البنجالي، ونزار علي.

وعن طريق الحج انتشرت دعوة الشيخ محمد بن عبدالوهاب في جاوة وإندونيسيا بواسطة الزعيم (توانكونان رنتجه)، و(الحاج مسكين)، و(البدري).

وعن طريق الحج انتشرت الدعوة في إفريقيا على يد الشيخ عثمان بن فودي.

وقد أوجز أحد الكتاب المعاصرين التأثير العام للحج في نشر دعوة الشيخ محمد بن عبدالوهاب الإصلاحية، فقال:
"انتشرت دعوة الشيخ في خارج نجد من أجل استيلاء الدولة السعودية على مكة المكرمة سنة 1218هـ، وأصبح حجاج البلاد الإسلامية يَفِدون إلى مكة المكرمة، ويشاهدون علماء هذه الدعوة الحقة، ويستمعون خطبهم ومواعظهم، وإرشاداتهم السديدة، وتوجيهاتهم القَيِّمة، فتأثر بعض الحجاج بدعوة الشيخ، فأخذ ينشر في بلاده التوحيد ويحارب الخرافات الشائعة في بلاده، فانتقلت بهذا مبادئ الدعوة إلى السودان والهند، وسومطرة والعراق، والشام ومصر، والجزائر وجاوة، وعمان وفارس؛ "أحمد بن حجر أبو طامي والشيخ محمد بن عبدالوهاب 79).

وهكذا؛ فإن طريق الحج كان واحدًا من أهم الطرق التي عبرت من خلالها دعوة الشيخ إلى الجزائر، متخطية تلك الأسوار القوية التي أقامها الاستعمار الفرنسي!

والطريق الثاني الذي اخترقت به الدعوة هذه الأسوار هو (طريق معنوي)، لم يستطع الاستعمار الفرنسي أن يفهمه؛ لأنه لا يستطيع بتركيبه المادي الغربي أن يَفهَم بناء الإسلام ولا طبيعته الروحية.

إننا نستطيع أن نطلق على هذا (الطريق المعنوي) مصطلحات متعددة، وكلها صالحة للتعبير عن حقيقته، (إنه الشعور الإسلامي الواحد)، أو هو (الأخوة الإسلامية)، أو هو (الروح الإسلامية)، فالمسلمون على العكس من كل أتباع الأديان الأخرى تَنتظمهم مشاعر واحدة، حتى لو فرقت بينهم أهواء الساسة، وأن المسلم ليتألم ويفرح لكل ما يصيب أخاه المسلم مهما كان بعيدًا عنه، وهم يتبادلون التأثير والتأثر كما تنتشر الموجات الكهربائية.

وقد أشار إلى هذه الحقيقة - بطرقة غير مباشرة - (السير توماس أرنولد)، فيما يتعلق بتأثير حركة الشيخ محمد بن عبدالوهاب في العالم الإسلامي كله، فاعتبرها أول (عاملين) يؤثران في انتعاش الحياة الإسلامية في العصر الحديث، "فإن تأثيرها الديني ملموس في كافة أنحاء إفريقية والهند والملايو إلى الوقت الحاضر، وإن ما أثارته هذه الحركة من حماسة متقدة، وما سكَبته في النُّظم الدينية القائمة من حياة جديدة، وما بنته في الدراسة الدينية النظرية وتنظيم الشعائر المنسكبة من روح دافعة، إن ذلك كله قد عمِل إيقاظ روح الإسلام الفطرية؛ (الدعوة إلى الإسلام 468 ص 31 طبع نهضة مصر).

أما ثاني العاملين اللذين ذكرهما (أرنولد) في مجال انبعاث النهضة الإسلامية الحديثة، فهو (عامل) يقول عنه: إنه من نوع يختلف عن هذه الحركة جد الاختلاف، وهو (عامل حركة الوحدة الإسلامية التي تسعى إلى ربط جميع شعوب العالم الإسلامي برباط مشترك من المودة والتعاطف)؛ (المكان السابق).

وبالطبع؛ فإن (أرنولد) - كسائر الأوروبيين - لم يستطع أن يدرك أنه لا خلاف بين العاملين، بل إن العاملين يكمل أحدهما الآخر، فالشعور الإسلامي الواحد هو أقوى جِسر تظهر عليه كل موجات الإصلاح الإسلامي الحقيقي، وعليه عبرت دعوة الشيخ محمد بن عبدالوهاب الإصلاحية إلى بلدان العالم الإسلامي واخترَقت أسوار الاستعمار النصراني!

أما الطريق الثالث، فهو طريق يتصل بالطريق السابق، وإن كان أكثر مباشرة ووضوحًا.

فبينما كانت الجزائر محاطة بسور الاستعمار الفرنسي، ارتفعت في العالم الإسلامي دعوة أَطلق عليها بعضهم اسم (الوهابية الجديدة)، كما أطلق عليها أيضًا دعوة "الجامعة الإسلامية"؛ مما يدل على الترابط بين الدعوتين، وكان قائد هذه الدعوة هو السيد جمال الدين الأفغاني (1254- 1214هـ) أحد المتأثرين بالشيخ محمد بن عبدالوهاب عن طريق أدائه فريضة الحج سنة 1213هـ، وعن طريق مجيئه إلى الهند وسماعه عن أثر الوهابيين؛ ولذلك اتُّهِم من قِبَل أعدائه بأنه وهابي، بل رُوِي أنه هَمَّ بالسفر إلى نجد لقيادة الحركة الوهابية عن كثَبٍ؛ (العقاد: الإسلام في القرن العشرين 89).

ويقول (جب): إن جهود جمال الدين كانت لها نتائج متينة راسخة؛ إذ نشرت في أرجاء البلاد الإسلامية المبدأ الوهابي القائل بضرورة التعلق بالصفاء المذهبي، وإعادة تأكيد المذهب السني القرآني؛ (نقلاً عن: محمد السلمان: رشيد رضا (مخطوط) 143).

وكان لجمال الدين الأفغاني تلميذان، وضَحت فيهما دعوة الشيخ محمد بن عبدالوهاب أكثر منه، وكانا واسطتها إلى الجزائر خاصة، على نحو لم يستطعه هو أو لم يسع إليه، وهما: الشيخ محمد عبده (1266- 1323هـ)، والشيخ محمد رشيد رضا (1282- 1354هـ)، وقد استطاعت هذه المدرسة (الأفغانية)، أو مدرسة (العروة الوثقى)، كما أطلق عليها بعضهم، أن تحمل دعوة الإصلاح السلفي إلى الجزائر والعالم الإسلامي في وقت خلت فيه الساحة من المصلحين الأقوياء.

وقد كانت مجلة العروة الوثقى - ثم مجلة المنار - من أكثر المجلات المدافعة عن اتجاه العودة إلى الإسلام الصحيح، وقد أُتيح لهاتين المجلتين من الانتشار ما لم يُتَح لغيرهما، وكان الزود عن حياض دعوة الشيخ ابن عبدالوهاب واضحًا فيهما، ولا سيما في المنار؛ (انظر السلمان: رشيد رضا 190 وما بعدها) التي استطاعت أن تدخل إلى الجزائر وإلى بقية بلدان الشمال الإفريقي، منذ سنتها الأولى، حتى إنه في سنتها الخامسة ذكر أحد القرَّاء في تونس أن العدد الواحد من مجلة المنار يدار على عشرات الناس في البيوت؛ (المرجع السابق 367).

ولعل أكبر دليلٍ على حسن انتشار المنار في بلاد شمال إفريقية، أن الشيخ محمد عبده حينما قام بزيارة إلى تونس والجزائر عام 1321هـ (1903م)، شاهَد هناك الأثر الكبير الذي أحدثته مدرسة المنار ممثلة في مجلتها، وتأثير ذلك في نشر الأفكار الإصلاحية (السابق 368).

وهكذا؛ فعن طريق هذه المعابر الحضارية الإسلامية، تحطَّمت أسوار الاستعمار الفرنسي الرهيبة، وظهرت حركة (إسلامية صحيحة)، شقَّت طريقها وسط كل الظلمات والعقبات، حتى أصبحت التيار العام المسيطر والمؤثر.

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 34.66 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 34.03 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (1.81%)]