عرض مشاركة واحدة
  #2  
قديم 04-02-2020, 10:16 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 161,050
الدولة : Egypt
افتراضي رد: المنهج الرشيد في استقبال العام الجديد

المنهج الرشيد

في استقبال العام الجديد


الشيخ حسين مسعود القحطاني

رابعاً: (العزيمة الصادقة):
على استغلال أيام هذا العام ولياليه في فعل الخير ونفع الناس، إنّ اتصاف المرء بالعزيمة والطموح في ضوء نور معرفته لهدفه وسبيله، هو أقوى ما يمكن أن يتصف به الشخص الفاعل والمؤثر، فالعزيمة تدفع وتقوّي، والطموح يُبشّر ويجذب نحو الهدف المرسوم، كثير من المتساقطين في هذه الحياة إنما يعود سبب سقوطهم لضعف عزائمهم وصدق الله إذ يقول: ï´؟ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ ï´¾ [آل عمران: 159].

وقد أدرك النبي الأكرم صلى الله عليه وسلم هذا المفهوم الأعظم، ومن ثُم انطلق في حياته من عزيمة لا تعرف الكّل، بل عمل على تقوية العزائم في نفوس أصحابه وأمته، وحاول جاهداً أن يجعل لهم طموحاً متدرجاً نحو معالي الأمور، وكان كثيراً ما يقول في صلاته هذا الدعاء "اللهم إني أسألك الثبات في الأمر، والعزيمة على الرشد".

كان عليه الصلاة والسلام يسأل ربه أن يثبته على ما تحقق من إنجاز، وأن يعطيه العزيمة على إكمال السبيل، سائلاً ربه أن تكون عزيمة رشيدة نافعة حكيمة عليمة.

لقد أُوذي المسلمون في غزوة أحد - الغزوة الثانية التي لقي فيها صلى الله عليه وسلم أعداءه - وجُرح فيها عليه الصلاة والسلام، وقُتل عمه حمزة وآخرون ممن كان يحبهم، ومثّل أعداؤه بجثث أصحابه وأحبابه، بل جُرح هو جروحا متكاثرة وألمّ الألم والحزن بجميع أصحابه، فمنهم من قُتل، ومنهم من جُرح ولا يزال جرحه ينزف دماً، ثم تنزل آيات القرآن على الرسول الكريم يقرؤها على أصحابه وهي تقول: ï´؟ وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ï´¾ [آل عمران: 139]، فلا ينبغي عليكم أن تهنوا أو تحزنوا فيقعدكم الوهن أو الحزن عن سبيلكم الذي اخترتموه وهدفكم الذي سعيتم إليه. وبالفعل، فقد دفن المسلمون أحزانهم في قلوبهم، ولم يستسلموا لمصابهم الذي حل بهم، وكان هذا الأذى الذي حدث للمسلمين في أُحد فرصة انتهزها المنافقون وأعداء الرسول عليه الصلاة والسلام، ليقضوا عليه وعلى دعوته، وغلت مراجل المدينة والقبائل من حولها ترجو القضاء عليه.

ومن هنا كان صلى الله عليه وسلم يركز في توجيهه لأصحابه نحو بناء العزيمة في نفوسهم، وأنّ قلوبهم صاحبة القول النهائي في ذلك، وأنه لابد من همّة القلب قبل همّة الأعضاء..

إنه في مواقف كثيرة، يخبرهم، أن المرء قد يبلغ الدرجات العُلى بهمّة قلبه، حتى قبل أن تصل إليها جوارحه وأعضاء جسده، يقول في الحديث عليه الصلاة والسلام: "من همّ بحسنه فلم يعملها، كتبها الله عنده حسنه".

بل قد يتفوق المؤمن الفقير بهمته العالية على الغني كثير المال كما في قوله صلى الله عليه وسلم: "سبق درهم مائة ألف درهم "، قالوا: يا رسول الله! كيف يسبق درهم مائة ألف؟"، قال: "رجل كان له درهمان، فأخذ أحدهما، فتصدق به، وآخر له مال كثير، فأخذ من عرْضها مائة ألف".

فلكأنّ الإسلام هنا يبين أن الطريق إلى الله إنما يقطع بقوة العزيمة وعلو الهمة وتصحيح النية ودفق الطموح، وأن عملاً قليلاً قد يصل صاحبه بعزمه ونيته إلى أضعاف مضاعفة مما يقطعه قليل العزيمة ضعيف النية..

إذا كنت ذا رأيٍ فكن ذا عزيمة
فإن فساد الرأي أن تترددا


خامساً: (التجديد):
التجديد مع العام الجديد أمرٌ مطلوب، وشيءٌ محبوب، فالعام الجديد تتجدد فيه الهمم ويستعاد فيه النشاط وتراجع فيه الأحوال وتتابع الأعمال وتترقب الآمال.. بل كلمة الجديد تأنس لها النفس، ويتطلع لها الفؤاد، ويفرح بها القلب، ويشرق بها الأمل، ويُطرد بها الملل، فالإنسان خُلق ملولاً ويحتاج للتجديد بين الحين والآخر. والمتأمل لهذا الدين وشعائره بل وللكون ومظاهره يجد أنها مراعية لهذا الجانب فهي مليئة بالتجديد، متميزة بالتغيير، بعيدة عن الرتابة، طاردة للسآمة، تجد الليل والنهار والشروق والغروب والحر والبرد والسهل والجبل واليابسة والبحر والبساتين والأشجار والعيون والأنهار والجداول والخمائل ولو كانت الحياة على وتيرة واحدة لضّج الناس قال تعالى: ï´؟ أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهَا غڑ وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ * وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَظ°لِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ غ— إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُور ï´¾ [فاطر: 27، 28].

وطولُ مقامِ المرءِ في الحي مخلقٌ
لديباجتيهِ فاغتربَ تتجددِ

فإني رأيْتُ الشَّمسَ زيدتْ مَحَبَّةً
إلى النَّاس أَن ليْسَتْ عليهمْ بِسرْمَدِ


أما ونحن بدأنا عاماً جديداً لماذا لاتهّز هذه الكلمة أعماقنا، وتوقظ وجداننا، فنهرع إلى الجدّ والتجديد في حياتنا، وطرائق تفكيرنا؟ لماذا لانجدد بتجديد العام ونغير بتغيير الزمان؟ حقاً إن كثيراً منّا غيروا وجددوا مع تغير الزمان ولكنه تجديد إلى الأسوأ، وتغيير إلى الأدنى وتقدم إلى الحضيض، فليس التجديد بالتحلل من الأخلاق والتحلل من القيم والتنكر للدين والانسلاخ من الحياء، فما ذلك إلا دمار وضياع، وتيهٌ وضلال قال تعالى ï´؟ ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ï´¾ [الأنفال: 53].

ينبغي على المسلم أن يجدد في إيمانه، في صلته بربه، أن يغير في طريقة حياته وأعماله ونشاطاته الخيرية، حتى تجري دماء التجديد في جسمه. يتخذ لنفسه برنامجاً جديداً حافلاً، يقرأ القرآن ليجدد إيمانه، يتأمل حياة النبي صلى الله عليه وسلم ليجدد أخلاقه وتعامله، يزور القبور ليجدّد لواعج الخوف في قلبه، يزور المرضى ليكسب الأجر ويجدد وازع شكر النعمة والصحة والعافية، يسأل عن الأيتام، ينفس عن المكروب، يفرج عن المهموم، يجدد في طرائق دعوته.. إلى غير ذلك من الأعمال العظيمة التي يتجدد بها الإيمان، وتتحرك بها المشاعر، وتأنس بها النفس، هكذا يجب أن يكون الإنسان مع نفسه، وأن يعيد تنظيم حياته، وأن يستأنف مع ربه علاقةً أفضل، وعملاً أكمل، وأن يفكر بجدية وتجديد ماذا سيقدّم لأمته ودينه من جديد!

سادساً: (اغتنام الأوقات بالطاعات):
وقد أنّب الله تعالى الكفار لما أعطاهم العمر المديد، فلم يستفيدوا منه، فقال عز وجل: ï´؟ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ ï´¾ [فاطر:37] ومدح المؤمنين، لأنهم استفادوا من أعمارهم، واغتنموا أوقاتهم، فقال عز وجل: ï´؟ كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ ï´¾ [الحاقة: 24] فوبخ هؤلاء مع أنه عمرهم؛ لأنهم لم يستفيدوا من العمر، ومدح هؤلاء؛ لأنهم اغتنموا الأيام الخالية، اغتنموا العمر في طاعة الله تعالى، وهذا المبدأ مهمٌ للغاية - أيها الأحبة - أن يعلم الإنسان قيمة عمره وقد أخبر عليه الصلاة والسلام أنه (لن تزول قدما عبدٍ يوم القيامة حتى يسأل عن أربع: عن عمره فيم أفناه، وعن شبابه فيم أبلاه، وعن ماله من أين اكتسبه وفيم أنفقه، وعن علمه ماذا عمل فيه) وقال أيضاً عليه الصلاة والسلام: (اغتنم خمساً قبل خمس: شبابك قبل هرمك، وصحتك قبل سقمك، وغناك قبل فقرك، وفراغك قبل شغلك، وحياتك قبل موتك) فتأمل! أنه يُسأل عن العمر عموماً، ويُسأل عن الشباب خصوصاً؛ لأنها مرحلةٌ فيها نشاطٌ وقوةٌ وحيويةٌ، ففي أي شيء صرفها؟ وفيمَ قضاها؟ وكذلك يُسأل عن الصحة؛ لأنها نعمة يستطيع أن يفعل فيها أكثر مما يفعل في حال المرض، ويُسأل كذلك عن أوقات الفراغ، والنبي صلى الله عليه وسلم بين هذا المفهوم بقوله: (عجلوا الخروج إلى مكة، فإن أحدكم لا يدري ما يعرض له من مرض أو حاجة)، وقال: (من أراد الحج، فليتعجل؛ فإنه قد يمرض المريض، وتضل الضالة، أو تعرض الحاجة) حديث صحيح.

إن على المسلم أن ينظر في أي شيء يصرف وقته، قال بعض أهل العلم: رأيت عموم الخلائق يدفعون الزمان دفعاً عجيباً، إن طال الليل فبحديث لا ينفع، أو بقراءة كتاب أو سمر قراءة كتاب في أي شيء؟ فيما لا ينفع ككثيرٍ من القصص التافهة، والمجلات الماجنة، وإن طال النهار فبالنوم، أو التسكع على الأرصفة والشواطئ والصّف في الأسواق، يقتلون أوقاتهم ويضيّعونها فيما لا فائدة منه..

أليس من الخسران أن ليالياً
تمر بلا نفعٍ وتحسب من عمري


عُمرٌ يُهدر، شهورٌ وسنواتٌ تجري وهو لم يفعل غير الصف في الأسواق، والجلوس في الطرقات، وإضاعة الأوقات في الملاهي والمحرمات، ليتهم كان صرفهم لوقتهم في شيء لا يضرهم!لماذا نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن قيل وقال، وكثرة السؤال، ونهى عن سؤال ما لم يقع؟ لأجل حفظ الوقت، فيكون حال الجاهل بحق ربه ومصلحة نفسه من يضيع أوقاته في مثل هذه الترهات، وكثيرٌ ما هم!نعم إنّ العوارض كثيرة، والأشغال متعددة، وتتزاحم الهموم، وينشغل التفكير، ويتكدر صفاء الذهن بمشكلات الحياة الكثيرة، ولذلك لا بد من اغتنام الأوقات قبل عروض المشاغل، والإنسان لا يدري ماذا تخبئ له الأيام، فبعض الناس قد انشغل بمرض سنوات طويلة أقعده وآلمه، وصرفه عن سعيه ونشاطه، فلا يظنن الشاب أن الأمر سيستمر على ما هو عليه.

أترجو أن تكون وأنت شيخٌ
كما قد كنت أيام الشبابِ

لقد كذبتك نفسك ليس
ثوب دريسٌ كالجديد من الثيابِ


إنه ينبغي على الطالب أن يغتنم وقته قبل أن يصبح موظفاً، وكذلك من لم يتزوج ينتهز وقته قبل أن ينشغل بالزواج والأولاد.. وهكذا فإن الحياة تُشغل من فيها، فالسعيد العاقل من انتهز الوقت وعرف قيمته، كم مر بنا من إجازات كثيرة، وعُطلٌ عن الأعمال في آخر الأسبوع وغيرها، ففي أي شيء تقضى؟ وفي أي شيء تصرف؟ والمسألة تحتاج لشحذ النفوس بدفعها لقضاء الأوقات في الطاعات.

ولكن للأسف الشديد! فإن كثيراً من الناس لا يعرفون قيمة عمرهم، والنبي صلى الله عليه وسلم قال: (نعمتان مغبونٌ فيهما كثيرٌ من الناس: الصحة والفراغ) فالحديث يدل على عظم أمرين: الوقت، وقوة الجسد..

الوقت الذي يمكن ملؤه، وقوة الجسد المعينة على العمل، وفترة الشباب تكون زاخرةً بهذين الأمرين. وإذا علمنا أنه لا يتحسر أهل الجنة على شيء إلا على ساعةٍ مرت بهم في الدنيا لم يذكروا الله عز وجل فيها، فإذا قارنّا هذا بالساعات الطوال التي تضيع في غير ما فائدة، بل إنّها تقضى في المعاصي، ولا يُبقي كثيرٌ من الناس لربهم وعبادته سبحانه إلا ساعة إذا اكتملت، هذا إذا اكتملت، لاشك أنّ هذا خسارةٌ لعمر العبد وأنّ العواقب سوف تكون ضده أليمة، وهنا ينبغي أن يقف العاقل مع نفسه وقفةً يتذكر فيها ربه، ويعد العدة لما بعد الموت.

إنّا لنفرح بالأيام نقطعها وكلُّ
يومٍ مضى يُدني من الأجلِ

فاعمل لنفسك قبل اليوم مجته
دا فإنما الربحُ والخسران بالعملِ


أي والله ينبغي اغتنام كل فرصة، واغتنام العمر حتى آخر لحظة، وهذا معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم: (إن قامت الساعة وبيد أحدكم فسيلة، فإن استطاع ألَّا تقوم حتى يغرسها فليفعل) رواه الإمام أحمد. في هذا الحديث الصحيح انتهاز الفرصة في عمل صالح في آخر لحظة، ولو كان الإنسان لم ير ثمرته، فسوف يرى ثمرته في الآخرة، ولو لم يجدها في الدنيا. إن المشكلة تكمن في عدم معرفة قيمة الوقت..

الوقت سريع التقضي أبي التأتي لا يرجع مطلقاً، والعاقل هو الذي يفعل ما يغتنم به وقته، قال بعض أهل العلم: ينبغي للإنسان أن يعرف شرف زمانه، وقدر وقته، فلا يضيع منه لحظة في غير قربة، ثم ليس فقط انتهاز العمر بالطاعات، واغتنام الأوقات بالعبادات، وإنما يقدم الأفضل فالأفضل من القول والعمل، فإنّ اغتنام الوقت في أفضل ما يمكن مسألة تحتاج إلى فقه؛ لأن مسألة التفاضل بين الأعمال لا يمكن التوصل إليها إلا من خلال الأدلة الشرعية، ولذلك فلا بد أن يكون للمسلم علمٌ بالأعمال التي نص الشارع على فضلها، وأنّها أفضل من غيرها.

ولذلك نجد في بعض الأحاديث: (أفضل الأعمال إيمانٌ بالله وحده، ثم الجهاد، ثم حج مبرور).. (أفضل الأعمال الصلاة على وقتها، ثم بر الوالدين، ثم الجهاد في سبيل الله) وهكذا تتفاوت الأعمال في الفضل كما تختلف بالنسبة للأشخاص في ظروفهم وأحوالهم وإمكاناتهم، وكذلك فإنه قد يكون الأفضل لشخصٍ ما ليس لآخر، فالأذان لمن كان حسن الصوت، وقيادة عسكر الجهاد لمن كان له خبرةٌ وقوةٌ، والصدقات للأغنياء وتعليم الناس لأهل العلم، والشفاعة الحسنة من صاحب الجاه، وغير ذلك من الأعمال التي تعتمد على إمكانات الأشخاص وقدراتهم.

وكذلك أن يكون العمل أنفع، فكلما كانت دائرة النفع أشمل، كلما كان أفضل، ولذلك كان نفع المسلم لأخيه المسلم من قضاء دين، أو تعليم علم، أو سد جوعة.. ونحو ذلك من أفضل القرب؛ حتى ربما فاق الاعتكاف في المسجد النبوي شهراً.

وكذلك فإنّه إذا عُرف أن بعض الأعمال أفضل لمشقتها، فإنه يقدم عليها كما جاء في فضل إسباغ الوضوء على المكاره، والمشي في الظلم إلى المساجد، والجهاد في سبيل الله، ولذلك فإن احتساب الأجر في التصدي لأهل البدع وأعداء الدين فيه أجرٌ عظيمٌ لأنه يترتب عليه مشقة شديدة وتضحية، والمؤمن الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم أفضل من الذي لا يخالطهم ولا يناله شيء من أذاهم، حتى القرآن وهو كلام الله تعالى فيه آيات وسور بعضها أفضل من بعض، والأذكار الشرعية بعضها أفضل من بعض وهكذا يظهر هنا الفقه في انتهاز الوقت في العبادة والذكر التي هي أفضل من غيرها.

بماذا انتهز عبدالله بن عمرو بن العاص وقته؟ وفي أي شيء اغتنمه؟ جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله! إن لي قوة - شاب عندي قوة - وذكر له الصوم، فقال عليه الصلاة والسلام: (صم من كل عشرة أيامٍ يوماً ولك أجر التسعة، فقال: إني أقوى من ذلك، قال: فصم من كل تسعة أيامٍ يوماً ولك أجر الثمانية، فقال: إني أقوى من ذلك.

قال: فصم من كل ثمانية أيامٍ يوماً ولك أجر تلك السبعة، قال: إني أقوى من ذلك قال: فلم يزل به حتى قال: صم يوماً، وأفطر يوماً، فقال: إني أطيق أفضل من ذلك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا أفضل من ذلك) فكان ينتهز عمره وفرصة شبابه في الصيام. كيف تعّود الأعمش رحمه الله على ألا تفوته تكبيرة الإحرام ستين عاماً؟ لقد كان العلماء يعرفون فضائل الأوقات. فهذا البخاري - رحمه الله - كان يتمثل بهذين البيتين:
اغتنم في الفراغ فضل ركوعٍ
فعسى أن يكون موتك بغتة

كم صحيحٍ رأيت من غير سقمٍ
ذهبت نفسه الصحيحة فلتة


وفعلاً فقد توفي البخاري رحمه الله بالسكتة وموت الفجأة مثلما كان يقول في هذين البيتين ولكن: ماذا ترك محمد بن إسماعيل البخاري رحمة الله عليه؟ ترك صحيح البخاري في الحديث هذا الكتاب العظيم الذي هو أصح كتابٍ بعد كتاب الله، ومنه ينهل الواردون، ويأخذ به المتعطشون للعلم، ويُستدل بأحاديثه في الخطب والدروس والمواعظ، فكم جاء لـأبي عبد الله في قبره من حسنة، والله يعلم شأن عباده.

إن الله لما أمر نبيه بالعبادة، أو بالصلاة، اتبع الصلاة بعمل آخر، قال سبحانه وتعالى: ï´؟ فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ * وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ ï´¾ [الشرح: 7-8] والمؤمن يخرج من عبادة ليدخل في أخرى، وهذا هو الاغتنام الحقيقي، بل إن العبد قد يكون نومه وأكله وشربه ونكاحه عبادة إذا حسنت النية، وابتغى بذلك وجه الله عز وجل.

ذكر الدكتور يوسف القرضاوي تعليقاً جميلاً على تضييع الأوقات حيث يقول: (إن من يقتل وقته إنما يقتل نفسه، فهي جريمة انتحار بطيء تُرتكب على مرأى ومسمع من الناس ولا يعاقب عليها أحد) قال ابن القيم - رحمه الله -: إضاعة الوقت أشد من الموت، لأن إضاعة الوقت تقطعك عن الله والدار الآخرة، والموت يقطعك عن الدنيا وأهلها.

لقد كانت أوقات السلف - رحمهم الله - موزعة بين العبادة والتعلم والحفظ والتدريس والتصنيف والافتاء، وربما كان يُقرأ عليهم في الطريق، بل ويقرؤون بأنفسهم في الطريق، وكان الخطيب البغدادي رحمه الله يمشي وفي يده جزء يطالعه، وكان جد شيخ الإسلام إذا دخل المغتسل، أمر قارئاً يقرأ ويرفع صوته ليستفيد من العلم وهو يغتسل، وكانوا يأكلون الطعام نيئاً أحياناً لضيق الوقت، ويختارون سفَّ الكعك، لأنه أسهل وأشد يسراً في البلع، ولا يأخذ وقتاً في المضغ، وربما تعلم واحدٌ منهم المسألة وهو على فراش الموت يحتضر، يقول الحسن البصري رحمه الله: أدركت أقواماً كانوا على أوقاتهم أشد منكم حرصاً على دراهمكم ودنانيركم.

تبقى مسألة معرفة قيمة الزمن وشرف الوقت، فإذا خلصت النية فالله يبارك، هذا عمر بن عبد العزيز - رحمه الله - في سنتين ونصف فقط أحدث انقلاباً في حياة الناس، صار الناس في غاية الشغل في العبادة والطاعة، وكانوا في عهد من قبله يسأل بعضهم بعضاً عن القصور والبساتين والعمائر والزراعات والتجارات، وفي عهد عمر صار الواحد يسأل الآخر عن الختمة والحجة والعمرة والطاعة، فالإنسان يمكن أن يفعل لنفسه ولغيره من النفع العظيم في وقت يسير إذا خلصت النية، وكذلك ينبغي الانتباه (لسوف) ومرض (التسويف)، كما قال بعض السلف: "كلما جاء طارق الخير، صرفه بواب لعل وعسى"، فينبغي أن يسارع المسلم الآن لأن قوله: (عسى وسوف) لا تغني شيئاً، بل ربما يسّوف وتفوت عليه الفرصة، نسأل الله سبحانه وتعالى أن يعمر أوقاتنا بالطاعات، وأن يجعلنا من القائمين بالعبادات، وأن يعيننا على ذكره وشكره وحسن عبادته، وأن يجعل عامنا هذا عام عزٍ ونصر وتمكين لأمتنا إنه على كل شيءٍ قدير.
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 33.23 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 32.60 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (1.89%)]