قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -: "وأمَّا اعتزال الناس في فضول المباحات وما لا ينفع وذلك بالزهد فيه فهو مستحب، وقد قال طاووس: نعم صومعة الرجل بيته يكف فيه بصره وسمعه. وإذا أراد الإنسان تحقيق علم أو عمل فتخلى في بعض الأماكن مع محافظته على الجمعة والجماعة فهذا حق كما في الصحيحين: أن النَّبيَّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - سئل: أي الناس أفضل ؟ قال: "رَجُلٌ آخِذٌ بِعِنَانِ فَرَسِهِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كُلَّمَا سَمِعَ هَيْعَةً طَارَ إلَيْهَا يَتَتَبَّعُ الْمَوْتَ مَظَانَّهُ، وَرَجُلٌ مُعْتَزِلٌ فِي شِعْبٍ مِنْ الشِّعَابِ يُقِيمُ الصَّلَاةَ وَيُؤْتِي الزَّكَاةَ وَيَدَعُ النَّاسَ إلَّا مِنْ خَيْرٍ"[16].
قال ابن القيِّم - رحمه الله - في بدائع الفوئد: "المحب يهرب إلى العزلة والخلوة بمحبوبة والتعلق بذكره كهرب الحوت إلى الماء والطفل إلى أمه"[17].
وجُملة الجواب: أنَّ العزلة في القسم الثاني إنما هي العزلة من أجل الانتفاع واستغلال العمر بالطاعات، فتكون خلطته لإفادة الناس، وعزلته لتغذية قلبه وعقله، وهذه العزلة إنما تكون لمن يستغل وقته إذا انفرد، أمَّا عوام الناس الذين يتضررون بانعزالهم فليست في حقهم مستحبة - كما تقدَّم -.
وما أجمل ما قاله العلامة ابن القيِّم - رحمه الله - في كتابه البديع: [بدائع الفوئد]، في بيان فضول المخالطة حيث قال:"ففضول المخالطة فيه خسارة الدنيا والآخرة، وإنما ينبغي للعبد أن يأخذ من المخالطة بمقدار الحاجة، ويجعل الناس فيها أربعة أقسام متى خلط أحد الأقسام بالآخر ولم يميز بينهما دخل عليه الشر.
أحدها: من مخالطته كـ: (الغذاء)، لا يستغنى عنه في اليوم والليلة، فإذا أخذ حاجته منه ترك الخلطة ثم إذا احتاج إليه خالطه هكذا على الدوام وهذا الضرب أعز من الكبريت الأحم، وهم: العلماء بالله - تعالى - وأمره، ومكايد عدوه وأمراض القلوب وأدويتها، الناصحون لله - تعالى - ولكتابه ولرسوله ولخلقه، فهذا الضرب في مخالطتهم الربح كله.
القسم الثاني: من مخالطته كـ: (الدواء) يحتاج إليه عند المرض، فما دمت صحيحا فلا حاجة لك في خلطته، وهم من لا يستغنى عنه مخالطتهم في مصلحة المعاش، وقيام ما أنت محتاج إليه من أنواع المعاملات، والمشاركات والاستشارة، والعلاج للأدواء، ونحوها فإذا قضيت حاجتك من مخالطة هذا الضرب بقيت مخالطتهم من القسم الثالث: وهم من مخالطته كـ: ( الداء ) على اختلاف مراتبه، وأنواعه، وقوته، وضعفه، فمنهم: من مخالطته كالداء العضال والمرض المزمن وهو من لا تربح عليه في دين ولا دنيا ومع ذلك فلا بد من أن تخسر عليه الدين والدنيا أو أحدهما، فهذا إذا تمكنت مخالطته واتصلت فهي مرض الموت المخوف، ومنهم: من مخالطته كوجع الضرس يشتد ضربا عليك، فإذا فارقك سكن الألم، ومنهم: من مخالطته حمى الروح، وهو الثقيل البغيض العقل، الذي لا يحسن أن يتكلم فيفيدك، ولا يحسن أن ينصت فيستفيد منك، ولا يعرف نفسه فيضعها في منزلتها، بل إن تكلم فكلامه كالعصي تنزل على قلوب السامعين مع إعجابه بكلامه وفرحه به فهو يحدث من فيه كلما تحدث ويظن أنه مسك يطيب به المجلس وإن سكت فأثقل من نصف الرحى العظيمة التي لا يطاق حملها ولا جرها على الأرض، ويذكر عن الشافعي - رحمه الله - أنه قال: "ما جلس إلى جانبي ثقيل إلا وجدت الجانب الذي هو فيه أنزل من الجانب الآخر"، ورأيت يوما عند شيخنا - قدس الله روحه - رجلا من هذا الضرب والشيخ يحمله، وقد ضعف القوى عن حمله فالتفت إلي، وقال: "مجالسة الثقيل حمى الربع "، ثم قال: "لكن قد أدمنت أرواحنا على الحمى فصارت لها عادة" أو كما قال، وبالجملة: فمخالطة كل مخالف حمى للروح فعرضية ولازمة، ومن نكد الدنيا على العبد أن يبتلى بواحد من هذا الضرب، وليس له بد من معاشرته ومخالطته فليعاشره بالمعروف، حتى يجعل الله له فرجا ومخرجا.
القسم الرابع: من مخالطته الهلك كله، ومخالطته بمنزلة أكل السم، فإن اتفق لأكله ترياق، وإلا فأحسن الله فيه العزاء وما أكثر هذا الضرب في الناس لا كثرهم الله، وهم أهل البدع والضلالة الصادون عن سنة رسول الله الداعون إلى خلافها"[18].
رابعاً: الخيرية والفضل العظيم للداعية الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم.
دلّ الحديث برواياته على فضل مخالطة الناس؛ لإعانتهم على الخير، وكفهم عن الشر، والصبر على أذاهم، ففي لفظ الترمذي ما يدل على خيَّريته، قال النَّبيُّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - عنه: "خَيْرٌ مِنَ المُسْلِمِ الَّذِي لا يُخَالِطُ النَّاسَ ولا يَصْبِرُ عَلَى أَذَاهُمْ "، وفي لفظ أحمد، وابن ماجه ما يدل على عِظَم أجره حيث قال عنه النَّبيُّ - صلَّى الله عليه وسلَّم -: " أَعْظَمُ أَجْراً مِنَ الْمُؤْمِنِ الَّذِي لاَ يُخَالِطُ النَّاسَ، وَلاَ يَصْبِرُ عَلَى أَذَاهُمْ "، ونيل الخيرية، وعِظَم الأجر فيه دلالة على الفضل الكبير الذي يناله الداعية من تكبُّد ذلك، والصبر عليه، ولابد للداعية أن يراعي في هذا ما تقدَّم ذكره من مصلحة المخالطة من مفسدتها، فالخلطة تختلف باختلاف الأحوال، والأزمان، والأماكن؛ لينال الفضل والأجر في خلطته، فقد تكون الخلطة مفسدة للشخص لا تناسبه كمن إذا خالط تأثر بمن خالطهم وربما فسد دينه، بخلاف من إذا خالط نشر خيرا وكف عن شر.
يقول المباركفوري - رحمه الله -: " قال في السبل: في الحديث أفضلية من يخالط الناس مخالطة يأمرهم فيها بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحسن معاملتهم، فإنه أفضل من الذي يعتزلهم، ولا يصبر على المخالطة، والأحوال تختلف باختلاف الأشخاص والأحوال والأزمان ولكل حال مقال.
ومن رجح العزلة فله على فضلها أدلة، وقد استوفاها الغزالي في الإحياء، وغيره"[19].
البريد الإلكتروني: [email protected]
تويتر: alforiih
[1] انظر: تذكرة الحفاظ (1/37)، والإصابة في تمييز الصحابة (6/167)، والإعلام للزركلي (4/246)، وبواسطته انظر صفة الصفوة (1/228).
[2] انظر: تحفة الأحوذي شرح سنن الترمذي، كتاب صفة القيامة، تحت باب مطلق معنون له بـ (باب)، وهو آخر باب في الكتاب.
[3] انظر لسان العرب لابن منظور، مادة (صبر).
[4] انظر: الفتح، لابن حجر، حديث (6470).
[5] انظر: المرجع السابق في تحفة الأحوذي.
[6] انظر: البصائر ؛ لأبي حيان ( 3/376).
[7] انظر: مدارج السالكين، لابن االقيم: ( 2/174).
[8] انظر: الإحياء، للغزالي (4/69 ).
[9] انظر: المرجع السابق (1/165).
[10] زاد الداعية إلى الله تعالى، لسماحة الشيخ العلامة / محمد ابن عثيمين- رحمه الله تعالى -، دار الثريا، صـ ( 11 ).
[11] انظر: تفسيره لقوله تعالى: ï´؟ إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقَالُوا رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا ï´¾ [الكهف: 10].
[12] انظر: شرح رياض الصالحين، لفضيلة شيخنا : ابن عثيمين - رحمه الله - ، حديث: " يُوشِكُ أن يكونَ خَيْرَ مالِ المُسْلمِ غَنَمٌ يَتْبَعُ بها شَعَفَ الجِبالِ، وَمَواقِعَ القَطْرِ، يَفِرُّ بدِينهِ مِنَ الفِتَن"
[13] انظر: كتاب العزلة، للخطابي صـ (225).
[14] انظر: موعظة المؤمنين، للقاسمي (2/164 ).
[15] انظر: فتح الباري، لابن حجر (11/ 332).
[16] انظر: مجموع الفتاوى، لابن تيمية ( 10/404 ).
[17] انظر: بدائع الفوائد، لابن القيم ( 3 / 218 ).
[18] بدائع الفوائد (3 / 218).
ولشيخ الإسلام - رحمه الله - كلام في الخلطة والعزلة عامة في [مجموع الفتاوى: الجزء العاشر] حيث قال: " فَصْلٌ وَأَمَّا قَوْلُهُ: هَلْ الْأَفْضَلُ لِلسَّالِكِ الْعُزْلَةُ أَوْ الْخُلْطَةُ؟
فَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ وَإِنْ كَانَ النَّاسُ يَتَنَازَعُونَ فِيهَا إمَّا نِزَاعًا كُلِّيًّا وَإِمَّا حَالِيًّا. فَحَقِيقَةُ الْأَمْرِ: أَنَّ الْخُلْطَةَ تَارَةً تَكُونُ وَاجِبَةً أَوْ مُسْتَحَبَّةً، وَالشَّخْصُ الْوَاحِدُ قَدْ يَكُونُ مَأْمُورًا بِالْمُخَالَطَةِ تَارَةً وَبِالِانْفِرَادِ تَارَةً.
وَجِمَاعُ ذَلِكَ: أَنَّ الْمُخَالَطَةَ إنْ كَانَ فِيهَا تَعَاوُنٌ عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى فَهِيَ مَأْمُورٌ بِهَا، وَإِنْ كَانَ فِيهَا تَعَاوُنٌ عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ فَهِيَ مَنْهِيٌّ عَنْهَا، فَالِاخْتِلَاطُ بِالْمُسْلِمِينَ فِي جِنْسِ الْعِبَادَاتِ: كَالصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ، وَالْجُمُعَةِ، وَالْعِيدَيْنِ، وَصَلَاةِ الْكُسُوفِ، وَالِاسْتِسْقَاءِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ هُوَ مِمَّا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ وَرَسُولُهُ. وَكَذَلِكَ الِاخْتِلَاطُ بِهِمْ فِي الْحَجِّ، وَفِي غَزْوِ الْكُفَّارِ، وَالْخَوَارِجِ الْمَارِقِينَ، وَإِنْ كَانَ أَئِمَّةُ ذَلِكَ فُجَّارًا، وَإِنْ كَانَ فِي تِلْكَ الْجَمَاعَاتِ فُجَّارٌ، وَكَذَلِكَ الِاجْتِمَاعُ الَّذِي يَزْدَادُ الْعَبْدُ بِهِ إيمَانًا: إمَّا لِانْتِفَاعِهِ بِهِ، وَإِمَّا لِنَفْعِهِ لَهُ وَنَحْوِ ذَلِكَ.
وَلَا بُدَّ لِلْعَبْدِ مِنْ أَوْقَاتٍ يَنْفَرِدُ بِهَا بِنَفْسِهِ فِي دُعَائِهِ، وَذِكْرِهِ، وَصَلَاتِهِ، وَتَفَكُّرِهِ، وَمُحَاسَبَةِ نَفْسِهِ، وَإِصْلَاحِ قَلْبِهِ، وَمَا يَخْتَصُّ بِهِ مِنْ الْأُمُورِ الَّتِي لَا يَشْرَكُهُ فِيهَا غَيْرُهُ فَهَذِهِ يَحْتَاجُ فِيهَا إلَى انْفِرَادِهِ بِنَفْسِهِ؛ إمَّا فِي بَيْتِهِ، كَمَا قَالَ طاوس: نِعْمَ صَوْمَعَةُ الرَّجُلِ بَيْتُهُ يَكُفُّ فِيهَا بَصَرَهُ وَلِسَانَهُ. وَإِمَّا فِي غَيْرِ بَيْتِهِ، فَاخْتِيَارُ الْمُخَالَطَةِ مُطْلَقًا خَطَأٌ وَاخْتِيَارُ الِانْفِرَادِ مُطْلَقًا خَطَأٌ. وَأَمَّا مِقْدَارُ مَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ كُلُّ إنْسَانٍ مِنْ هَذَا وَهَذَا وَمَا هُوَ الْأَصْلَحُ لَهُ فِي كُلِّ حَالٍ فَهَذَا يَحْتَاجُ إلَى نَظَرٍ خَاصٍّ كَمَا تَقَدَّمَ".
وإتماماً للمسألة فقد جاء في جاء في الموسوعة الكويتية في مادة (عزلة):
حُكْمُ الْعُزْلَةِ:
ذَهَبَ الْعُلَمَاءُ إِلَى أَنَّ أَفْضَلِيَّةَ الْعُزْلَةِ عِنْدَ (ظُهُورِ الْفِتَنِ وَفَسَادِ النَّاسِ) - إِلاَّ أَنْ يَكُونَ الإِْنْسَانُ لَهُ قُدْرَةٌ عَلَى إِزَالَةِ الْفِتْنَةِ - فَإِنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ السَّعْيُ فِي إِزَالَتِهَا بِحَسَبِ الْحَال وَالإِْمْكَانِ، وَأَمَّا فِي غَيْرِ أَيَّامِ الْفِتْنَةِ فَقَدِ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي الْمُفَاضَلَةِ بَيْنَ الْعُزْلَةِ وَالاِخْتِلاَطِ: قَال النَّوَوِيُّ: اعْلَمْ أَنَّ الاِخْتِلاَطَ بِالنَّاسِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي ذَكَرْتُهُ - أَيْ مِنْ شُهُودِ خَيْرِهِمْ دُونَ شَرِّهِمْ، وَسَلاَمَتِهِمْ مِنْ شَرِّهِ - هُوَ الْمُخْتَارُ الَّذِي كَانَ عَلَيْهِ رَسُول اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَسَائِرُ الأَْنْبِيَاءِ -صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلاَمُهُ عَلَيْهِمْ-، وَكَذَلِكَ الْخُلَفَاءُ الرَّاشِدُونَ وَمَنْ بَعْدَهُمْ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَمَنْ بَعْدَهُمْ مِنْ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ وَأَخْيَارِهِمْ، وَهُوَ مَذْهَبُ أَكْثَرِ التَّابِعِينَ وَمَنْ بَعْدَهُمْ، وَبِهِ قَال الشَّافِعِيُّ، وَأَحْمَدُ، وَأَكْثَرُ الْفُقَهَاءِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ-.
وَاحْتَجَّ الْقَائِلُونَ بِأَفْضَلِيَّةِ الْمُخَالَطَةِ: بِأَنَّ اللَّهَ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - أَمَرَ بِالاِجْتِمَاعِ، وَحَضَّ عَلَيْهِ، وَنَهَى عَنِ الاِفْتِرَاقِ وَحَذَّرَ مِنْهُ، فَقَال تَعَالَى ذِكْرُهُ: ï´؟ وَاعْتَصِمُوا بِحَبْل اللَّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا ï´¾ [ آل عمران:103]، وَأَعْظَمُ الْمِنَّةِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ فِي جَمْعِ الْكَلِمَةِ وَتَأْلِيفِ الْقُلُوبِ مِنْهُمْ فَقَال عَزَّ وَجَل: ï´؟ وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الأَْرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ ï´¾ [ الأنفال: 63]، وَقَال سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: ï´؟ وَلاَ تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ ï´¾ [آل عمران:105].
وَاحْتَجُّوا بِأَحَادِيثَ نَبَوِيَّةٍ مِنْهَا: قَوْل النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "الْمُؤْمِنُ الَّذِي يُخَالِطُ النَّاسَ وَيَصْبِرُ عَلَى أَذَاهُمْ، خَيْرٌ مِنَ الْمُؤْمِنَ الَّذِي لاَ يُخَالِطُهُمْ وَلاَ يَصْبِرُ عَلَى أَذَاهُمْ ".
وَقَالُوا: إِنَّ الْمُخَالَطَةَ فِيهَا اكْتِسَابُ الْفَوَائِدِ، وَشُهُودُ شَعَائِرِ الإِْسْلاَمِ، وَتَكْثِيرُ سَوَادِ الْمُسْلِمِينَ، وَإِيصَال الْخَيْرِ إِلَيْهِمْ وَلَوْ بِعِيَادَةِ الْمَرْضَى، وَتَشْيِيعِ الْجَنَائِزِ، وَإِفْشَاءُ السَّلاَمِ، وَالأَْمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَالتَّعَاوُنُ عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى، وَإِعَانَةُ الْمُحْتَاجِ، وَحُضُورُ جَمَاعَاتِهِمْ، وَغَيْرُ ذَلِكَ مِمَّا يَقْدِرُ عَلَيْهِ كُل أَحَدٍ.
وَنَقَل ابْنُ حَجَرٍ وَالْعَيْنِيُّ عَنْ قَوْمٍ: تَفْضِيل الْعُزْلَةِ؛ لِمَا فِيهَا مِنَ السَّلاَمَةِ الْمُحَقَّقَةِ، لَكِنْ يُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ عَارِفًا بِوَظَائِفِ الْعِبَادَةِ الَّتِي تَلْزَمُهُ وَمَا يُكَلَّفُ بِهِ، قَال الْكِرْمَانِيُّ: الْمُخْتَارُ فِي عَصْرِنَا تَفْضِيل الاِنْعِزَال لِنُدْرَةِ خُلُوِّ الْمَحَافِل عَنِ الْمَعَاصِي.
وَاحْتَجُّوا بِقَوْلِهِ تَعَالَى حِكَايَةً عَنْ إِبْرَاهِيمَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: ï´؟ وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلاَّ أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلًّا جَعَلْنَا نَبِيًّا ï´¾ [مريم:48]، وَبِحَدِيثِ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ الْجُهَنِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لَمَّا قَال: يَا رَسُول اللَّهِ مَا النَّجَاةُ ؟ قَال: "أَمْسِكْ عَلَيْكَ لِسَانَكَ، وَلْيَسَعْكَ بَيْتُكَ وَابْكِ عَلَى خَطِيئَتِكَ".
وَذَهَبَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ إِلَى أَنَّ: حُكْمَ الْعُزْلَةِ وَالْمُخَالَطَةِ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلاَفِ الأَْشْخَاصِ، فَمِنْهُمْ مَنْ يَتَحَتَّمُ عَلَيْهِ أَحَدُ الأَْمْرَيْنِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَتَرَجَّحُ فِي حَقِّهِ أَحَدُهُمَا، وَنَقَل ابْنُ حَجَرٍ عَنِ الْخَطَّابِيِّ: أَنَّ الْعُزْلَةَ وَالاِخْتِلاَطَ يَخْتَلِفَانِ بِاخْتِلاَفِ مُتَعَلِّقَاتِهِمَا، فَتُحْمَل الأَْدِلَّةُ الْوَارِدَةُ فِي الْحَضِّ عَلَى الاِجْتِمَاعِ عَلَى مَا يَتَعَلَّقُ بِطَاعَةِ الأَْئِمَّةِ وَأُمُورِ الدِّينِ، وَعَكْسُهَا فِي عَكْسِهِ، وَأَمَّا الاِجْتِمَاعُ وَالاِفْتِرَاقُ بِالأَْبْدَانِ، فَمَنْ عَرَفَ الاِكْتِفَاءَ بِنَفْسِهِ فِي حَقِّ مَعَاشِهِ وَمُحَافَظَةِ دِينِهِ، فَالأَْوْلَى لَهُ الاِنْكِفَافُ عَنْ مُخَالَطَةِ النَّاسِ بِشَرْطِ أَنْ يُحَافِظَ عَلَى الْجَمَاعَةِ وَالسَّلاَمِ وَالرَّدِّ وَحُقُوقِ الْمُسْلِمِينَ مِنَ الْعِيَادَةِ وَشُهُودِ الْجِنَازَةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَالْمَطْلُوبُ إِنَّمَا هُوَ: تَرْكُ فُضُول الصُّحْبَةِ ؛ لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ شُغْل الْبَال، وَتَضْيِيعِ الْوَقْتِ عَنِ الْمُهِمَّاتِ، وَيُجْعَل الاِجْتِمَاعُ بِمَنْزِلَةِ الاِحْتِيَاجِ إِلَى الْغَدَاءِ وَالْعَشَاءِ، فَيَقْتَصِرُ مِنْهُ عَلَى مَا لاَ بُدَّ لَهُ مِنْهُ فَهُوَ رُوحُ الْبَدَنِ وَالْقَلْبِ.
قَال الْغَزَالِيُّ: إِنْ وَجَدْتَ جَلِيسًا يُذَكِّرُكَ اللَّهَ رُؤْيَتُهُ وَسِيرَتُهُ فَالْزَمْهُ وَلاَ تُفَارِقْهُ، وَاغْتَنِمْهُ وَلاَ تَسْتَحْقِرْهُ، فَإِنَّهَا غَنِيمَةُ الْمُؤْمِنِ وَضَالَّةُ الْمُؤْمِنِ، وَتَحَقَّقَ أَنَّ الْجَلِيسَ الصَّالِحَ خَيْرٌ مِنَ الْوَحْدَةِ، وَأَنَّ الْوَحْدَةَ خَيْرٌ مِنَ الْجَلِيسِ السُّوءِ.
آدَابُ الْعُزْلَةِ:
يَنْبَغِي لِلْعَبْدِ - إِذَا آثَرَ الْعُزْلَةَ - أَنْ يَعْتَقِدَ بِاعْتِزَالِهِ عَنِ الْخَلْقِ سَلاَمَةَ النَّاسِ مِنْ شَرِّهِ، وَلاَ يَقْصِدَ سَلاَمَتَهُ مِنْ شَرِّ الْخَلْقِ، فَإِنَّ الأَْوَّل: نَتِيجَةُ اسْتِصْغَارِ نَفْسِهِ، وَالثَّانِيَ: شُهُودُ مَزِيَّتِهِ عَلَى الْخَلْقِ، وَمَنِ اسْتَصْغَرَ نَفْسَهُ فَهُوَ مُتَوَاضِعٌ، وَمَنْ رَأَى لِنَفْسِهِ مَزِيَّةً عَلَى أَحَدٍ فَهُوَ مُتَكَبِّرٌ، وَأَنْ يَكُونَ خَالِيًا مِنْ جَمِيعِ الأَْذْكَارِ إِلاَّ ذِكْرَ رَبِّهِ، خَالِيًا مِنْ جَمِيعِ الإِْرَادَاتِ إِلاَّ رِضَا رَبِّهِ، وَخَالِيًا مِنْ مُطَالَبَةِ النَّفْسِ مِنْ جَمِيعِ الأَْسْبَابِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ بِهَذِهِ الصِّفَةِ فَإِنَّ خَلْوَتَهُ تُوقِعُهُ فِي فِتْنَةٍ أَوْ بَلِيَّةٍ. وَأَنْ يَتْرُكَ الْخِصَال الْمَذْمُومَةَ ؛ لأَِنَّ الْعُزْلَةَ الْحَقِيقِيَّةَ هِيَ اعْتِزَال الْخِصَال الْمَذْمُومَةِ، فَالتَّأْثِيرُ لِتَبْدِيل الصِّفَاتِ لاَ لِلتَّنَائِي عَنِ الأَْوْطَانِ، وَأَنْ يَأْكُل الْحَلاَل، وَيَقْنَعَ بِالْيَسِيرِ مِنَ الْمَعِيشَةِ، وَيَصْبِرَ عَلَى مَا يَلْقَاهُ مِنْ أَذَى الْجِيرَانِ، وَيَسُدَّ سَمْعَهُ عَنِ الإِْصْغَاءِ إِلَى مَا يُقَال فِيهِ مِنْ ثَنَاءٍ عَلَيْهِ بِالْعُزْلَةِ.
وَلْيَكُنْ لَهُ أَهْلٌ صَالِحَةٌ، أَوْ جَلِيسٌ صَالِحٌ ؛ لِتَسْتَرِيحَ نَفْسُهُ إِلَيْهِ فِي الْيَوْمِ سَاعَةً مِنْ كَدِّ الْمُوَاظَبَةِ، فَفِيهِ عَوْنٌ عَلَى بَقِيَّةِ السَّاعَاتِ.
وَلْيَكُنْ كَثِيرَ الذِّكْرِ لِلْمَوْتِ، وَوَحْدَةِ الْقَبْرِ.
وَلْيَلْزَمِ الْقَصْدَ فِي حَالَتَيِ الْعُزْلَةِ وَالْخُلْطَةِ ؛ لأَِنَّ الإِْغْرَاقَ فِي كُل شَيْءٍ مَذْمُومٌ وَخَيْرُ الأُْمُورِ أَوْسَطُهَا، وَالْحَسَنَةُ بَيْنَ السَّيِّئَتَيْنِ.
قَال الْخَطَّابِيُّ: وَالطَّرِيقَةُ الْمُثْلَى فِي هَذَا الْبَابِ أَلاَّ تَمْتَنِعَ مِنْ حَقٍّ يَلْزَمُكَ لِلنَّاسِ وَإِنْ لَمْ يُطَالِبُوكَ بِهِ، وَأَلاَّ تَنْهَمِكَ لَهُمْ فِي بَاطِلٍ لاَ يَجِبُ عَلَيْكَ وَإِنْ دَعَوْكَ إِلَيْهِ، فَإِنَّ مَنِ اشْتَغَل بِمَا لاَ يَعْنِيهِ فَاتَهُ مَا يَعْنِيهِ، وَمَنِ انْحَل فِي الْبَاطِل جَمَدَ عَنِ الْحَقِّ، فَكُنْ مَعَ النَّاسِ فِي الْخَيْرِ، وَكُنْ بِمَعْزِلٍ عَنْهُمْ فِي الشَّرِّ، وَتَوَخَّ أَنْ تَكُونَ فِيهِمْ شَاهِدًا كَغَائِبٍ، وَعَالِمًا كَجَاهِلٍ.
كَيْفِيَّةُ الاِعْتِزَال:
الاِعْتِزَال عَنِ النَّاسِ يَكُونُ مَرَّةً فِي الْجِبَال وَالشِّعَابِ، وَمَرَّةً فِي السَّوَاحِل وَالرِّبَاطِ، وَمَرَّةً فِي الْبُيُوتِ، وَقَدْ جَاءَ فِي الْخَبَرِ: إِذَا كَانَتِ الْفِتْنَةُ فَأَخْفِ مَكَانَكَ، وَكُفَّ لِسَانَكَ وَلَمْ يَخُصَّ مَوْضِعًا مِنْ مَوْضِعٍ.
وَقَدْ جَعَلَتْ طَائِفَةٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ الْعُزْلَةَ، اعْتِزَال الشَّرِّ وَأَهْلِهِ بِقَلْبِكَ وَعَمَلِكَ إِنْ كُنْتَ بَيْنَ أَظْهُرِهِمْ، قَال ابْنُ الْمُبَارَكِ فِي تَفْسِيرِ الْعُزْلَةِ: أَنْ تَكُونَ مَعَ الْقَوْمِ، فَإِذَا خَاضُوا فِي ذِكْرِ اللَّهِ فَخُضْ مَعَهُمْ، وَإِنْ خَاضُوا فِي غَيْرِ ذَلِكَ فَاسْكُتْ.
وَقَال الْقُرْطُبِيُّ: أَحْوَال النَّاسِ فِي هَذَا الْبَابِ تَخْتَلِفُ، فَرُبَّ رَجُلٍ تَكُونُ لَهُ قُوَّةٌ عَلَى سُكْنَى الْكُهُوفِ وَالْغِيرَانِ فِي الْجِبَال، وَهِيَ أَرْفَعُ الأَْحْوَال ؛ لأَِنَّهَا الْحَالَةُ الَّتِي اخْتَارَهَا اللَّهُ لِنَبِيِّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي بِدَايَةِ أَمْرِهِ، وَنَصَّ عَلَيْهَا فِي كِتَابِهِ مُخْبِرًا عَنِ الْفِتْيَةِ فَقَال: ï´؟ وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلاَّ اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ ï´¾ [ هود: 49]، وَرُبَّ رَجُلٍ تَكُونُ الْعُزْلَةُ لَهُ فِي بَيْتِهِ أَخَفَّ عَلَيْهِ وَأَسْهَل، وَقَدِ اعْتَزَل رِجَالٌ مِنْ أَهْل بَدْرٍ فَلَزِمُوا بُيُوتَهُمْ بَعْدَ قَتْل عُثْمَانَ، فَلَمْ يَخْرُجُوا إِلاَّ إِلَى قُبُورِهِمْ، وَرُبَّ رَجُلٍ مُتَوَسِّطٍ بَيْنَهُمَا فَيَكُونُ لَهُ مِنَ الْقُوَّةِ مَا يَصْبِرُ بِهَا عَلَى مُخَالَطَةِ النَّاسِ وَأَذَاهُمْ، فَهُوَ مَعَهُمْ فِي الظَّاهِرِ وَمُخَالِفٌ لَهُمْ فِي الْبَاطِنِ.
فَوَائِدُ الْعُزْلَةِ:
قَدْ يَكُونُ لِلْعُزْلَةِ فَوَائِدُ مِنْهَا:
أ. التَّفَرُّغُ لِلْعِبَادَةِ وَالْفِكْرِ، وَالاِسْتِئْنَاسِ بِمُنَاجَاةِ اللَّهِ - تَعَالَى -.
ب. التَّخَلُّصُ بِالْعُزْلَةِ مِنَ الْمَعَاصِي الَّتِي يَتَعَرَّضُ الإِْنْسَانُ لَهَا غَالِبًا بِالْمُخَالَطَةِ، وَيَسْلَمُ مِنْهَا فِي الْخَلْوَةِ، وَهِيَ أَرْبَعَةٌ: الْغِيبَةُ وَالنَّمِيمَةُ، وَالرِّيَاءُ، وَالسُّكُوتُ عَنِ الأَْمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَمُسَارَقَةِ الطَّبْعِ مِنَ الأَْخْلاَقِ الرَّدِيئَةِ، وَالأَْعْمَال الْخَبِيثَةِ الَّتِي يُوجِبُهَا الْحِرْصُ عَلَى الدُّنْيَا.
ج. الْخَلاَصُ مِنَ الْفِتَنِ وَالْخُصُومَاتِ، وَصِيَانَةُ الدِّينِ وَالنَّفْسِ عَنِ الْخَوْضِ فِيهَا وَالتَّعَرُّضِ لأَِخْطَارِهَا.
د. الْخَلاَصُ مِنْ شَرِّ النَّاسِ.
هـ. السَّلاَمَةُ مِنْ آفَاتِ النَّظَرِ إِلَى زِينَةِ الدُّنْيَا وَزَهْرَتِهَا وَالاِسْتِحْسَانُ، لِمَا ذَمَّهُ اللَّهُ - تَعَالَى - مِنْ زُخْرُفِهَا وَعَابَهُ مِنْ زَبْرَجِ غُرُورِهَا.
و. السَّلاَمَةُ مِنَ التَّبَذُّل لِعَوَامِّ النَّاسِ وَحَوَاشِيهِمْ، وَالتَّصَوُّنُ عَنْ ذِلَّةِ الاِمْتِهَانِ مِنْهُمْ.
آفَاتُ الْعُزْلَةِ:
قَال الْغَزَالِيُّ: اعْلَمْ أَنَّ مِنَ الْمَقَاصِدِ الدِّينِيَّةِ وَالدُّنْيَوِيَّةِ مَا يُسْتَفَادُ بِالاِسْتِعَانَةِ بِالْغَيْرِ وَلاَ يَحْصُل ذَلِكَ إِلاَّ بِالْمُخَالَطَةِ، فَكُل مَا يُسْتَفَادُ مِنَ الْمُخَالَطَةِ يَفُوتُ بِالْعُزْلَةِ وَفَوَاتُهُ مِنْ آفَاتِ الْعُزْلَةِ.]
[19] انظر: تحفة الأحوذي، كتاب: صفة القيامة، باب: مطلق آخر باب في الكتاب، حديث (2935).