ابن العربي: القاضي الفقيه والرحالة الأديب
وائل عزت معوض
مصر:
نزل ابن العربي في مرفأ الإسكندريَّة ولم يطل بهم المقام بها، ومن ثمَّ واصلا سيْرَهُما إلى القاهرة، وكان وصولهما إليْها في أواخر ربيع الثاني سنة 485هـ.
ويصف ابن العربي حالة الرّكود العلمي لعُلماء مصر، والظّروف السيِّئة التِي تمرُّ بها البلاد في ذلك الوقت قائلاً: "ألفيْنا بها - أي مصر - جماعةً من المحدِّثين والفقهاء والمتكلِّمين، والسلطان[17] عليهم جريٌّ، وهم من الخمول في سرب خفِي، ومن هجران الخلْق بحيث لا يرشد إليهم جريء، لا ينبِسون من العلم ببنت شفة، ولا ينتسب أحدٌ منهم في فنّ إلى معرفة، بله الأدب.."[18].
ورغْم هذه الحالة التي كان عليْها علماء مصر، إلاَّ أنَّ أبا بكر بن العربي كان يتردَّد على مجالس القرَّاء، ويبدي إعْجابَه بطريقة القراء المصريين فيقول: "وقَدْ سَمِعْت تَاجَ القُرَّاءِ ابْنَ لُفْتَة بِجامِعِ عَمْرٍو يَقْرَأُ: {وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ} [الإسراء: 79]، فكَأَنِّي ما سَمِعْت الآيَةَ قَطُّ، وسَمِعْت ابْنَ الرَّفَّاء - وكَانَ مِن القُرَّاءِ العِظَام - يَقْرَأُ، وأنَا حَاضِرٌ بالقَرافَةِ: {كهيعص} فكَأَنِّي ما سَمِعْتهَا قَطُّ، ....... والقُلُوبُ تَخْشَعُ بِالصَّوْتِ الحَسَنِ كَما تَخْضَعُ لِلوَجْهِ الحَسَنِ، وما تَتَأَثَّرُ بِه القُلُوبُ في التَّقْوَى فهُوَ أعْظَمُ في الأجْرِ وأقْرَبُ إلى لِينِ القُلُوبِ وذَهابِ القَسْوَةِ مِنْها"[19].
وفي مصر تدرَّب أبو بكر على الجدل، وناظر الشِّيعة والقدريَّة، ويصف هذه الطَّوائف قائلاً: "أمَّة غلب عليْها سوء الاعتقاد، ونشئت من غير فطم بلبن العناد، واستولى اليأس منهم على ما هم فيه من الفساد"[20].
القدس:
غادر أبو بكر وأبوه مصر ومنها انطلقا إلى فلسْطين، وفي نيَّتِهما مواصلة السَّير، فواصلا المسير إلى بيت المقْدس، قُبَيْل نهاية سنة 485هـ، وكان بِيَد السَّلاجقة مقاليد الحكم، وكانوا يعملون على نشْرِ الوعْي الإسلامي، وفي القدس يَجد ابن العرَبي بُغْيَته من طلب العلم، فبِها كثرة من العُلماء، وتنوُّع في المذاهب، ووفْرة في المدارس، وتعدُّد في الأدْيان.
فيقول: "ثم رحلنا عن ديار مصر إلى الشام، وأملنا الأمام، فدخلنا الأرْض المقدَّسة، وبلغنا المسجد الأقصى، فلاح لي بدرُ المعرفة، فاستنرتُ به أزْيد من ثلاثة أعوام... وقُلْت لأبي: إن كانت لك نيَّة في الحجّ فامض لعزْمِك، فإنِّي لست برائِم عن هذه البلدة حتَّى أعلم عِلْمَ مَن فيها، وأجعل ذلك دستورًا للعلم، وسلَّمًا إلى مراقيها، فسَاعدني حين رأى جِدِّي، وكانت صحبتُه لي من أسباب جَدّي.."[21].
ولقد طالت إقامة ابن العربي ببيت المقدس أربعين شهرًا – أي: حوالي ثلاثة أعوام أو يزيد - حيث وجد أبو بكر بن العربي القُدس بيئة صالحة للتعلّم والتحصيل، كما وجد بِها مدارس للشَّافعية والحنفيَّة، كما أنَّ الشيوخ والعلماء يعقدون مجالس العلم والمناظرة بين أصحاب المذاهب المختلِفة، والمناظرة بين أصحاب الديانات المختلفة، لقد أغْراه هذا الجوُّ العلمي في القدس، فأقبل على علوم عصْرِه يلتهِمُها، فاستوفى علم الكلام، وأصول الفقه، ومسائل الخلاف، الأمر الَّذي من أجله اتَّخذ قرارَ تأجيل رحلته إلى الحج، رغْم إلحاح والده عليه.
وفي رحاب المسجِد الأقصى كان أبو بكر يقْضِي معظمَ أوقاته، يظلُّ نهارَه في الدرس والتحصيل، ويبيت ليلَه في التهجُّد والعبادة، وحرص ابن العربي على طلب العلم، واستيفاء تحصيله العلمي من شيوخها، فحرص على لقاء جماعة من العُلماء والمحدِّثين الفقهاء الَّذين أخذ عنهم، وتتلْمذ على يد شيخِه الأندلسي أبي بكْر الفهري الطرطوشي (451 - 520هـ).
ورغْم اشتغال ابن العربي بالدَّرس والتَّحصيل، إلاَّ أنَّه حرَص خلال جولاتِه، على زيارة قبور الأنبِياء والصَّالحين، وتسْجيل مشاهداتِه وانطِباعاته، والوقوف على الآثار، فزار قبرَ يُوسف - عليه السلام - وقبر يونس - عليه السلام - وباب حطَّة وقد دخله سنة 486هـ، ومسجد عمر بن الخطَّاب.
ويصِف صخرة المائِدة قائلاً: "شاهَدْت المَائِدةَ بِطُورِ زَيْتَا[22] مِرارًا، وأكَلْت عَلَيْها لَيْلاً ونَهارًا، وذَكَرْت اللَّهَ – سُبْحانَه - فِيهَا سِرًّا وجِهارًا، وكانَ ارْتِفاعُها أسْفَلَ مِن القَامَةِ بِنَحْوِ الشِّبْرِ، وكانَ لهَا دَرَجَتانِ قَلْبِيًّا وجَوْفِيًّا، وكانَتْ صَخْرَةً صَلْداءَ لا تُؤَثِّرُ فِيها المَعاوِلُ، فَكانَ النَّاسُ يَقُولُونَ: مُسِخَتْ صَخْرَةً إذْ مُسِخَ أرْبَابُها قِرَدَةً وخَنَازيرَ، والَّذي عِنْدي أنَّها كَانَتْ في الأصْلِ صَخْرَة قُطِعَتْ مِن الأرْضِ مَحلاًّ لِلمَائِدةِ النَّازِلَةِ مِن السَّماءِ، وكُلُّ ما حَوْلَها حِجَارَةٌ مِثْلُها، وكَانَ ما حَوْلَها محْفُوفًا بِقُصُورٍ، وقَدْ نُحِتَ فِي ذَلِكَ الحَجَرِ الصَّلدِ بُيُوتٌ، أبْوَابُها مِنْها، ومَجالِسُها مِنْها مَقْطُوعَةٌ فِيها، وحَناياها في جَوانِبِها، وبُيُوتُ خِدْمَتِها قَدْ صُوِّرَتْ مِن الحَجَرِ، كَما تُصَوَّرُ مِن الطِّينِ والخَشَبِ، فإذَا دَخَلْت في قَصْرٍ مِنْ قُصُورِها، ورَدَدْت البَابَ، وجَعَلْت مِنْ وَرَائِه صَخْرَةً كَثُمْنِ دِرْهَمٍ، لم يَفْتَحْه أهْلُ الأرْضِ لِلُصُوقِهِ بِالأرْض، فإذا هَبَّت الرِّيحُ وحَثَتْ تَحْتَهُ التُّرَابَ، لم يُفْتَحْ إلاَّ بَعْدَ صَبِّ المَاءِ تَحْتَهُ والإكْثَارِ مِنْهُ، حتَّى يَسِيلَ بالتُّرابِ ويَنْفَرِجَ مُنْعَرَجُ البَابِ، وقَدْ مَاتَ بِها قَوْمٌ بِهَذه العِلَّةِ، وقَدْ كُنْت أخْلُو فِيهَا كَثِيرًا للدَّرْسِ، ولكِنِّي كُنْت في كُلِّ حِينٍ أكْنُسُ حَوْلَ البَابِ مَخافَةً مِمَّا جَرى لِغَيْرِي فِيها، وقَدْ شَرَحْت أمْرَها في كِتَاب "تَرْتيبِ الرِّحْلة" بِأكْثَرَ مِن هَذا"[23].
ويصف محراب داود - عليْه السلام - قائلاً: "شاهَدْت مِحْرابَ دَاوُد - عليه السلام - في بَيْتِ المَقْدِسِ بِناءً عَظِيمًا مِنْ حِجارَةٍ صَلْدَةٍ لا تُؤَثِّرُ فِيها المَعاوِلُ، طُولُ الحَجَرِ خَمْسُونَ ذِراعًا، وعَرْضُه ثَلاثة عَشَرَ ذِراعًا، وكُلَّما قَامَ بِناؤُهُ صَغُرَتْ حِجارَتُه، ويُرى لَه ثَلاثَة أسْوَارٍ؛ لأنَّهُ في السَّحابِ أيَّامَ الشِّتَاءِ كُلَّها لا يَظْهَرُ لارْتِفاعِ مَوْضِعِه وارْتِفَاعُهُ في نَفْسِه، لَهُ بَابٌ صَغِيرٌ، ومَدْرَجةٌ عَرِيضةٌ، وفِيه الدُّورُ والمَساكِنُ، وفي أعْلاهُ المَسْجِدُ، وفِيه كُوَّةٌ شَرْقِيَّةٌ إلى المَسْجِد الأقْصَى في قَدْرِ البابِ... وليْسَ لأحَدٍ في هَدْمِه حِيلَةٌ"[24].
ثم يصف ابن العربي مشهدًا لثائرٍ على واليه، ويُقارن بين حال أهل القدس، وموقفهم من الثورة، وبين حال أهل الأندلس، وموقفهم من هذه الفِتْنَة لو حدثت في بلادهم:
"ورَأَيْت فِيه – أي: محراب داود، عليْه السَّلام - غَرِيبةَ الدَّهْرِ، وذَلِك أنَّ ثائِرًا ثارَ بِه على والِيهِ، وامْتَنَعَ فِيه بِالقُوتِ، فحَاصَرَهُ، وحَاوَلَ قِتالَهُ بِالنُّشَّابِ مُدَّةً، والبَلَدُ على صِغَرِه مُسْتَمِرٌّ على حَالِه، ما أُغْلِقَتْ لِهَذِه الفِتْنَةِ سُوقٌ، ولا سَارَ إليْها مِن العَامَّةِ بَشَرٌ، ولا بَرَزَ لِلحَالِ مِن المَسْجِدِ الأقْصَى مُعْتَكِفٌ، ولا انْقَطَعَتْ مُناظَرةٌ، ولا بَطَلَ التَّدْرِيسُ، وإنَّما كَانَت العَسْكَرِيَّةُ قَد تَفَرَّقَتْ فِرْقَتَيْنِ يَقْتَتِلُونَ، ولَيْسَ عِنْدَ سائِرِ النَّاسِ لِذَلِك حَرَكَةٌ، ولو كَانَ بَعْضُ هذا في بِلادِنا لاضْطَرَمَتْ نارُ الحَرْبِ فِي البَعِيدِ والقَرِيبِ، ولانْقَطَعَت المَعَايِشُ، وغُلِّقَت الدَّكَاكِينُ، وبَطَلَ التَّعامُلُ لِكَثْرةِ فُضولِنا وقِلَّةِ فُضولِهمْ"[25].
وتجوَّل في ربوع القدس، وشرق الأردن، فزار أكثرَ من ألفِ قرية ومدينة، منها مدينة نابلس ووصف نساءَها قائلاً: "ولقَد دخَلْت نَيِّفًا على ألْفِ قَرْيَةٍ مِن بَرِيَّةٍ، فمَا رَأيْت نِسَاءً أصْوَنَ عِيالاً، ولا أعَفَّ نِساءً مِن نسَاءِ نابُلُسَ... فإنِّي أقَمْت فِيها أشْهُرًا، فمَا رَأيْت امْرَأَةً في طَريقٍ نَهارًا، إلاَّ يَوْمَ الجُمُعةِ، فإنَّهُنَّ يَخْرُجْنَ إلَيْها حتَّى يَمْتَلِئَ المَسْجِدُ مِنْهُنَّ، فإذا قُضِيَتِ الصَّلاةُ، وانْقَلَبْنَ إلى مَنَازِلهِنَّ، لم تَقَعْ عيْنِي على وَاحِدَةٍ مِنْهُم إلى الجُمُعَةِ الأُخْرَى، وسائِرُ القُرى تُرَى نِساؤُها مُتَبرِّجاتٍ بِزِينةٍ وعُطْلةٍ[26]، مُتَفَرِّقاتٍ في كُلِّ فِتْنَةٍ وعُضْلَةٍ[27]، وقدْ رَأيْت بِالمَسْجِدِ الأقْصَى عَفائِفَ ما خَرَجْنَ مِنْ مُعْتَكَفِهنَّ حَتَّى اسْتشْهدْنَ فِيه"[28].
ثمَّ يزور مدينة عسقلان، فينجذب إليها، ويعجب بنشاط أهلها، وخفَّة روحهم، فيقيم بها نحو ستَّة أشهر، ويتَّخذ جملة من الرُّفَقاء والإخوان، لولا هاتف ديني أوْحى إليه بالرحيل، ما كان يترك تلك البلدة رغْم إلحاح أبيه عليْه بالرَّحيل، وأفصح لأبيه عن نيَّته في الرَّحيل، فسرَّ بذلك، وركبا البحْر إلى عكَّا، ثم عرجا على طبرية وحوران، ثمَّ دمشق.
دمشق:
وقد وصل أبو بكر بن العربي وأبوه دمشق في الشُّهور الأولى من سنة 489هـ، واختار ابن العربي من باب الفراديس مقرًّا له، ويصِف ابن العربي هذا الباب فيقول: "بابُ الفَرادِيسِ لَيْسَ في الأرْضِ مِثْلُه، عِنْدَهُ كَانَ مَقرِّي، وإليْهِ مِن الوَحْشَةِ كَانَ مَفرِّي، وإليْه كانَ انْفِرادي لِلدَّرْسِ والتَّقرِّي"[29].
لم يطل المقام بابن العربي في دمشق؛ لأنَّ الحركة العلميَّة فيها تكاد تكون متشابهة مع الحركة العلميَّة التي في القدس، فدمشق لن تضيفَ إليه جديدًا، فنوى الرَّحيل إلى بغداد، وعلى الرَّغْم من قِصَر مدَّة الإقامة في دمشق، إلاَّ أنَّ ابن العربي كانت له جوْلاته ومشاهداتُه الَّتي لم يفُتْه تدوينُها، فوصف لنا ابن العربي المعالم الأثريَّة والتَّاريخيَّة في دمشق، كما صوَّر عمران دمشق وتقدُّمَها في أسباب الرّفاهة والصّيانة والنَّعيم.
فيقول عن أحد هذه المشاهِد العجيبة الَّتي رآها في دمشق: "لقَدْ كُنْت أرَى بِدِمَشْقَ عَجبًا، كَانَ لِجامِعِها بابانِ: بَابٌ شَرْقِيٌّ، وهُوَ بَابُ جَيْرُونَ، وبابٌ غَرْبيٌّ، وكَانَ النَّاسُ يَجْعَلُونَهُ طَريقًا يَمْشُونَ عليها نَهارَهُم كُلَّهُ في حَوائِجِهم، وكَانَ الذِّمِّيُّ إذَا أرَادَ المُرُورَ وقَفَ على البابِ حتَّى يَمُرَّ بِه مُسْلِمٌ مُجْتَازٌ، فيقُول لهُ الذِّمِّيُّ: يا مُسْلِمُ، أتَأْذنُ لي أنْ أمُرَّ مَعَك؟ فيقُولُ: نَعَمْ، فيَدْخُلُ معَهُ، وعليْه الغِيارُ عَلامَة أهْلِ الذِّمَّة، فإذَا رَآهُ القَيِّمُ صاحَ بِه: ارْجِع، ارْجِعْ، فيقُولُ لَه المُسْلِمُ: أنا أَذِنْت لهُ فيَتْرُكُهُ القَيِّمُ"[30].
ويصف مدينة دمشق قائلاً: "مَدِينَةٌ بأعْلاها، ومَدِينَةٌ بِأسْفَلِها، تَشُقُّها تِسْعَةُ أنْهارٍ؛ لِلقَصَبةِ نَهْرٌ، ولِلجامِعِ نَهْرٌ، وباقِيها لِلْبَلدِ، وتجْرِي الأنْهارُ مِنْ تَحْتِها كما تَجْرِي مِنْ فَوْقِها، لَيْسَ فِيها كِظَامةٌ وَلا كَنيفٌ، ولا فِيها دَارٌ، ولا سُوقٌ، وَلا حَمَّامٌ، إلاَّ ويشُقُّهُ المَاءُ لَيْلاً ونَهارًا دَائِمًا أبدًا، وفِيها أرْبَابُ دُورٍ قَدْ مَكَّنُوا أنْفُسَهُم مِن سَعَةِ الأحْوالِ بِالماءِ، حتَّى إنَّ مُسْتَوْقَدَهُم عليْه سَاقِيةٌ، فإذا طُبِخَ الطَّعامُ وُضِعَ في القَصْعةِ، وأُرْسِلَ في السَّاقِية، فيُجْرَفُ إلى المَجْلِسِ فيُوضعُ في المَائِدةِ، ثُمَّ تُرَدُّ القَصْعةُ مِن النَّاحِية الأخْرى إلى المُسْتَوْقَدِ فَارِغةً، فَتُرْسَلُ أُخْرى مَلأى، وهَكَذَا حتَّى يَتِمَّ الطَّعامُ، وإذا كَثُرَ الغُبارُ في الطُّرُقَاتِ أمَر صاحِبُ الماءِ أن يُطْلَقَ النَّهْرُ على الأسْواقِ والأرْباضِ فيَجْري الماءُ علَيْها، حتَّى يَلْجأَ النَّاسُ في الأسْواقِ والطُّرُقَاتِ إلى الدَّكاكينِ، فإذا كُسِحَ غُبارُها سَكَّرَ السَّاقِيانِيُّ أنْهارَها، فَمَشَيْت في الطُّرُقِ على بَرْدِ الهَواءِ ونَقَاءِ الأرْضِ، ولهَا بَابُ جَيْرُون بْنِ سَعدِ بْنِ عُبَادَة، وعِنْدَهُ الْقُبَّةُ الْعَظِيمةُ والمِيقَاتَاتُ لِمَعْرِفَةِ السَّاعاتِ، عَليْها بابُ الفَرَادِيسِ ليْسَ في الأرْضِ مِثْلُه، عِنْدَهُ كَانَ مَقرِّي، وإليْه مِن الوَحْشَةِ كَانَ مَفرِّي، وإلَيْه كَانَ انْفِرادِي لِلدَّرْسِ والتَّقرِّي، وفِيها الغُوطةُ مَجْمَعُ الفَاكِهاتِ، ومَنَاطُ الشَّهَواتِ، عليْها تَجْرِي المِياهُ، ومِنْها تُجْنَى الثَّمَراتُ"[31].
بغداد:
قلنا بأنَّ المقام لم يطل بابن العربي في دمشق، فرحل إلى بغداد، في شعبان سنة 489هـ، وأهلَّ هلال رمضان والقافلة على مشارف العراق، فلمَّا دخل دار السَّلام، كان أوَّل شيء يفعله هو السُّؤال عن حلقات أهل العلم، فدلّوه على المدرسة النظاميَّة، ولكنَّ إقامة ابن العربي لم تطُل بالعراق أكثر من ثلاثة أشهُر، حيثُ نوى أداء فريضة الحجّ هذا الموسم، ورحل ابن العربي إلى الحجاز أواخر ذي القعدة سنة 489هـ.
الحجاز:
خرج ابن العربي من بغداد، إلى بلاد الحجاز، قاصدًا الحجّ، فأحرم من ذات عرق - وهو ميقات الحجيج القادمين من العِراق ونواحيها - يقول ابن العربي: "أمَّا أنا فجئت مراهقًا من ذات عرق إلى الموقف ليلة عرفة، نصفَ الليل، فأصبحت بها، ووقفتُ من الزَّوال يوم الجمعة سنة سبع وثمانين وأربعمائة[32]، ثم دفعت بعد غروب الشمس إلى المزدلفة، فبتّ بها"[33].
ولا يُخفي ابنُ العربي شعورَه الجارف بالسَّعادة لأدائِه فريضة الحجّ في هذا الموسم؛ لأنَّ وقفة عرفة جاءت في يوم الجمعة، فاجتمع للحجيجِ فضل اليوميْن، "لمَّا كانت سنة تسع وثمانين وأربعمائة[34] أهلَّ عليْنا هلال ذي الحجَّة ليلة يوم الخميس... وقد فرِح الناس بوقْفة الجمعة ليجتمع لهم فضل اليوميْن: فضل يوم عرفة وفضل يوم الجمعة؛ ولأنَّ حجَّ النَّبيِّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - أيضًا كان يوم عرفة يوم الجمعة"[35].
وقد شاهد قافلةً من الحجيج الشِّيعة القادمين من العراق سنة 489هـ، وقد تركوا الإحرام من ميقات ذات عرق، فـ "الشيعة لا يُحرمون منه"[36].
ومنَ المشاهد المهمَّة التي سجَّلها ابن العربي أثناء إقامته بمكَّة في موسم الحجّ: مشهد مبيت الحجَّاج بعرفة ليلة عرفة، قال: "مررتُ من ذات عرق، فألفيت الحاجَّ كلَّه بائتًا بعرفة ليلة عرفة"[37].
"وهذا بخلاف السنَّة النبويَّة؛ إذ ينبغي أن يكونَ مبيت الحاجِّ في تلك الليلة بمنى لا عرفة"[38]، "وليس على مَن فعل ذلك شيء، ولكنَّه تركَ فعل رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - ولقد خاب مَن تركه"[39].
ويعلِّق الأستاذ محمد أحمد العقيلي على هذا المشْهد، ذاكرًا سبب عدم مبيت الحجيج في منى فيقول: "الحجيج في ذلك الوقت كانوا غير آمنين على أنفُسِهم أثناء تأدِيَتهم لمناسك الحجّ، فاضطروا إلى ترْك سنَّة المبيت بمنى في اليوم الثَّامن من ذي الحجَّة، فكانوا يصعدون إلى منى في ذلك اليوم، ثمَّ يتوجَّهون منها مباشرة إلى عرفة؛ خوفًا من غارات محتَمَلة قد يشنُّها بنو شعبة على الحجَّاج أثناء صعودهم لعرفات"[40].
ثم يقول ابنُ العربي: "لقد كُنْت بِمَكَّة مُقيمًا في ذي الحِجَّةِ، سنَة تِسْعٍ وثَمانِينَ وأرْبعِمِائَةٍ، وكُنْت أشْرَبُ ماءَ زَمْزَمَ كثيرًا، وكُلَّما شَرِبْته نَوَيْت بِه العِلمَ والإِيمانَ، حتَّى فَتَحَ اللَّه لي بَرَكَتَه في المِقْدارِ الَّذي يَسَّرَهُ لي مِن العِلمِ، ونَسِيت أن أشْرَبَه لِلعَمَلِ، ويا لَيْتَني شَرِبْته لهُما حتَّى يَفْتَحَ اللَّهُ عليَّ فِيهِما، ولمْ يُقَدَّرْ، فكانَ صَغْوِي إلى العِلمِ أكْثَرَ مِنهُ إلى العَمل"[41].
وصف ابن العربي مشاهداتِه ودوَّن انطباعاته، فصوَّر لنا معالم الحرم المكِّي، كما توقَّف عند المعالم الأثريَّة والتَّاريخيَّة بمكَّة، كما تحرَّى الدقَّة في استِقْصاء الأخبار، وحرص على وصْف نُظم التعليم ووسائله في مكَّة، وأبدى إعجابه الشَّديد بتلك الوسائل، كما أثْنى على الطَّريقة المتَّبعة في التَّعليم، والَّتِي تقوم على أساس التدرُّج في اكتِساب العلوم.
فيقول: "كُنْت أحْضُرُ عِنْدَ الحاسِبِ بِتِلْكَ الدِّيارِ المُكَرَّمةِ، وهُوَ يَجْعَلُ الأعْدادَ على المُتَعَلِّمِينَ الحَاسِبينَ، وأفْوَاهُهُم مَمْلُوءةٌ مِن الماءِ، حتَّى إذا انْتَهَى إلْقاؤُهُ، وقالَ: ما مَعَكُم؟ رَمَى كُلُّ واحِدٍ بِما في فَمِه، وقالَ ما مَعَهُ لِيُعَوِّدَهم خَزلَ اللِّسَانِ عَن تَحْصِيلِ المَفْهُومِ عَن المَسْموعِ، وللقَوْمِِ في التَّعلُّمِ سِيرَةٌ بَديعةٌ، وهيَ أنَّ الصَّغِيرَ مِنْهُم إذا عَقَلَ بعَثُوهُ إلى المَكتبِ، فَإذا عَبَرَ المَكتبَ أخَذَهُ بِتَعْلِيم الخَطِّ والحِسَابِ والعَربِيَّةِ، فإذا حَذَقَهُ كُلَّهُ أوْ حَذَقَ مِنْهُ مَا قُدِّرَ لَه، خَرَجَ إلى المُقْرِئِ فلَقَّنَهُ كِتَابَ اللَّهِ، فَحَفِظَ مِنْهُ كُلَّ يَوْمٍ رُبْعَ حِزْبٍ، أوْ نِصْفَه، أوْ حِزْبًا، حتَّى إذا حَفِظَ القُرْآنَ خرَجَ إلى مَا شَاءَ اللَّهُ مِن تَعْلِيمِ العِلمِ أوْ تَرْكِه، ومنْهُم - وهُم الأكْثَرُ - مَنْ يُؤَخِّرُ حِفْظَ القُرْآنِ، ويتَعَلَّمُ الفِقْه والحَدِيثَ، وما شَاءَ اللَّهُ، فَرُبَّما كانَ إمامًا، وهُوَ لا يحْفَظُه، وما رَأَيْت بِعَيْني إمامًا يَحْفَظُ القُرْآنَ، ولا رَأيْت فَقِيهًا يَحْفظُه إلاَّ اثْنَيْنِ، ذَلِكَ لِتَعْلَموا أنَّ المَقْصودَ حُدُودُه لا حُرُوفُه، وعُلِّقَت القُلُوبُ اليَوم بِالحُرُوفِ، وضَيَّعُوا الحُدُودَ"[42].
وابنُ العربي في مكَّة والمدينة لا ينسى طلبَه للعلم، فيواصل ابن العربي طلبَ العِلْم، على يد مشايخ وعلماء مكَّة والمدينة، فجلس إليهم مدَّة، ثم "عاد إلى بغداد ثانية، وصحِب بها كثيرًا من العلماء والأدباء، فأخذ عنهم وتفقَّه عندهم، وسمع العِلْم منهم"[43].
وللموضوع تتمة