هدايات سورة الإسراء
. د. أحمد ولد محمد ذو النورين
أبرز القواعد المستخلصة من السورة:
• {إنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لأَنفُسِكُمْ وَإنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا} [الإسراء: ظ§]: إنها قاعدة العمل والجزاء التي لا تتغير ولا تتبدل، وقد جاءت بصيغ أخرى؛ منها ما ورد في سورة فصلت: {مَنْ عَمِلَ صَالِـحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا} [فصلت: 46]، وما جاء في سورة الزلزلة: {فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ ظ§ وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} [الزلزلة: ظ§ - ظ¨]؛ فمن أحسن بالإيمان والطاعة فقد أحسن إلى نفسه ونفعها، ومن أساء إليها بالكفر والمعاصي فإنما أضر بها وأساء عليها؛ فالله وحدَه الغني - جل شأنه - لا ينفعه إيمان مؤمن ولا يضره كفر كافر.
• {إنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} [الإسراء: ظ©]: يقول الشيخ محمد الأمين الشنقيطي: (ذكر - جل وعلا - في هذه الآية الكريمة أن هذا القرآن العظيم الذي هو أعظم الكتب السماوية، وأجمعُها لجميع العلوم، وآخرُها عهداً برب العالمين - جل وعلا -: {يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ}؛ أي الطريقة التي هي أسدُّ وأعدل وأصوب)[12]، وقد وردت هذه القاعدة بصيغ متعددة، من ذلك ما جاء في سورة الأعراف {وَلَقَدْ جِئْنَاهُم بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ هُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [الأعراف: 52] وهي قاعدة مطلقة؛ إذ إن هداية القرآن شاملة لأقوَم الطرق، وأوضح السبل، وأعدل الأحكام، وأنصع العقائد، وأحسن التعامل، وأجلِّ الأخلاق؛ فمن اعتصم به كان أكمل الناس شأناً وأهداهم سبيلاً وأقومهم طريقة .
• {وَكَانَ الإنسَانُ عَجُولاً} [الإسراء: ظ،ظ،]: وهي قاعدة عامة تبيِّن استعجال الإنسان وعدم توخيه لعواقب الأمور وتجاوزه للنظر في مصائرها، وقد وردت في سورة الأنبياء بصيغة أخرى: {خُلِقَ الإنسَانُ مِنْ عَجَلٍ} [الأنبياء: 37]؛ ذلك أن المؤمن يستعجل النصر والكافر يستبطئ العذاب ويستهزئ بالوعيد. ومن رحمة الله - تعالى - بالبشر أنه - جل شأنه - لم يعجِّل لهم كثيراً مما يطلبون؛ إذ يستعجلون الشر استعجالهم للخير: {وَيَدْعُ الإنسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءَهُ بِالْـخَيْرِ} [الإسراء: ظ،ظ،].
• {وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا} [الإسراء: 20]: وهي قاعدة جليلة؛ فلا رادَّ لحكم الله - تعالى - ولا مانع لما أعطى ولا مبدِّل لما أراد؛ فهو - سبحانه - الفعَّال لما يريد العدل الحكيم الخبير يعطي ويمنع لا معقِّب لحكمه ولا رادَّ لقضائه، وقد وردت هذه القاعدة بصيغ كثيرة؛ منها ما جاء في سورة البقرة: {وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَن يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [البقرة: ظ¢ظ،ظ¢]، ومنها ما جاء في سورة آل عمران: {يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَن يَشَاءُ} [آل عمران: 74].
• {وَمَا أُوتِيتُم مِّنَ الْعِلْمِ إلاَّ قَلِيلاً} [الإسراء: 85]: وهي قاعدة يثبتها الواقع؛ فَعِلم الإنسان محدود وعقله قاصر عن الإحاطة بالأشياء، لا سلطان له على الغيب؛ بل عاجز عن إدراك ما يحتاجه مما ليس غيباً؛ فكيف يدرك ما لا يحتاجه مما هو ممنوع من الاطلاع عليه، وعجزه هذا أبدي لا تعلُّق له بزمن، وقد وردت هذه القاعدة بصيغ متعددة؛ منها ما جاء في سورة البقرة: {وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إلاَّ بِمَا شَاءَ} [البقرة: 255]، وقد ورد قوله - تعالى -: {وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لا تَعْلَمُونَ} في ثنايا عدد من سور القرآن الكريم؛ وهو ما يدل على جهل البشرية الخلقي.
• {وَكَانَ الإنسَانُ قَتُورًا} [الإسراء: 100]: فالبشر مطبوعون بجبلَّتهم على شدة البخل والجشع والأنانية، فلو أنهم كانوا خَزَنة رحمة الله - تعالى - لمنعوها وبخلوا بها؛ خوفاً من نفادها ونقصانها وحرصاً على الاختصاص؛ رغم أنه لا يعتورها نقص ولا ينالها نفاد؛ لكن الجبلَّة البشرية كذلك، وقد وردت هذه القاعدة في ثنايا القرآن بصيَغ وافرة؛ من ذلك ما ورد في سورة النساء: {أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِّنَ الْـمُلْكِ فَإذًا لاَّ يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيرًا} [النساء: 53]، وما ورد في سورة المعارج: {تَدْعُو مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى 17 وَجَمَعَ فَأَوْعَى 18 إنَّ الإنسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا 19 إذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا 20 وَإذَا مَسَّهُ الْـخَيْرُ مَنُوعًا} [المعارج: ظ§ظ، - ظ،ظ¢]، وما ورد في سورة القتال: {وَإن تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ وَلا يَسْأَلْكُمْ أَمْوَالَكُمْ 36 إن يَسْأَلْكُمُوهَا فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُوا وَيُخْرِجْ أَضْغَانَكُمْ} [محمد: 36 - 37][13].
قصة وهدف:
من قوله - تعالى -:{وَقَضَيْنَا إلَى بَنِي إسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا} [الإسراء: ظ¤] إلى قوله - تعالى -: {عَسَى رَبُّكُمْ أَن يَرْحَمَكُمْ وَإنْ عُدتُّمْ عُدْنَا وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيرًا} [الإسراء: ظ¨] يخبر - سبحانه - أنه أعلمَ بني إسرائيل في الكتاب الذي أُنزِل عليهم أنهم سيفسدون في الأرض ويفجرون فيها ويطغون ويتجبرون، وأنهم كلما صدر منهم ذلك سلط عليهم جنداً من عنده أُولِي بطش وبأس ينكِّلون بهم ويذيقونهم أصناف الإهانة والعذاب. وقد اختلف المفسرون (سلفاً وخلفاً) في تاريخ التسليط وهوية المسلَّطين؛ غير أن الذي لا يماري فيه أحد أن بني صهيون قد بلغوا في عصرنا الحاضر من العتو والاستكبار والغطرسة والظلم والتجبر ما لم تكد تبلغه أمة في التاريخ البشري.
وقد جاءت قصة بني إسرائيل هذه لتكشف عن جانب من جبلَّتهم الخسيسة، وتوضح طرفاً من حياتهم الجاحدة، وتميط اللثام عن صنفهم المتغطرس.
لقد كان بنو إسرائيل أكثر الناس ذكراً في القرآن؛ لأنهم أكثر الخلائق مكراً بحَمَلَة الحق، وأشدهم إعراضاً عن الوحي: {كُلَّمَا جَاءَهُمْ رَسُولٌ بِمَا لا تَهْوَى أَنفُسُهُمْ فَرِيقًا كَذَّبُوا وَفَرِيقًا يَقْتُلُونَ} [المائدة: 70]، وهم أسوَد الأمم تاريخاً في سفك دماء الأنبياء: {وَقَتْلَهُمُ الأَنبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ} [آل عمران: ظ،ظ¨ظ،]، وهم أكثر الأقوام خيانة للعهود: {أَوَ كُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْدًا نَّبَذَهُ فَرِيقٌ مِّنْهُمْ} [البقرة: 100]، وهم أشد الشعوب جراءة على الله - تعالى -: {أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً} [النساء: 153]، {قَالُوا إنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ} [آل عمران: ظ،ظ¨ظ،]، وهم أكثر أهل كتاب تعرضوا للعن أنبيائهم: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ} [المائدة: 78]، وهم أرغب بني الإنسان في إشعال الفتن والحروب {كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا لِّلْـحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا} [المائدة: 64]؛ لقد مارسوا ذلك رغم المذلة التي ضرب الله - تعالى - عليهم {ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا} [آل عمران: 112]، وحاكوه رغم أنهم أجبن الناس وأحرصهم على الحياة وأكثرهم إخلاداً إلى الأرض {لا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعًا إلاَّ فِي قُرًى مُّحَصَّنَةٍ أَوْ مِن وَرَاءِ جُدُرٍ} [الحشر: 14]، {وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ} [البقرة: 96]. تلك ملتهم وذلك ديدنهم لا يحيدون عنه؛ بل يتوارثون عبر أجيالهم هذه الأحقاد الغائرة والعداوات الراسخة: {لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِّلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا} [المائدة: 82].
وتحقيقاً من الله - تعالى - لوعده لبني صهيون بالتمكين من الإفساد في الأرض والتمكين من الاستعلاء والاستكبار سخَّر لهم عوناً ومدداً من الناس فاقتادوا العالم ومسكوا قوَّته بأيديهم[14]، وسخَّروا إمكاناته لمآربهم: {لَتُفْسِدُنَّ فِي الأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا} [الإسراء: ظ¤]، لكن وعيد الله - تعالى - لهـم لا يتخلف: {وَإذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَن يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ} [الأعراف: 167]؛ فكلما صدر منهم إفساد جسَّدوا به جبلَّتهم الفاسدة جاءت العقوبة من الله جزاءً وفاقاً: {وَإنْ عُدتُّمْ عُدْنَا} [الإسراء: ظ¨]. إن غطرسة اليهود وعيثهم في الأرض قدر مقدور؛ سواء كانت مرَّتا الإفساد المذكورتان في هذه الآية قد تحققتا، أو تحققت إحداهما والثانية هي المعيشة اليوم أو لا تزال في رحم الغيب، فإن هذه الآية قد تضمنت إشارة واضحة لقابلية اليهود لمعاودة الإفساد مرة بعد مرة كلما وجدوا فرصة سانحة لذلك؛ لِـمَا اتصفوا به من سجايا الإفساد الجبلية؛ ذلك أنهم جمعوا من ذميم الصفات وقبيح الأفعال ورذيل الخلال ما لم يضاههم فيه أحد، فضربوا أبشع الأمثلة في اعوجاج الطبائع وخبث الطوايا، ورغم بشاعة وشناعة ما نُعتُوا به فإنهم لن يأتوا بأفظع من إيذائهم لله - تعالى - وكفرهم به، وقتلهم لأنبيائه، وتحريفهم لكتبه، ونقضهم لعهوده.
ولقد كان من أهداف إيراد قصصهم وأخبارهم – في هذه السورة وغيرها من سور القرآن الكريم - بيان الفوارق بين عاقبة أهل الخير والصلاح وعاقبة أهل الإفساد والشر، وعلى ذلك تتدافع السنن الكونية لتكون العاقبة للمتقين؛ فحين كان الوحي قائد هذه الأمة وحياتها قائمة به ومنهجها مؤسساً عليه، تغلبت على جميع أعدائها بمن فيهم اليهود الذين أُجلُوا من الجزيرة وفُرضَت عليهم الجزية، وحين قلَّد المسلمون اليهود والنصارى وأعرضوا عن الوحي واتبعوا أهواءهم وأخلدوا إلى شهواتهم عادت الكرة للكفار يقدمهم وِرْد اليهود فأساموا المسلمين سوء العذاب وأذاقوهم الويلات، وما أحداث غزة عنا ببعيد، ولا يشك مؤمن أن الله - تعالى - سيسلط على بني إسرائيل من ينكِّل بهم تصديقاً لوعيده لهم، طبقاً لسنَّة لا تتخلف ولا تتبدل؛ ولكن هل سنعود إلى القرآن ومنهاج النبوة المحمدية اللذَين هما سبيل عزنا وعُدَّة نصرنا ووسيلة تمكيننا؟ متى سنرفع علم الجهاد ونظهر راية الإسلام لنتأهل ونحوز صفات العباد أُولِي البأس الشديد الذين توعد الله - تعالى - بهم اليهود؟ متى سننسلخ من عار غثائيتنا ونخرج من هاوية تولينا قَبْل أن يستبدلنا الله غيرنا عياذاً به - جل شأنه -: {َإن تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ} [محمد: 38].
من الآيات الكونية في السورة:
• يقول الله - تعالى -: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ الْـمَسْجِدِ الْـحَرَامِ إلَى الْـمَسْجِدِ الأَقْصَا الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الإسراء: ظ،]، من الأسرار التي تتراءى للمؤمن من خلال حادثتَي الإسراء والمعراج: الدفع إلى فتح القلوب المغلقَة والعقول المتحجرة لاستيعاب قدرة الله - تعالى - وخلقه للسموات والأرض وما فيهما من نُظُم ونواميس، فيستيقن قدرة الله - تعالى - ويعلم أنه هو الخالق لذلك كله المتصرف فيه بما شاء؛ فقد قدَّر حادثتي الإسراء والمعراج لتكونا بما تضمنتاه خرقاً لقانون الزمن ومألوف السرعة.
• يقول - جلت عظمته -: {وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِّتَبْتَغُوا فَضْلاً مِّن رَّبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْـحِسَابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلاً} [الإسراء: 12]، لقد أثبت العلم الحديث أن القمر الذي هو آية الليل كان كوكباً مشتعلاً؛ لكن الله - تعالى - أزال ضوءه إلا ما استمده من انعكاس أشعة الشمس التي تُعَدُّ مصدر الضوء والحرارة[15].
• يقول - جل وعلا -: {تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَوَاتُ السَّبْعُ وَالأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ وَإن مِّن شَيْءٍ إلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا} [الإسراء: ظ¤ظ¤]، تبيِّن هذه الآية أن لكل شيء حياةً خاصةً لا يعلمها إلا المبدع الخالق - سبحانه - فكل المخلوقات تسبِّح الله - تعالى - وتمجِّده وتؤلِّهه وتشهد له بالوحدانية ولو كانت مخلوقات جامدة.
الخاتمة:
لقد أكدت هذه السورة الكريمة أن في هذا القرآن كافة عوامل القيادة والسيادة، وأن المستمسكين به ينزع الله عن نفوسـهم الوهـن ويبدلهـم به إيماناً راسـخاً لا يعـرف تلكـؤاً ولا ينتابه تردُّد؛ بل يندفع صاحبه في سرعة ومبادرة مستجيباً لأمر الله - تعالى - ونهيه؛ إنه الإيمان الذي يقوم على العبودية لله وحدَه: توحيداً وإخلاصاً واحتساباً وتوكلاً، إيمان يستسلم صاحبه لشريعة الخالق خُلُقاً ومعاملة في ارتواء دائم من ينابيع القرآن، وزاخرِ بحور السُّنة المطهرة؛ بهذا المنهج تدب الحياة في هذه الأمة المباركة من جديد، فيقود الوحي زمامها من غير اسـتعجال للنتـائج أو تجاوز لسـنن الله - تعالى - بإيمانها لتسير تحت رايته بخطى ثابتة تراعي الظروف وتأخذ بالأسباب: {وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِّتَبْتَغُوا فَضْلاً مِّن رَّبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْـحِسَابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلاً} [الإسراء: 12]، يحدوها ذلك الإيمان الذي لا يتسلل إلى نفس صاحبه الانزلاق في أتون الترف والفسوق اللذين هما الخطوة الأولى في درك الفساد والتردي إلى الزوال والاندثار: {وَإذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا} [الإسراء: 16][16].
لقد صاغت هذه السورة وصايا عظيمة جمعت كل وسائل العصمة من الزلل، وشملت كافة مقومات الاهتداء إلى الرشاد؛ استهلتها بالتوحيد الخالص وختمتها به، لارتباط كمال الاستقامة به، ونسج حزام النجاة من أهدابه. وصايا حازت أعدل الأحكام وأوضح الحِكَم؛ فالتوحيد هو الذي يجعل رابطة الناس بربهم شديدة، وصِلَتهم به وثيقة، وتعلُّقهم به كاملاً، فيعلمون أنه - تعالى - خلق الخلق وحدَه ليعبدوه ويألهوه بلا إشراك، ويوحدوه ويمتثلوا أوامره ويجتنبوا نواهيه، وهو وحده العالم بما يصلحهم، وهو وحده مسبغ النعم الظاهرة والباطنة، وهو وحده من يستمد منه سلطان الحق صدقاً وثباتاً، وهو وحده الذي يدحر الباطل ويزهقه، وهو وحده الموفِّق لعباده المؤمنين إلى الإحسان في المعاملة والتلطف في القول والسداد في الدعوة حتى تصير الكلمة الطيبة شعارهم: {وَقُل لِّعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إنَّ الشَّيْطَانَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ إنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلإنسَانِ عَدُوًّا مُّبيِنًا} [الإسراء: 53]. ويعتقدون أنه لا كاشف للضر إلا الله وحده ولا نافع سواه ولا راد لقضائه؛ فكل ما سواه مربوب مقهور خاضع لجبروته وسلطانه: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُم مِّن دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنكُمْ وَلا تَحْوِيلاً 56 أُوْلَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا} [الإسراء: 56 - 57]، فيعبدونه وهم موقنون أنه وحده من حبا البشر بالتكريم وأفاض عليهم من سوابغ نعمه من بين سائر مخلوقاته؛ فكرَّمهم في هيئتهم ونطقهم، وكرَّمهم بفطرتهم، وكرَّمهم باستعداداتهم وميولهم، وكرَّمهم بمسؤوليتهم عن أنفسهم؛ فجعلهم مكرمين مشرَّفين إن أعزوا أنفسهم بالانقياد لأمره، مهانين حقيرين إن أذلوها بالإعراض عن الهدى وارتموا في أحضان بهيميتهم: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً 70 يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ بِإمَامِهِمْ فَمَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُوْلَئِكَ يَقْرَءُونَ كِتَابَهُمْ وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلاً 71 وَمَن كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلاً} [الإسراء: 70 - 72].
على الرغم من أن المشركين وقفوا مشدوهين أمام هذا القرآن عاجزين عن الإتيان بما يشبه الآية الواحدة منه فإنَّ تبلُّد الإحساس عندهم جعلهم يتجاوزون إعجازه المتجسد في شمولية منهجه وبلاغة نُظُمه وجمال أسلوبه - وهم أهل الفصاحة والبيان - إلى تلمُّس خوارق مادية تافهة، متشبثين بعقيدة فاسدة، وتصور منحرف بنوه على فكرة خاطئة مقتضاها أن الرسول لا ينبغي أن يكون من جنس البشر، متجاهلين أن الخيرة بيد من له الخلق والأمر وحده يسبغها على من يشاء من خلقه: {قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإنسُ وَالْـجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا ظ¨ظ¨ وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِن كُلِّ مَثَلٍ فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إلاَّ كُفُورًا 89 وَقَالُوا لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأَرْضِ يَنْبُوعًا 90 أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِّن نَّخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الأَنْهَارَ خِلالَهَا تَفْجِيرًا 91 أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْـمَلائِكَةِ قَبِيلاً} [الإسراء: ظ¨ظ¨ - 92]، ومتناسين أنه ما بعد الآيات المادية إلا الإيمان أو الهلاك: {وَمَا نُرْسِلُ بِالآيَاتِ إلاَّ تَخْوِيفًا} [الإسراء: 59].
لقد نوهت هذه السورة في ختامها بذلك الجمهور العريض من أهل الكتاب الذين بادروا إلى الدخول في الإسلام فور سماعهم لهذا القرآن فاستقبلوه بقلوب مفتوحة لهدايته، ونفوس قد حازت من العلم ما عرفت به قيمته وطبيعته[17]، فأذعنت في خشوع وآمنت في استسلام: {قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لا تُؤْمِنُوا إنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِن قَبْلِهِ إذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ سُجَّدًا 107 وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إن كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَـمَفْعُولاً 108 وَيَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا} [الإسراء: 107 - 109].
ومجمل القول في هذه السورة: إنها اشتملت على كثير من التوجيه والتسديد والأخبار المسلية للرسول صلى الله عليه وسلم وأتباعه من بعده، وأنه لم يكن بدعاً من الرسل في تعرُّضه للإعراض والأذية كما لم تكن أمته في ذلك بدعاً من الأمم؛ فما أُرسِل رسول ولا اهتدت أمة إلا وتعرضت للاستهزاء والابتلاء والتكذيب؛ لكن نصر الله - تعالى - ما يلبث أن يأتيهم فتكونَ لهم العاقبة، ولمخالفيهم الخسران والبوار، إن ثبتوا على الحق، ولم تُغوِهم عنه المغريات، ولم تُزحهُم عنه الزوابع؛ فَحَمَلة الحق عرضة لظلم الجبابرة واضطهاد الطغاة وهدفاً لأطماع المناوئين والمنافقين والمخلِدين إلى الأرض، ولكن وعد الله لهم بالنصر والتمكين والاستخلاف قائم ما استمسكوا بالحق وثبتوا عليه وانتهجوه في نفوسهم وسَعَوا إلى إقامته في الخلق {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِـحُونَ} [الأنبياء: 105].
[1] جاء في صحيح البخاري، كتاب التفسير، سورة بني إسرائيل (الإسراء)، باب: عن ابن مسعود - رضي الله عنه - قال في بني إسرائيل والكهف ومريم: إنهن من العتاق الأُوَل. [2] الإتقان في علوم القرآن (1/ 60)، غير أنه باستثناء الآية الأولى ذكرها تقع بقية الآيات موقع اختلاف كبير من حيث مكيَّتها ومدنيَّتها؛ بل منها ما تترجح مكيَّته؛ كما هو الشأن بالنسبة لقوله - تعالى -: {وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إلاَّ فِتْنَةً لِّلنَّاسِ } [الإسراء: 60].
[3] أخرجه الإمام الترمذي (3405)، وصححه الألباني في تعليقه عليه، وفي سلسلته الصحيحة (641).
[4] أخرجه الإمام أحمد في مسنده (17023) وعلَّق عليه شعيب الأرنؤوط بقوله: «إسناده حسن».
[5] أخرجه البخاري، كتاب أحاديث الأنبياء، باب، ح (3366). ورواه مسلم، كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب ابتناء مسجد النبي صلى الله عليه وسلم، ح (520).
[6] التحرير والتنوير: (14، 14).
[7] انظر : المصباح المنير لصفي الرحمن، ص : 618.
[8] انظر: تيسير الكريم الرحمن، ص : 466 - 467.
[9] انظر: في ظلال القرآن: (4/ 2222 - 2226).
[10] انظر: نحو تفسير موضوعي لسور القرآن الكريم، ص : (220 - 222).
[11] انظر: في ظلال القرآن: (4/ 2251 - 2253).
[12] أضواء البيان: (3/ 272).
[13] انظر : أضواء البيان: (3/ 574).
[14] انظر: مجلة البيان، العدد 180، ص 68.
[15] انظر الموسوعة الكونية الكبرى، ص : 490.
[16] نحو تفسير موضوعي لسور القرآن الكريم، ص : (223 - 227).
[17] انظر : في ظلال القرآن: (4/ 2254).