عرض مشاركة واحدة
  #3  
قديم 23-01-2020, 02:03 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 161,201
الدولة : Egypt
افتراضي رد: نحو رؤية أصولية للواقع الدعوي المعاصر


نحو رؤية أصولية للواقع الدعوي المعاصر (1)



د. فارس العزاوي




لكن ما هو المقصود بتحقيق المناط؟
وللجواب على هذا التساؤل يلزمنا أن نقف على أقسام الاجتهاد من حيث علة الحكم وتعلقه به بحكم كون تحقيق المناط من أقسامه.

والاجتهاد من هذه الحيثية ثلاثة أقسام:
الأول: تخريج المناط:
يقصد بتخريج المناط استخراج وصف مناسب يحكم عليه بأنه علة ذلك الحكم[32]، قال الطوفي في شرح مختصر الروضة: " التخريج: هو الاستخراج والاستنباط، وهو إضافة حكم لم يتعرض الشرع لعلته إلى وصف مناسب في نظر المجتهد بالسبر والتقسيم.. نحو: حرمت الخمر لإسكارها؛ لأنه الوصف المناسب لتحريمها، فالنبيذ حرام؛ لوجود الإسكار فيه، وحرم الربا في البر؛ لأنه مكيل جنس أو مطعوم جنس، فالأرز مثله، ويسمى تخريج المناط؛ لما ذكرناه من أنه استخراج علة الحكم بالاجتهاد..

وتحرير الكلام هاهنا أنا إذا رأينا الشارع قد نص على حكم ولم يتعرض لعلته، قلنا: هذا حكم حادث لا بد له بحق الأصل من سبب حادث، فيجتهد المجتهد في استخراج ذلك السبب من محل الحكم، فإذا ظفر بوصف مناسب له، واجتهد ولم يجد غيره، غلب على ظنه أن ذلك الوصف هو سبب ذلك الحكم "[33].

الثاني: تنقيح المناط:
يراد بتنقيح المناط عند الأصوليين تهذيب علة الحكم، وقد ذهب الأصوليون في بيانه تعريفات متعددة، وهي وإن اختلفت في ألفاظها إلا أن مؤداها واحد، فالبيضاوي يرى أن تنقيح المناط عبارة عن إلغاء الفارق، والإسنوي يرى أن تنقيح مناط العلة أن يبين المستدل إلغاء الفارق بين الأصل والفرع، وحينئذ يلزم اشتراكهما في الحكم، وهذا المسلك ذهب إليه كثير من الأصوليين.

وأما المسلك الآخر فقد ذهب الآمدي إلى أن تنقيح المناط هو النظر والاجتهاد في تعيين ما دل النص على كونه علة من غير تعيين بحذف ما لا مدخل له في الاعتبار مما اقترن به من الأوصاف كل واحد بطريقة، وهذا يعني أن حاصل تنقيح المناط بمسلكيه المذكورين يرجع إلى الاجتهاد في حذف بعض الأوصاف وعدم اعتبارها، وتعيين البعض الآخر المستفاد ممن نص على الحذف في تعريفه لتنقيح المناط[34].

ومثاله الذي اعتاد الأصوليون التمثيل به ما أخرجه البخاري في صحيحه عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قوله: بينما نحن جلوس عند - صلى الله عليه وسلم، إذ جاءه أعرابي فقال: يا رسول الله، هلكت. قال: ((ما لك)). قال: وقعت على امرأتي وأنا صائم، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((هل تجد رقبة تعتقها؟)). قال: لا. قال: ((فهل تستطيع أن تصوم شهرين متتابعين؟)). قال: لا. فقال: ((فهل تجد إطعام ستين مسكينًا؟)). قال: لا. قال: فمكث النبي - صلى الله عليه وسلم، فبينا نحن على ذلك أُتي النبي - صلى الله عليه وسلم - بعرق فيه تمر، والعرق المكتل، قال: ((أين السائل؟)). فقال: أنا. قال: ((خذ هذا فتصدق به)). فقال الرجل: أعلى أفقر مني يا رسول الله؟ فوالله ما بين لابتيها، يريد الحرتين، أهل بيت أفقر من أهل بيتي. فضحك النبي - صلى الله عليه وسلم - حتى بدت أنيابه ثم قال: ((أطعمه أهلك))[35].

والطريقة التي يسلكها الأصوليون في هذا المثال هي أن المجتهد قد عرف من خلال علمه بالشريعة أن مناط الحكم - أي علة وجوب الكفارة على ذلك الأعرابي - هو وقاع مكلف في نهار رمضان، وعرف أن الحكم مضاف إلى هذه العلة - أي سبب وجوب الكفارة، واقترن بذلك بعض الأوصاف، وقد عرف المجتهد باجتهاده أنها لا مدخل لها في العلية؛ لعدم صلاحيتها للتعليل، وهي:
أولاً: كون الآتي موصوفاً بأنها أعرابي.

ثانياً: كونه قد وطأ في رمضان من الرمضانات التي عاشها النبي - صلى الله عليه وسلم -.ثالثاً: كونه قد وطأ امرأته.وبناء على أن مناط الحكم هو وقاع مكلف في نهار رمضان، ظهر للمجتهد أن هذه الأوصاف لا أثر لها في الحكم؛ لعدم مناسبتها للتعليل بها[36].

الثالث: تحقيق المناط:
يعرف تحقيق المناط تعريفين، الأول: أن تكون القاعدة الكلية متفقاً عليها أو منصوصاً عليها، ويجتهد في تحقيقها في الفرع، وهذا لا خلاف فيه، والثاني: ما عرف علة الحكم فيه بنص أو إجماع، فيبين المجتهد وجودها في الفرع باجتهاده وهذا يتعلق بباب القياس، أما الأول فلا دخل له بباب القياس؛ لأنه متفق عليه، وهذا من ضرورة كل شريعة، وأما القياس فإنه مختلف فيه[37].

ويزيد الشاطبي هذا الأمر وضوحاً فيقول: "الاجتهاد على ضربين: أحدهما: لا يمكن أن ينقطع حتى ينقطع أصل التكليف، وذلك عند قيام الساعة.والثاني: يمكن أن ينقطع قبل فناء الدنيا.فأما الأول: فهو الاجتهاد المتعلق بتحقيق المناط، وهو الذي لا خلاف بين الأمة في قبوله، ومعناه أن يثبت الحكم بمدركه الشرعي، لكن يبقى النظر في تعيين محله، وذلك أن الشارع إذا قال: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} [38].

وثبت عندنا معنى العدالة شرعاً افتقرنا إلى تعيين من حصلت فيه هذه الصفة، وليس الناس في وصف العدالة على حد سواء، بل ذلك يختلف اختلافاً متبايناً، فإنا إذا تأملنا العدول وجدنا لاتصافهم بها طرفين وواسطة: طرف أعلى من العدالة لا إشكال فيه، كأبي بكر الصديق.وطرف آخر: وهو أول درجة في الخروج عن مقتضى الوصف، كالمجاوز لمرتبة الكفر إلى الحكم بمجرد الإسلام، فضلاً عن مرتكبي الكبائر المحدودين فيها، وبينهما مراتب لا تنحصر، وهذا الوسط غامض، لا بد فيه من بلوغ حد الوسع، وهو الاجتهاد "[39].

وتحقيق المناط بهذا المعنى عند النظر المحقق إليه يظهر لنا أنه لا يخص العلماء المجتهدين بل يشارك فيه غير المجتهد من بقية الأصناف كطالب العلم والداعية بل نص الشاطبي على أن العامي له اجتهاده في هذا النوع، والمثال الذي ضربه يظهر لنا حقيقة ذلك، ووجهه أن العدالة بعد أن قررت النصوص الشرعية أوصافها احتيج إلى تنزيلها على الواقع بين المعينين، وهذا التنزيل لا يحتاج إلى نظر شرعي واجتهاد وقياس، بل يكفي التحقق من وجود هذه الأوصاف في المعين، ألا ترى أن المرء يسأل عن غيره ممن يعرفه في شأن ما فإنه يستطيع توصيفه بما يثبت عدالته أو نفيها دون أن تكون لدية الملكة الفقهية أو الشرعية، ولذلك يقول الشاطبي في هذا السياق بعد أن بين حاجة كل ناظر وحاكم ومفت إلى هذا النوع من الاجتهاد: "بل بالنسبة إلى كل مكلف في نفسه، فإن العامي إذا سمع في الفقه أن الزيادة الفعلية في الصلاة سهواً من غير جنس أفعال الصلاة أو من جنسها إن كانت يسيرة فمغتفرة، وإن كانت كثيرة فلا، فوقعت له في صلاته زيادة، فلا بد له من النظر فيها حتى يردها إلى أحد القسمين، ولا يكون ذلك إلا باجتهاد ونظر، فإذا تعين له قسمها تحقق له مناط الحكم فأجراه عليه.وكذلك سائر تكليفاته..وقد يكون ذلك سهلاً وقد لا يكون، وكله اجتهاد"[40].

فثبت أن هذا الاجتهاد يشترك فيه المجتهد وغيره بحسب حاله من جهة العلم وبحسب الواقعة المجتهد فيها، ولعل من الأمثلة التي تدل على تحقيق المناط بهذا المعنى بالإضافة إلى ما تقدم الحديث عنه حول عدالة الشهود: الاجتهاد في استقبال القبلة بالدلائل فهذا ليس محصوراً بمراتب المجتهدين ممن تقدمت أوصافهم بل يشاركهم في ذلك أيضاً من هو دونهم في مرتبة العلم والدعوة، فيستطيع التحقق من القبلة وإن كان يوصف بكونه مقلداً، ومثل ذلك الوصية للفقراء، فالوصية بعد معرفة عوارضها الشرعية وأحكامها التكليفية ينظر في الواقع لتحقق وصف الفقر في المعينين، وهذا شأن من يعرف التمييز بين الغني والفقير، ويعتبر العرف حاكماً في هذه القضية، فينظر المجتهد أياً كان وصفه في تحقيق مناطه.

ومن أجل الاقتراب أكثر من موضوع بحثنا فإن الاجتهاد في هذا الإطار يظهر جلياً في وسائل الدعوة إلى الله وأساليبها، حيث يسع المجتهدين وغيرهم الاجتهاد في الابتكار والاختراع لكل وسيلة وسبيل يصب في مصلحة الدعوة؛ ذلك أن وسائل الدعوة على الراجح توفيقية اجتهادية وليست توقيفية، طالما أنها كانت منضبطة بالضوابط الشرعية التي وضعها العلماء[41].

وهي داخلة من حيث الجملة في قاعدة: الوسائل لها أحكام المقاصد، والحق أن فتح المجال أمام الاجتهاد الدعوي يفضي إلى تحقيق مصالح عظيمة، إذ يمثل هذا الاجتهاد الطريق لتجديد الفقه، والسبيل لعلاج المستجدات الدعوية، من خلال النظر في القواعد الفقهية والأصولية مثل: قاعدة لا ضرر ولا ضرار، والمشقة تجلب التيسير، وقاعدة سد الذرائع، واعتبار المآلات، وغيرها، لكن يبقى النظر فيما قلنا سابقاً إن أرباب الصورة الثالثة لهم أن يجتهدوا في تحقيق المناط العام أو الخاص، وهو تقرير مشكل لدى قارئه أو المطلع عليه، ولنا أن نقف في هذا السياق على ما قرره الشاطبي في موافقاته إذ يقول: " تحقيق المناط على قسمين: تحقيق عام، وهو ما ذكر، وتحقيق خاص من ذلك العام.

وذلك أن الأول نظر في تعيين المناط من حيث هو لمكلف ما، فإذا نظر المجتهد في العدالة مثلاً ووجد هذا الشخص متصفاً بها على حسب ما ظهر له، أوقع عليه ما يقتضيه النص من التكاليف المنوطة بالعدول، من الشهادات والانتصاب للولايات العامة أو الخاصة، وهكذا إذا نظر في الأوامر والنواهي الندبية، والأمور الإباحية، ووجد المكلفين والمخاطبين على الجملة، أوقع عليهم أحكام تلك النصوص، كما يوقع عليهم نصوص الواجبات والمحرمات من غير التفات إلى شيء، غير القبول المشروط بالتهيئة الظاهرة، فالمكلفون كلهم في أحكام تلك النصوص على سواء في هذا النظر.أما الثاني: وهو النظر الخاص فأعلى من هذا وأدق، وهو في الحقيقة ناشئ عن نتيجة التقوى..

وعلى الجملة: فتحقيق المناط الخاص نظر في كل مكلف بالنسبة إلى ما وقع عليه من الدلائل التكليفية، بحيث يتعرف منه مداخل الشيطان ومداخل الهوى والحظوظ العاجلة، حتى يلقيها هذا المجتهد على ذلك المكلف مقيدة بقيود التحرز من تلك المداخل..."[42].



ـــــــــــــــــ
[1] ص، آية 29.
[2] النساء، آية 83.
[3] تفسير التحرير والتنوير، محمد الطاهر ابن عاشور، ج5ص140.
[4] الأنبياء، آية 7.
[5] التوبة، آية 122.
[6] الأنفال، آية 46.
[7] تفسير المنار، محمد رشيد رضا، ج10ص28.
[8] ترتيب المدارك وتقريب المسالك لمعرفة مذهب مالك، القاضي عياض، ج1ص95.
[9] يوسف، آية 108.
[10] فصلت، آية 33.
[11] تفسير القاسمي، محمد جمال الدين القاسمي، ج8ص338.
[12] مقدمات للنهوض بالعمل الدعوي، د.عبد الكريم بكار، ص7.
[13] كيف ندعو الناس؟، محمد قطب، ص5.
[14] أخرجه أبو داود، أول كتاب الملاحم، باب في تداعي الأمم على أهل الإسلام، رقم 4297.
[15] أساليب الدعوة الإسلامية المعاصرة، حمد بن ناصر العمار، ص7.
[16] البحر المحيط في أصول الفقه، بدر الدين محمد بن بهادر الزركشي، ج6ص197.
[17] المستصفى من علم الأصول، أبو حامد الغزالي، ج4ص5.
[18] الإحكام في أصول الأحكام، علي بن محمد الآمدي، ج4ص198.وقريب منها في كتابه: منتهى السول في علم الأصول، ص246.
[19] الموافقات، أبو إسحاق الشاطبي، ص734.
[20] المستصفى، مرجع سابق، ج4ص6، المحصول في علم أصول الفقه، فخر الدين الرازي، ج6ص24، البحر المحيط في أصول الفقه، مرجع سابق، ج6ص199، روضة الناظر وجنة المناظر، ابن قدامة المقدسي، ص352، الجامع لمسائل أصول الفقه، د.عبد الكريم بن علي النملة، ص399.
[21] أصول الفقه الإسلامي، د.وهبة الزحيلي، ص1079.
[22] الفتوى: نشأتها وتطورها ـ أصولها وتطبيقاتها، د.حسين محمد الملاح، ج1ص340-342.
[23] أصول الفقه الإسلامي، د.وهبة الزحيلي، مرجع سابق، ص1079 فما بعدها، الاجتهاد وأنواع المجتهدين، د.محمد حسن هيتو، مجلة الشريعة والدراسات الإسلامية، كلية الشريعة والدراسات الإسلامية، جامعة الكويت، العدد الرابع، 1406هـ/1985م.وانظر تقسيماً لمراتب المجتهدين كذلك في المجموع للنووي ج1ص642، وإعلام الموقعين لابن القيم ج4ص212، وقد جعلها مراتب للمفتين.
[24] فقه النفس هو أن يبلغ الإنسان مرحلة من الفهم للنصوص، ودفة الاستنباط منها، وحضور البديهة فيها، والقدرة على التمييز بين المتشابه من الفروع، بإبداء الفروق والموانع، والجمع بينها بالعلل والأشباه والنظائر، بحيث تصبح هذه الأمور ملكة قائمة في نفسه، لا يحتاج معها إلى جهد في الوصول إليها.
انظر: الاجتهاد وأنواع المجتهدين، مرجع سابق، ص229.

[25] المجموع شرح المهذب، محي الدين النووي، ج1ص646.
[26] المرجع السابق، ج1ص647.
[27] إتحاف ذوي البصائر بشرح روضة الناظر، د.عبد الكريم بن علي النملة، ج8ص30.
[28] شرح الكوكب المنير، ابن النجار الفتوحي، ج4ص473.
[29] إعلام الموقعين عن رب العالمين، مرجع سابق، ج4ص216.
[30] إعلام الموقعين عن رب العالمين، مرجع سابق، ج1ص87-88.
[31] الاجتهاد في الشريعة الإسلامية مع نظرات تحليلية في الاجتهاد المعاصر، د.يوسف القرضاوي، ص137.
[32] شرح الكوكب المنير، مرجع سابق، ج4ص202.
[33] شرح مختصر الروضة، نجم الدين الطوفي، ج3ص242.
[34] مباحث العلة في القياس عند الأصوليين، د.عبد الحكيم عبد الرحمن السعدي، ص508.
[35] أخرجه البخاري، كتاب الصوم، باب إذا جامع في رمضان ولم يكن له شيء فتصدق عليه فليكفر، رقم 1834.
[36] إتحاف ذوي البصائر بشرح روضة الناظر، مرجع سابق، ج7ص53.
[37] روضة الناظر، مرجع سابق، ص277.
[38] الطلاق، آية 2.
[39] الموافقات، مرجع سابق، ص725.
[40] المرجع السابق، ص726.
[41] الوسائل وأحكامها في الشريعة الإسلامية، د.عبد الله التهامي، مجلة البيان، العدد 106، 1417هـ/1996م، ص8.
[42] الموافقات، مرجع سابق، ص727.




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 27.82 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 27.19 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (2.26%)]